أحمد ديدات.. رجل المناظرات اللامع
رجل نذر نفسه لفكرة كان فيها سفيرا للإسلام حول العالم، وتمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم “بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَة”، يقول عن أثر هذا الحديث الشريف في نفسه “علينا أن نبلغ رسالة الله تعالى حتى ولو كنا لا نعرف إلاَّ آيةً واحدة، إن سرّا عظيما يكمن وراء ذلك، فإنك إذا بلَّغت وناقشت وتكلمت فإن الله يفتح أمامك آفاقاً جديدة، ولم أدرك قيمة هذه التجربة إلا فيما بعد”.
في هذا الفيلم الوثائقي الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية بعنوان “أحمد ديدات.. الرجل ذو المهمة”، نطوف على مجموعة ممن عرفوا الشيخ أو خالطوه أو سمعوا به وتابعوه لنتعرف على جوانب هذه الشخصية الاستثنائية التي شكلت ظاهرة حقيقية سيطرت على العالم الإسلامي لعقود.
طفولة بائسة.. وتمييز عنصري
ولد أحمد حسين ديدات في 1 يوليو/تموز 1918 في مدينة سورات غرب ولاية غوجرات الهندية لأسرة بسيطة تعمل في الزراعة، وهاجر والده إلى جنوب أفريقيا بُعيد ولادته حيث عمل خياطا، وتوفيت أمه وهو في التاسعة من عمره فسافر للعيش مع أبيه عام 1927، وهناك حفظ القرآن الكريم.
كانت الهند في ذلك الوقت ترزح تحت الاستعمار البريطاني، وكانت تتعرض لعملية نهب من قبل الإنجليز، وكان للمنصّرين دور كبير في ذلك، وبحسب الباحث في مقارنة الأديان أحمد السبيع فإن ديدات عاش في تلك الأجواء أول تسع سنوات من عمره.
وعن انتقاله إلى جنوب أفريقيا يقول أستاذ الطب النفسي بجامة الأزهر محمد المهدي إن النقلة كانت نوعية وكبيرة من مجتمع لمجتمع آخر.
في مجتمعه الجديد، كان العرق الأبيض يهيمن على باقي الأعراق، كانت هناك تفرقة عنصرية وظلم واضطهاد، كان المحتلون البريطانيون في جنوب أفريقيا يمارسون التمييز والتنصير ضد المسلمين من الأعراق الهندية والمالاوية.
كان والده رجلا فقيرا يبحث عن لقمة العيش بشق الأنفس، مما دفعه لترك المدرسة في الصف السادس الابتدائي، والعمل في أحد المحال وكان بجوار إرسالية آدم التنصيرية .
كان طلاب الإرسالية يمرون على الشيخ ديدات وهو يعمل، ويلقون علية الشبهات التي يتعلمونها في الكلية كما يقول منقذ السقار أحد تلامذة الشيخ، ومما يقوله ديدات عن نفسه “في تلك الأيام ومن هذه الكلية توافد علينا المبشرون الذين حولوا حياتنا إلى بؤس وعذاب، وقد كانوا يأتون لشراء الأغراض من المحل وينهالون عليّ بالأسئلة والانتقادات”.
ويضيف “كانوا يقولون: هل تعلم أن محمدا تزوج نساء كثيرات؟ وقتها لم يكن لدي أي معرفة، ويقولون هل تعلم أن الإسلام انتشر بحد السيف وأن محمد نقل كتابه عن اليهود والنصارى؟ لم يكن عندي دراية بذلك، وكان الموقف بغاية الصعوبة بالنسبة لي”.
لقد ولّد إحساسه بالضعف والقهر ردة فعل للتحدي والرغبة في الانتصار، وأن يتوحد مع الأمة التي ينتمي إليها والدّين الذي يتبعه، كما يقول الدكتور محمد المهدي.
“إظهار الحق”.. الكتاب الذي غير حياتي
عن البداية في هذا المضمار يقول الشيخ “ذات صباح دخلت مخزن رئيسي في العمل، وأخذت أقلب في كومة من الكتب القديمة بحثا عن مادة أقرؤها، وانهمكت بالبحث إلى أن عثرت على كتاب قضمته الحشرات، جددت الكتاب، كان قديما ومتعفنا، قرأت عنوانه وهو “إظهار الحق”، وبفضل هذا الكتاب تغيرت حياتي تماما”.
