هاجر بناصر.. المخرجة النابشة في الذاكرة التونسية

د. الحبيب ناصري      

“الكاميرا والمرأة” لفظتان تُحيلان منذ البدء على تمرد ثقافي جميل على كل الأشكال التي جعلت الكاميرا من نصيب الرجل فقط. فعادة ما بُني مخيالنا العربي على كون الكاميرا دوما في قبضة الرجل سواء على مستوى التصوير أو الإخراج أو المونتاج، لكن خلخلة العديد من البُنى الثقافية في مجتمعاتنا العربية على وجه الخصوص ساهم في جذب المرأة العربية كي تقول قولها بلغة الصورة، مما جعلها تختار طريق التكوين العلمي والمهني في جانب من جوانب ثقافة الصورة المتعددة (فيلم روائي أو وثائقي أو روبرتاج أو فوتوغرافيا)، وهو تكوين ساهم في مدّ المشهد السمعي البصري في بلادنا العربية الجريحة والمثقلة بالعديد من الهموم بإبداعات بصرية نسائية جميلة وفاعلة فعلها، وذلك حدّ فوزها بالعديد من الجوائز العربية وغير العربية.

في هذه المقالة ننبش في مسار نسائي تونسي جميل يتعلق بالمخرجة هاجر بناصر، التي تمكنت من توقيع العديد من الأفلام الوثائقية التي غرفت من الذاكرة التونسية التاريخية أو العربية أو من قصص إنسانية عديدة، مما جعلها اسما يتردد في قنوات تلفزيونية تونسية وعربية (مثل قناة الجزيرة الوثائقية التي أنتجت لها العديد من الأفلام)، بل بعض أعمالها تجاوز حدودنا العربية نحو فضاءات غربية ثقافية إعلامية، وهو ما دفعنا إلى هذه الالتفاتة في أفق تقريب بعض أعمالها للقارئ الكريم.

 

1/هوية بصرية

تمكنت المخرجة التونسية هاجر بناصر وبعد حصولها على الأستاذية في الصحافة وعلوم الاتصال أن تختار لها موقع قدم، وبالضبط في مجال الكتابة والإخراج الفيلمي الوثائقي. فما عطاءاتها في هذا المجال؟ وهل من الممكن أن نستخرج بعض الخصائص المميزة لمسيرتها الفيلمية الوثائقية من خلال قراءتنا في أعمالها الوثائقية؟

سؤالان نعتبرهما مدخلا لأي ناقد أو باحث يرغب في التقرب من تجربة نسائية تونسية عربية، من خلال هذا المثال أو النموذج الذي سنفكك بعض عناصره وفق الهدف المحدد في هذا المقال.

تشريح للماضي

من يقترب من تاريخ بلده أو تاريخ وطنه العربي أو الإنساني، ومن خلال الكتابة الفيلمية الوثائقية والإخراجية فهذا معناه أنه يرغب بالعودة إلى الماضي، وذلك ليس من موقع بكائي أو موقع التمجيد المطلق غير العلمي، لكن العودة إلى التاريخ في مثل هذه الحالة التي سنفكك بعض عناصرها في أعمال هذه المخرجة هي عودة غايتها تشريح الماضي، وذلك في أفق استلهام مجموعة من العناصر المفيدة للذات وهي تبحث وتتلمس طريق التقدم.

في هذا الشقّ المتعلق برؤيتها للتاريخ من الممكن تقديم مثالين مفيدين ومساعدين لفهم كيفية اشتغالها على هذا الموضوع الذي يهمّ ليس فقط بلدها تونس الذي مرّ بمراحل تاريخية متعددة بحكم موقعه الجغرافي والثقافي، بل نكاد نشم رائحة تاريخنا المغاربي والعربي والإنساني كله في طبيعة رؤيتها ومعالجتها لما تنبش فيه هنا.

 

“الفلاقة”.. رحلة في ذاكرة تونسية

فكرة فيلم “الفلاقة” بجزأيه من إنتاج قناة الجزيرة الوثائقية (92 دقيقة، إنتاج 2019) مبنية على الرغبة في إعادة كتابة جزء أساسي من تاريخ تونس، لا سيما والفيلم هنا ينطلق من سنة 1881 ويستمر إلى فترة ستينيات القرن العشرين، وهي فترة زمنية تُقاس بالعشرات من السنين، وهي فترة من الصعب أن نجدها كما هي في كتب التاريخ الرسمي.

