الأخوان لوميير.. 132 عاما على ميلاد السينما العالمية في الجزائر
محمد علال
يوم مشمس يفسر زحمة الحركة الروتينية في الأسواق الشعبية، حيث يجتمع الرجال بملابسهم الشتوية الثقيلة، ويتحركون باتجاهات مختلفة بين السلع والمباني التي تزينها أقواس شارع “باب عزون”، وهو الباب الرابع لحي القصبة العتيق بالجزائر العاصمة.
تمرّ عربات الأحصنة، وامرأة يغطي جسدها رداء كبير يُطلق عليه في الجزائر اسم “ملْحفة”، في الصورة أيضا “ترماوي خشبي” يشق الطريق، ورجال ببدلات وقبعات فاخرة توحي ملامحهم بأنهم من علية القوم، أو أنهم في زيارة طويلة لتلك المدينة.
تلك التفاصيل جزء من قصة الصور السينمائية الأولى في العالم، والتي نقلت ملامح الحياة في مدينة الجزائر العاصمة عام 1896 بين السكان الأصليين والمعمّرين الفرنسيين، ووُثّقت بعدسة الأخوين لوميير الفرنسيين؛ أوغست ماري لوي نيقولا (1862-1954)، ولوي جان (1864-1948)، عبر فيلم قصير أُنجز ضمن سلسلة أولى الأفلام في تاريخ الفن السابع.
لوميير يتفوقان على أديسون
قبل أن يمرّ الأخوان عبر “باب عزون” إلى “ساحة الشهداء” (الجمهورية سابقا) المطلة على ميناء الجزائر، اخترع الأخوان لوميير تقنية التصوير “السينما غراف”، واستخدماه لأول مرة عند مدخل مصنع العائلة بمدينة ليون الفرنسية، وأخرجا أول فيلم في التاريخ بعنوان “ساعة الغداء في مصنع لوميير” (مدته 45 ثانية)، ويصور الفيلم العمال وهم يستعدون للخروج من بوابة مصنع في تمام الساعة 12 ظهرا لفترة استراحة الغداء.
في منتصف القرن التاسع عشر تحديدا عام 1895، ذاع صيت الأخوين بعدما قدّم الجهاز صورا أكثر وضوحا من صور جهاز “الكنتوسكوب” الذي اخترعه الأمريكي “توماس أديسون”، وقد جاء الجهاز الجديد بوزن أخف (5 كلغ)، ويُحرك باليد، وبسرعة 16 إطارا في الثانية، وهو ما جعل العالم يصنف الفرنسيين في خانة روّاد السينما، وذلك بعد سحب الأخوين لوميير البساط من تحت أديسون.
في 28 ديسمبر/أيلول عام 1895 اكتشف الناس لأول مرة عشرة أفلام قصيرة تتراوح مدتها ما بين 38 و48 ثانية فقط، وذلك عندما قام الأخوان لوميير بأول عرض سينمائي في مقهى “غران كافيه” بباريس، وقد لاحظ الجمهور الفرق بين صور لوميير وصور أديسون.
نجاح التجربة فتح شهية الأخوين لتكرارها عدة مرات، ليخرجا معا في أقل من ستة أشهر بـ50 فيلما بعناوين مختلفة؛ “الحياة على الشاطئ” و”البستاني المبتل” و”الخروج من الميناء” و”وجبة خفيفة لطفل صغير” و”طعام القط”.. وهي الأفلام الأولى التي قام الأخوان بإنجازها رفقة عدد كبير من هواة التصوير الفرنسيين الذين أصبحوا فيما بعد من كبار المخرجين أمثال جاك فيدر وجان رنوار وجوليان دوفيفيه.
الجزائر.. أول محطة للأخوين
من هنا جاءت فكرة السفر إلى الجزائر لتصوير أول فيلم خارج فرنسا، فقد حلّ الأخوان بالجزائر لتصوير أول الأعمال السينمائية في العالم، وذلك بعد أقل من عام على قيامهما بأول تجربة سينمائية ناجحة في باريس، وقد دفعت عوامل عدة الأخوين للركوب بالباخرة باتجاه الجزائر دون غيرها.
في ذلك الزمان كانت فرنسا تعتبر الجزائر أرضا فرنسية، وقد جاء الأخوان إلى الجزائر بعد 66 عاما على بداية الاحتلال، في وقت بسطت فيه فرنسا يديها تقريبا على كل الأراضي الجزائرية، وأصبحت الإدارات والمصالح والأجهزة الأمنية خاضعة للسلطات الفرنسية، وذلك بعد سنّ فرنسا قانون مصادرة الأراضي الشهير عام 1832.