بدأ يقرأ الكتاب ووجد فيه بغيته للرد على الذين يهاجمون الإسلام، ثم بدأ يحضّر نسخ مختلفة من الإنجيل ويقارن بينهما ويدرسها ويدون ملاحظاته عليها، ثم خطا خطوة كانت أكثر جرأة، فقد كان يذهب للمنصّرين في عقر دارهم ويناقشهم في تلك النصوص.
ويقول ديدات “أخبرني شخص إنجليزي كان قد اعتنق الإسلام واسمه فيرفاكس، أن لديهم رغبة لتدريسي المقارنة بين الأديان، وأطلق على تلك الدراسة دراسة الإنجيل”.
يتابع الشيخ “قال إنه سيعلمنا كيف نستخدم الكتاب المقدس في الدعوة للإسلام، وافقنا وكنا سعداء ومن بين 300 شخص من الحاضرين اختار 20 ليبقوا ويتلقوا مزيدا من العلم”.
كان تغيب فيرفاكس فرصة لديدات ليبدأ في تعليم الطلاب من حيث انتهى، يقول “بقيت ثلاث سنوات وأنا أتحدث إليهم، وكانت تلك أفضل وسيلة تعلمت منها، فأفضل طريقة لتتعلم هي تعليم الآخرين”.
دعوة إسلامية في مقابل تبشير نصراني
في أواخر السبعينيات وأول الثمانينيات حدثت أشياء متوازية ساهمت في صناعة ظاهرة أحمد ديدات، كما يقول الباحث مؤمن المحمدي، “ففي أفريقيا هناك صراع على الثروات وحملات تبشيرية، وفي المقابل ظهرت حملات مقاومة ضد المسيحية من المسلمين وغيرهم، فالصراع الحضاري والثقافي تحول إلى صراع ديني”.
أما الدكتور أحمد وجيه فيقول إن علاقة الاستعمار بالتنصير هي علاقة وثيقة، فأي مستعمر يريد إحكام السيطرة على المستعمَر فلا بد له من أن يقطع صلته بتراثه وأن يدخله في سياق ثقافي مختلف.
بهذا الشأن يقول القس إكرام لمعي وهو أستاذ مقارنة الأديان ورئيس لجنة الحوار بالكنيسة الإنجيلية “أرى أن الوضع كان مأساويا للناس في أفريقيا، لأن المبشرين لم يراعوا الواقع الذين يعيشون فيه”.
وكما يقول الدكتور السقار “كانت الفرصة مواتية للشيخ ليكون سدا منيعا في وجه حملات التنصير”.
بدأ ديدات في إقامة مناظرات مع القساوسة، وهنا يقول أحمد وجيه “كان ذلك فتحا وشيئا جديدا في آن واحد، فقد تمكن من قراءة الكتاب المقدس بأكثر من لغة، مكنته من أن يقف أمام القساوسة والرهبان الكبار المعروفين ويناظرهم ويفحمهم”.
شكلت لغة الجسد بالنسبة للشيخ طريقة مُجدية للتأثير على الجمهور -كما يقول المتحدثون في الفيلم- كان فيها تناسق وانسجام، فإذا أرادها حازمة تكون كذلك، وإذا قصدها توافقية تظهر توافقية.
وكان الشيخ مبتسما دائما أثناء المناظرات، وكانت حجته قوية لا يحيد عن الموضوع ويلتزم بالنصوص والحجج التي يؤمن بها، ويقلب الطاولة على محاوريه.
أما المحتوى والمضمون، فقد كان للشيخ القدرة على الدخول في تفاصيل الأشياء وربط جزئيات المعلومات، يعزز ذلك ذاكرته الخارقة لدرجة أنه كان يحفظ نصوص العهد القديم والعهد الحديث أكثر مما يحفظها المتخصصون في كليات اللاهوت.
كان ديدات محاورا لا يُشق له غبار، بارعا جدا بالمنطق الأرسطي ويعرف كيف يكسب الجولات، ويعرف نقاط ضعف الخصم، كانت لا تفوته شاردة ولا واردة، وعنده وعي متقد بالتفاصيل الصغيرة وهذا جزء من شخصيته.