من هنا تأتي قيمة إعادة كتابة تاريخنا العربي ككل وفق رؤى حديثة تنتصر فيها لمن هُمّش ولم يُذكر، بل لمن ساهم في صنع المجد الشعبي الحقيقي، لكن بعد الاستقلال تم التنكر لهذه الفئات الشعبية التي قاومت الاستعمار ورسخت قيمة الوطن بمفهومه الشعبي الإنساني.

“الفلاقة” هي فئات شعبية تونسية مقاومة حضرت هنا على امتداد هذا الزمن الفيلمي الوثائقي انطلاقا من أرشيف بصري غني، ومن خلال إعادة تمثيل العديد من الأحداث، وأيضا من خلال الشهادات التي قدمت في حقهم من لدن باحثين ومختصين في مجال التاريخ وغيره.

أن تعود امرأة تونسية تشبعت بثقافة الفيلم الوثائقي وتملك لغات القول البصرية القوية والدالة، فهذا معناه أن المنتجة مدركة لطبيعة ما يجري في بلدها تونس.

إمكانيات بحثية وتصويرية وبشرية ولوجستيكية وأرشيفية خُصصت لهذا العمل الوثائقي، والذي أخرجته إيمانا منها بفكرة إعادة الاعتبار لفئات عريضة من مجتمعاتنا العربية، سواء تعلق الأمر بمن قاوم الاستعمار أو بمن كتب وأبدع واعتقل ولم ينل حظه من التعريف.

“الفلاقة” هو رحلة في ذاكرة زمنية تاريخية تونسية خصبة كجزء لا يتجزأ من الوطن العربي الذي “تفنن” الآخر ومن يسير على نهجه في تشويه العديد من الحقائق التاريخية، بل نجد البعض منهم قد تخصص في ترسيخ وقلب العديد من القيم، وذلك في أفق كتابة تاريخ غير مهتم بالهوامش الزمكانية والشعبية، مما جعلنا تحت رحمة رؤية واحدة مهيمنة في معظم ما نقرأ ونتعلم في مدارسنا، أقصد كتابة تاريخ أحادي كتبه العديد من المؤرخين وبنية معروفة مسبقة، أي ربط الانتصارات وفق الرواية الرسمية بالبطل الأحادي دون الغوص في العديد من الجوانب الشعبية لفئات عريضة من الوطن، والمثال هنا في تونس يتعلق بالفلاقة.

العودة إلى هذه الفئة الشعبية المهمشة ومحاولة كشف الغبار عنها وجعلها تتمركز في القطب التاريخي التونسي؛ معناه أن لا حركة نحو المستقبل دون رؤية حقيقية للذات في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، بل من الصعب بناء تاريخ تونس المستقبلي الحداثي والتقدمي والتطويري دون إعادة الكلمة لمن قاوم عشرات السنين، وكتب ملاحم شعبية لم يلتفت إليها من كتب تاريخ تونس الحديث من زاوية رسمية واحدة.

 

“الطاهر الحداد”.. رائد الإصلاح

ينبش المثال الثاني في فترات منيرة من الفكر التونسي، والمثال هنا مرتبط بشخصية فكرية إصلاحية تتعلق بـ”الطاهر الحداد رائد الإصلاح” (2015). وهو فيلم وثائقي (36 دقيقة) غايته حاجة مطروحة في المجتمع التونسي الذي عاش ولا يزال مجموعة من التحولات تعود في عمقها إلى ثورة الشعب التونسي، ومن ثم طرح العديد من الأسئلة عن المستقبل التونسي وفق سؤال طرح ولا يزال: كيف من الممكن بناء مستقبل تونسي مفيد للجميع؟

سؤال تمت مقاربته من زوايا سياسية متعددة بعضها مرهون بالرؤية الدينية، والبعض الآخر بالرؤية الفكرية العلمانية، مما جعل من الساحة التونسية ساحة خصبة على مستوى النقاش الفكري السياسي إلى حد اعتبارها من الساحات الفكرية المتقدمة جدا، وذلك بالمقارنة مع ساحات فكرية أخرى تهيمن فيها الرؤى الواحدة والوحيدة.

العودة إلى الطاهر الحداد هي عودة لها مبرراتها التاريخية في تونس وحتى خارجه، أي أن فكرة الفيلم هنا تأتي في سياقات تتعلق بسؤال الإصلاح، وهو السؤال الصعب والمعقد بعد خلخلة النظام السياسي السابق، وبعد أن قدّم الراحل الشهيد البوعزيزي جسده قربانا لشعب تونس المحب للحياة، وكردّ فعل على لطمة نسائية بوليسية.