توحي صور الأخوين لوميير على أنه كانت هناك حالة من التعايش الكبير بين المستعمِر وسكان المحروسة كما كان يطلق عليها سابقا، فقد ركزت عدسة “أوغست ولوي” على جمال المدينة وميناء الجزائر، وصوّرت أهم ساحاتها خاصة “ساحة الحكومة” التي كان يتوسطها مشعل “ألكسندر بروميو” وتمثال “الدوق أورليانز” الذي يعتبر أول تمثال تم تصوريه سينمائيا.
لاحقا جالت كاميرا الأخوين في أزقة شارع “باب عزون”، واتجهت إلى حي “باب الوادي” العتيق وصولا إلى منطقة “الريس حميدو”، وذلك في إطار التأكيد أن الجزائر أرض فرنسية يسود فيها التعايش والأمن، وفي محاولة لمحو آثار تلك الأخبار التي كانت تشير لوجود مقاومات شعبية في الجزائر ضد فرنسا الاستعمارية.
تونس ومصر.. محطة أخرى
لم يكتف الأخوان لوميير باستخدام اختراعهما فقط في الجزائر العاصمة وباريس، بل سافرا في مطلع القرن العشرين إلى العديد من المدن الجزائرية، منها ولاية بسكرة وتلمسان وسيدي بلعباس، وقد رافقهما في الرحلة والدهما المصور الذي التقط مجموعة من الصور الفوتوغرافية الملونة، منها خمس صور تم عرضها للبيع عام 2016 في مزاد علني بفرنسا بمبلغ يتراوح ما بين 1500 و2500 يورو، وذلك لما تمثله من تراث فريد من نوعه باعتبارها جزءا من الصور الأولى الملونة في التاريخ التي تم التقاطها في الجزائر بعدسة أنطوان لوميير.
بعد ذلك قام الأخوان لوميير بزيارة العديد من الدول العربية خاصة تونس، حيث قاما بتصوير نهج تونس عام 1896، بينما استفادت مصر كثيرا من زيارتهما عندما قاما بتصوير الآثار المصرية ونهر النيل وميدان القناصل ومحمد علي في الإسكندرية، وذلك في الفترة ما بين 1897 و1907.
“أوتوكروم لوميير”.. ثورة في عالم التصوير
تحولت تقنية “أوتوكروم لوميير” إلى ثورة حقيقة في عالم التصوير، وبدأ الأخوان لوميير في إيفاد تلامذتهما إلى جميع أنحاء دول العالم لتصوير أكبر قدر ممكن من الأفلام، وتوثيق الحياة في أماكن لم يكن العالم يسمع عنها إلا عن طريق الصحافة والراديو.
سعى الأخوان لتوثيق حياة المشاهير مثل جورج برنارد شو، واستمرت تقنية “أوتوكروم لوميير” في احتكار عالم التصوير إلى غاية عام 1931، حيث تطورت التكنولوجيا وظهرت تقنية “كوداكروم” التي كانت تقدم صورا أكثر دقة في الألوان.
أفلام لوميير.. “الواقع كما هو”
ما يجمع أفلام الأخوين لوميير سواء المُصورَّة في أوروبا أو في الدول العربية، هو تركيزها على الحياة العادية، فقد كانت أفلاما عن الواقع، فلم تعتمد على سيناريو ولا ممثلين ولا ديكور. لقد كان من الواضح جدا هوس الأخوين لوميير بتلك التفاصيل المملة في حياة الإنسان، وهو ما دفع بمدير مسرح فرنسا غول كلاريتي بالتصريح قائلا عندما شاهد أفلام لوميير لأول مرة “إنه الواقع كما هو”.
هكذا وُلدت السينما من رحم الواقع، وكبرت على أرض جزائرية وانتقلت إلى الدول العربية، وقد استهدفت العادات والتقاليد ويوميات البشر في بداية الأمر، قبل أن تتحول إلى ثقافة سينمائية واسعة لها قواعدها ومهارتها الإبداعية العالية.
اليوم تغيرت كثيرا ملامح تلك الأسواق في الجزائر، فقد أصبح أحفاد الرجال أحرارا، بعدما حجزت الجزائر لها موعدا مع الاستقلال عام 1962. لقد تغير كل شيء في المدينة حتى الجدران، واختفت القبعات الفرنسية، ورحل تمثال الحصان الذي كان يزين ساحة الجمهورية، وحلّ مكانه ما يشبه المزهرية، واختفى “الترماي” وجاء مكانه محطة مترو.
وبين صور الأخوين لوميير وصور “ساحة الشهداء” اليوم بمدينة الجزائر، نسجل الكثير من الألوان التي باتت ترافق خطوات الناس وأحلامهم وحكايتهم، وهو ما يعكس التطور الكبير للسينما في العالم مقارنة بما كانت عليه في زمن الأخوين لوميير.