وكما يقول الدكتور عبد الله رمضان فقد كان ديدات يؤمن بالحوار من منطلق قرآني، “فالله تعالى حاور المشركين والكفار”، وكان رحمه الله يرى أن المسلمين قصروا في ذلك الجانب.
محاور بارع.. تقنيات الحوار الثلاث
ويرى المتحدثون أن ديدات استخدم ثلاث تقنيات في الحوار، الأسلوب الساخر، وهدم فكرة المقابل أكثر من أن بناء فكرته، والثالثة استخدام أسلوب الحصار.
وكان حريصا أن يلقي حجرا تلو الآخر للذين ابتعدوا عن هدي كتاب الله الذي يراه أصدق الكتب، وكان يظهر عوار محاوريه وفساد استدلالاتهم، وكان يطبق الجانب العقلي عبر الحجج المنطقية، ويطبق الجانب النقلي عبر الأدلة والنصوص.
وكان يستخدم بعض الأساليب الأدبية كأسلوب القنص باستخدام نص لإنشاء نص جديد، وفعل ذلك عندما كان يطلق على القرآن في بعض الملصقات والمنشورات العهد الآخر.
كان الشيخ يقول دائما من فمك أدينك، فكان يناقش النصارى من خلال الإنجيل، وكان يقرأ النصوص من ذهنه ويحفظها كاملة، وقد أوتي فصاحة باللغة الإنجليزية، يواكبها فصاحة في ذكر الآيات القرآنية، على الرغم من عدم إجادته اللغة العربية.
مناظرات ديدات.. بين الانتصار والإخفاق
يقول د. منقذ السقار إن أهم مناظرة له كانت تلك التي جمعته بالقس جيمي سوغارت، والتي بثت على أكثر من مئة قناة تلفزيونية، وتحدث من خلالها للنصارى في جميع أنحاء العالم، وفي تلك المناظرة أظهر هشاشة جيمي سوغارت.
وفي ذلك يقول القس إكرام لمعي أرى أن أحمد ديدات تحدث بأسلوب منطقي وعاطفي، وبرع في الأسلوبين المنطق العقلي وطريقة إثارة الجماهير وجذبهم، أما سوغارت فقد استخدم فقط الأسلوب العاطفي.
ويتابع أن سوغارت لم يكن لديه منطق علمي يقدمه ردا على أسئلة ديدات، ونحن كمسيحيين أكاديميين لم يعجبنا ما قام به سوغارت.
ويعلق عمر فاروق ديدات -وهو الأخ الأصغر للشيخ- أن “المناظرة جعلتني وجعلت جميع المسلمين يشعرون بالفخر، وهو أن يصمد أحمد في وجه جيمي سوغارت من الولايات المتحدة الأميركية، كنت قلقا وقتها ولكنها بدت كقصة صمويل داخل عرين الأسد، وجيمي لم يكن أسدا واحدا بل مجموعة من الأسود معا، لكن صمويل تغلب على الأسد، فقد فاز أخي بالضربة القاضية في بطولة العالم ثلاث مرات؛ كانت واحدة بثلاث إن كان يسمح لي بقول ذلك”.
في تلك الفترة ظهر الفيديو كاسيت، وكان الناس يتداولون أشرطة ديدات سرا كجزء من انتصار الإسلام على المسيحية، ويقول ديدات “كان العالم الإسلامي يلح في طلب الأشرطة خصوصا الذين يعيشون في الغرب حيث يشن المبشرون حربا على المسلمين، وكما هو الحال في الهند وبنغلاديش وإندونيسيا وحيثما وجد المسلمون فإنهم لا يعرفون التصدي لهؤلاء ومواجهتهم وأشرطتنا تقوم بذلك.”
تعرض الشيخ ديدات لبعض الإخفاقات، ومنها مناظرته مع القس الفلسطيني أنيس شروش، ويقول القس إكرام لمعي إن شروش بالفعل كانت لديه أسئلة قوية وجهها لديدات وقد حضّر جيدا ودرس التاريخ الإسلامي ومتعلقات كثيرة بالفلسفة ومقارنة الأديان.
أما السقار فيرى أن نقطة الضعف لدى الشيخ كانت عدم إجادته للغة العربية، “وقد أوقعه ذلك بضعف في عدم الفهم، لذلك لم يجب عن أسئلة شروش وكان موضوعها القرآن الكريم، ويستطيع أي أحد يجيد اللغة العربية الرد عليه”.