ونحن نتتبع فيلم الطاهر الحداد كرائد للإصلاح نستنبط مدى رغبة المخرجة في إيصال خطابها القائل -وبلغة الصورة وبشكل مُضمر أحيانا- إن الإصلاح فكر وبناء، ومن ثم لا بدّ من أن يقع أي فعل إصلاحي ضمن نسقيّة تعي ما قدم سابقا وما ينبغي التفكير فيه حاليا ولاحقا.

 

“ذاكرة في خطر”.. فضيحة بيع الآثار

في حقيقة الأمر ونحن نشاهد ما أنجز في هذا الجانب التاريخي فإننا من الممكن استخلاص بنية دالة في أعمالها؛ وهي انتصارها الدائم للقيم الوطنية والفكرية الحيّة المتنورة، بل ومن خلال أفلام وثائقية مثل فيلم “ذاكرة في خطر” وهو فيلم أنتج سنة 2017 (52 دقيقة)، ويندرج ضمن فضح بيع الآثار التونسية التي تعود إلى عهد الفترة الرومانية وغيرها، وذلك ضمن وضع سياسي سابق انتفع بمثل هذه التجارة، مما جعل الفيلم يكتسب صبغة استقصائية قوية لا سيما وأن من شارك فيه شاهد وحاك لكيفية بيع جزء من هذه الذاكرة التونسية الخصبة بحثا عن المال، ودون وعي بقيمتها التاريخية الوطنية والإنسانية، بل حتى وهي تنبش في ذاكرة بعض الرموز الفكرية مثل سيرة العلامة “ابن خلدون” (82 دقيقة)، فهي دوما تنتصر للشق التاريخي المتنور والمفيد والمقدم لأجوبة تخص الحاضر والمستقبل التونسي.

من هنا تبرز شرعية وقيمة مثل هذه الأعمال التي عُرضت في العديد من المهرجانات والدول والقنوات العربية والأجنبية، مما يساهم أيضا في تقديم رؤية تاريخية عربية أيضا عن ذاتنا العربية -لا سيما وتونس جزء خصب منها- لهذا العالم الذي هو اليوم لا يتلقى إلا صورة جريحة ومهزوزة عن عالمنا العربي الذي يعيش اليوم صورة مخلخلة تطمس العديد من مشاركاته المتعددة في بناء حضارة إنسانية عالمية.

 

2/المرأة.. نبش في الذاكرة

بجانب العينة التاريخية التي قدمناها كمثال على وعيها بتاريخ بلدها وقيمته وقدرته على المساهمة في تقديم أجوبة نافعة لحاضرها ومستقبلها، نقدم هنا في هذا الشق بعض الأفلام الوثائقية الممثلة لطبيعة تمثلاتها لقضية المرأة التونسية بشكل خاص والمرأة العربية بشكل عام. فكيف أحضرت هاجر بناصر المرأة في أعمالها الوثائقية، وهل كان لها نصيب ما؟

عديدة هي الأفلام التي أخرجتها هاجر عن المرأة، وذلك إيمانا منها ضمن بحثها عن أجوبة مفيدة لواقعها بكون المرأة عنصرا فعالا في تحقيق أي ثورة حقيقية ضد التخلف والقهر الاجتماعي.

من الممكن المبادرة بالقول ونحن نتتبع أفلامها الخاصة أو المتمحورة حول المرأة إن هاجر بناصر هنا مسكونة بقضية النساء التونسيات، فهي واعية بقيمتهن ومدى تهميشهن عبر التاريخ، مما يستوجب النبش سواء على مستوى ذاكرتهن التاريخية، أي اللواتي بصمن حياة تونس في الماضي ولم ينلن الاعتراف، أو اللواتي ما زلن على قيد الحياة ويناضلن من مواقع تونسية مختلفة. وضمن هذا الجانب الخاص بنظرتها للمرأة نقدم النماذج التالية:

عزيزة عثمانة هي امرأة عُرفت بتحريرها للعبيد وتفرغها لخدمة الفقراء والمحتاجين
عزيزة عثمانة امرأة عُرفت بتحريرها للعبيد وتفرغها لخدمة الفقراء والمحتاجين

 

“عزيزة عثمانة”.. أميرة الفقراء

عام 2018 وعلى امتداد 26 دقيقة نبشت هذه المنتجة في حياة امرأة تونسية من أصول تركية وُلدت في النصف الأول من القرن السابع عشر ميلادي، وتوفيت -كما تقول بعض المصادر التاريخية- سنة 1669، وهي امرأة عُرفت بتحريرها للعبيد وتفرغها لخدمة الفقراء والمحتاجين حد تفرغها التام لهذا الغرض، مما جعلها توصي بتخصيص جزء مهم من ثروتها لهذه الأغراض الاجتماعية حتى بعد مماتها.