يقول عبد الله رمضان إن هذه المناظرات لم تكن تخلو من صراع حضاري، لأن المستعمر الأبيض كان يستخدم الدين لاستنزاف الاقتصاد.
أما القس إكرام لمعي فيرى “أن المناظرات كانت إنذارا مبكرا لصراع الحضارات الذي تطور فيما بعد للغة السلاح، وكان أساس هذه المناظرات الصراع وليس التوافق”.
لكن الدكتور محمد المهدي يرى أن ديدات لم يكن داعية تقليديا يركز على الحشد والترويج لدينه، لكنه ركز على العقل والاختيار، فهو لا يقول لك آمن بهذا أو أترك هذا، لكنه يقول لك: اختر وأمامك الحقائق التي توصلت إليها.
الداعية النجم.. معالم طريق الحقيقة
يرى مؤمن المحمدي أن ديدات تحول نتيجة لتلك الأشرطة إلى داعية نجم يتصرف كالنجوم، كان لديه استعلاء ولكن بالإيمان، وكانت الذات واضحة ومتضخمة، ولديه بعض الغلظة في تصرفاته وإحساس بأنه يمتلك عصارة الحكمة.
لكن عمر فاروق ديدات يقول إنه “تكلم عن الأشياء كما هي، وكان يقال عنه غير مهذب ولكن الحقيقة هي غير المهذبة، لم يكن يحتاج لأن يكون مهذبا، يقول المثل من الأفضل لك أن تكون في خلاف المجتمع على أن تكون في خلاف مع الله”.
ويضيف عندما بدأت العمل قال لي “ما الذي جعلك تتشبه بعملي، إذا أردت الشهرة فيمكنني أن أقول لك إن الحجارة التي سيلقونها عليك أعظم بكثير من الشهرة، أما إذا كنت تفعلها لأجل الله ورسوله فاستمر، وإلا فزوجتك وعائلتك أهم بكثير”.
أما أستاذة الحضارة الفرنسية زينب عبد العزيز فتقول “عندما يكون الإنسان يدافع عن فكرة تهزه، فهذا شيء طبيعي، فهو يدافع عن دينه وواثق بما يقول”.
ويعلق تلميذه منقذ السقار بقوله “إن ما يؤخذ على الشيخ من قسوة في بعض عباراته ليس إلا حالة عرضية في مناظراته، وهو أمر طبيعي يمكن استيعابه وتفهمه، فهو يتحدث عن قضايا مفصلية عن خسارة الدنيا والآخرة، لذا يجب أن نعذره في حماسته وحرصه على هداية الناس”.
ولجأ أعداء الشيخ إلى اتهامه بأنه أحمدي قادياني وأنه يؤمن بصلب المسيح، لكن المتحدثين نفوا ذلك، وقدم الشيخ رسالة يؤكد فيها إيمانه بالنبوة الخاتمة وتكفيره للقاديانية.
أما مسألة الصلب، فيقول عبد الله رمضان أنها ليست نقطة جوهرية بحد ذاتها كمسألة التوحيد، ويقول السقار إن ديدات قال إنه يؤمن بدقة بقول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم.
في منطقة ديربان جنوب أفريقيا كان مقر الشيخ ديدات، وهناك حقق أمنيته بافتتاح مركز للدعوة، فلم يكتف بالعمل الفردي، وإنما كان يحترم العمل المؤسسي.
يقول المتحدثون في الختام إن الشيخ “هو من أوجد مفهوم المناظرة الإسلامية المسيحية بشكلها الحالي، وهو رجل مرحلة متميز متفرد”.
لقد كان فارسا في مواجهة التنصير، مهمته أن يؤكد على القيم الحضارية الإسلامية التي يراد لها أن تُجتث وأن تُدمج قسرا بالحضارة الغربية، لقد ترك بصمة واضحة في العلم الذي برع فيه لا يمكن نسيانها بأي حال.
أما الدكتور المهدي فيقول “إن الشيخ ديدات وضع الكثير من العلامات المشهدية على طريق الباحثين عن الحقيقة، وهذا ما جعله يتمتع بشهرة عالمية، لقد كان يمثل حقيقة أن القوة تولد من رحم الضعف، والتحدي يولد من رحم العجز، والعزة تولد من رحم القهر”.