ومن خلال هذا الفيلم الوثائقي القصير الجديد نستخلص ما يلي:

– تحوّل عزيزة عثمانة إلى مصدر تاريخي للتأريخ لجزء من تاريخ تونس الحديث.

– الحضور النسائي في المجتمع التونسي ضرورة وحاجة لا بدّ منها.

– البعد الاجتماعي لبعض الرموز التونسية النسائية في تاريخ تونس.

ضمن نفس الرؤية الهادفة إلى إسماع صوت نساء تونس نجد المخرجة تلتفت إلى موضوعات اجتماعية وسياسية من قبيل فيلم “سنبقى صامدات” وفيلم “نساء الثورة”، وهما فيلمان وثائقيان قصيران ينبشان في قيمة المرأة التونسية على مستوى عطاءاتها التقدمية والتصاقها بالتغيير ورغبتها القوية في بصم المشهد السياسي التونسي بالبعد النسائي، ومن ثم تمرير خطاب سياسي ثوري قوي مفاده لا إصلاح ولا تغيير دون مشاركة فعلية للمرأة التونسية في الحراك التونسي الحالي والمستقبلي.

ولعل طبيعة ودفاع المخرجة عن المرأة التونسية في العديد من المسارات التاريخية والاجتماعية هو ما جعل هذه الأفلام تجد لها موطن قدم في العديد من اللقاءات والمهرجانات العالمية، مثل عرض فيلم “امرأة من كيرانيس” في مهرجان الفرانكفونية بهوليوود سنة 2010.

الالتفات إلى أبي القاسم الشابي كشاعر عاش العديد من المحن، لكنه برغم كل هذا أبدع
الالتفات إلى أبي القاسم الشابي كشاعر عاش العديد من المحن، لكنه برغم كل هذا أبدع

 

3/ شقّ إبداعي

قصدنا بهذا المحور بعض الأفلام الوثائقية التي أخرجتها هذه المخرجة وهي ذات طبيعة إبداعية، لا سيما وأن هاجر بناصر من خلال ما تخرجه وتكتبه إلى اليوم هو كل لا يتجزأ، لأنه يجيب عن سؤال مضمر من الممكن طرحه عليها على الشكل التالي: ما السبيل لتحقيق تقدّم حقيقي لتونس، وما دور الصورة بشكل عام والوثائقي بشكل خاص في تحقيق فعل نهضوي تونسي حقيقي؟

طبعا جوابها هنا هو ما قالته عن طريق أعمالها الوثائقية، أي لا بدّ من تشريح تونس وثائقيا ومن كل الزوايا، وما تخصيصنا هنا لهذه المحاور بهذه الطريقة إلا لغاية منهجية توضيحية في أفق القبض على بعض الخصائص المميزة لأعمالها الوثائقية الخصبة.

وضمن هذا المحور وضمن نفس الرؤية السالفة المميزة لأعمالها الوثائقية نلاحظ أن الشقّ الإبداعي حاضر بشكل دال، لا سيما على مستوى الأيقونة الشعرية التونسية، ونقصد أبا القاسم الشابي. من منا لم يردد في يوم ما وإلى حد الآن بيتا شعريا من أشعاره الثورية التي هزّت العديد من القوى الاستعمارية والظلامية والسلطوية الدكتاتورية؟ من منا لم يردد في يوم ما قصيدته الثائرة “إذا الشعب يوما أراد الحياة”؟

أبو القاسم الشابي.. القصيدة الخالدة

سنرحل عام 2012 وعلى امتداد 39 دقيقة مع هاجر بناصر في ذاكرة شاعر تونسي مغاربي عربي عاش عمرا زمنيا قصيرا، لكنه بصم المشهد الشعري بالعديد من القصائد الرومانسية والوطنية والثورية الخالدة. شاعر تتبعت مسيرته منذ الولادة، إضافة إلى طبيعة نشأته والطابع التونسي في حياته، بل تنقلت في العديد من الأمكنة والأحداث الخاصة بالشاعر وبتونس، ولدى العديد من الباحثين والشعراء وغيرهم، لتقربنا من أجواء الشاعر أبي القاسم الشابي، وهو التونسي الذي بصم تاريخ الأدب العربي والإنساني، بل شعره حاضر في العديد من المقررات الدراسية في العديد من الدول العربية وغيرها.

الالتفات إلى أبي القاسم الشابي كشاعر عاش العديد من المحن، لكنه برغم كل هذا أبدع، بل حوّل مرضه وما عاشه من صعوبات إلى موضوعات شعرية ذات عمق إنساني جذبت إليها باحثين وكتابا ونقادا فككوا شعره في ضوء ما عاشه من ألم حوّله إلى أمل.

 

السينما التونسية.. نسيج الصورة والوجود

ضمن المحور نفسه الخاص بالإبداع نجد المنتجة قد خصصت فيلما وثائقيا من جزأين (إنتاج عام 2017) لسينما بلدها، لا سيما وهي سينما لها قيمتها المغاربية والعربية على مستوى طرح العديد من المسكوت عنه، مما جعل أسماء تونسية إخراجية تنزع العديد من الجوائز في مهرجانات أفريقية وعربية وآسيوية وعالمية.

رحلة البحث عن نشأة السينما التونسية وكيفية نسج طريق خاص بها بحثا عن صورة تعكس قضايا وانشغالات مجتمعها الراغب في الانعتاق والحرية والتخلص من كل أشكال العنف السلطوي، بل والباحث عن تسامح ديني متجذر في تونس، مع طرح موضوعات اجتماعية ونفسية وثقافية وسياسية؛ هو ما ميز السينما التونسية الباحثة عن نسج وجودها كشرط تاريخي لتحقيق أي قفزة نوعية نحو التقدم.

إخراج عمل فيلم وثائقي عن السينما هو جواب مندرج ضمن كونها حق من حقوق المواطنة، بل لا حرية تعبير خارج شرط الإبداع كله، وما السينما إلا تلك الواجهة التي من خلالها يعبّر المخرج في فيلم روائي أو وثائقي ما عن رؤية ما.

عديدة هي المحاور التي من الممكن أن نستمر في البحث عنها ضمن لائحة أعمالها المتعددة والخصبة، بل نجد المخرجة تحضر في نبشها الفيلمي الوثائقي محاور تتعلق بالبيئة، وهو ما يمكن أن نحضره من خلال أعمالها التالية:

– نافذة على الطبيعة (سلسلة بيئية من ست حلقات، مدته 28 دقيقة، ومن إنتاج عام 2007)

– البلاستيك.. هذا الوحش الصامت (عام 2006).

أو من خلال محور اجتماعي يغوص في قضايا ذات طبيعة اجتماعية مثل:

– عنواني.. المقهى المجاور (مدته 48 دقيقة، إنتاج عام 2014).

– الساكنون في الحفر (مدته 27 دقيقة، إنتاج عام 2011).

أو من خلال التفاتها إلى المساهمة فيما يمكن تسميته بالأفلام الوثائقية التي تستجيب لبعض حاجيات الأطفال، وبرؤية تكنولوجية جذابة نجدها قد بصمت على عمل مفيد لهذه الفئة التي لا يزال المشهد الوثائقي العربي لم يحقق تراكما مفيدا لهذا الجيل/الخَلَف. وهنا نقدم كمثال على ذلك سلسلة وثائقية بعنوان “الرحالة الصغار” بتقنية 2D.

كل هذا يولد مدى أهمية الكتابة عن مثل هذه المخرجة التونسية العربية التي نالت العديد من الجوائز في العديد من المهرجانات، وقد كرمت أيضا تقديرا واعترافا بما أسدته من خدمات فنية وثقافية مفيدة لوطنها تونس، ولامتداداتها المغاربية والعربية والإنسانية ككل، ناهيك عن مشاركاتها العديدة في لجان تحكيم عديدة، مما ساهم فعلا في تقاسم تجربتها مع العديد من المخرجين الشباب وغيرهم.

ومن خلال ما سبق نستخلص فعلا أننا أمام تجربة نسائية تونسية على مستوى الإخراج الفيلمي الوثائقي، تجربة نحتت لنفسها موقعا متقدما ومنخرطا في أسئلة بلدها الذي يعيش مجموعة من التحولات، مما يستوجب معه إحضار مثل هذه التجارب الفيلمية الوثائقية النابشة في ذاكرة تونس التاريخية والفنية والاجتماعية.


إعلان