سعاد خويي.. فراشة في بحيرة البجع
“الرباط.. الرباط.. والرباط”، هكذا كان ينادي “الكريسون” المساعد الثاني لسائق الحافلة الصدئة والمهترئة التي كانت مركونة في الجهة اليسرى من محطة الحافلات بساحة الشهداء بمدينة وادي زم المتجهة إلى العاصمة الرباط.
هنا في ساحة الشهداء سقط المئات من الشهداء والقتلى إبان اجتياح القوات الفرنسية للمدينة، والعديد من قبائل ورديغة والشاوية وبني زمور وإسماعلة وبني خيران ومدينة وادي زم، والتي شهدت خلال تلك الحقبة من الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي مقاومة شرسة من قبل قبائل وسكان المنطقة للاستعمار الفرنسي. لا تزال الذاكرة الوطنية والشعبية الشعرية والعامية والأحاجي تذكرها باهتمام، بل خلدتها في أغان يحفظها الكثيرون، خاصة أغاني فن عبيدات الرما، وهو فن تراثي شعبي قديم يُقام له كل سنة مهرجان وطني بمدينة خريبكة المحاذية لمدينة وادي زم.
“الكريسون” لا يزال ينادي بصوت متهدج “الرباط.. الرباط”، فيما الشاحنة تملأ الفضاء جلبة بمحركها الهادر ودخانها الذي يلوث البيئة دون أن ينتبه إلى ذلك أحد، يصعد المسافرون وهم يتأففون من الرائحة والحرارة وضيق الكراسي وطول المسافة التي تنتظرهم، وهي مسافة فيها الكثير من المنعرجات الخطرة، خاصة في جبال “كريفلة” قبل الوصول إلى بلدة عبن عودة.
بدايات صناعة المجد
الفتاة الجميلة التي تصعد بقصَّة شَعرِها المميزة تُضفي على المكان نوعا من السكينة والارتياح، فليس كل الذين يركبون الحافلة من البدو القادمين من الأرياف والدواوير النائية ويحملون لأقاربهم البيض والدجاج والزاد والكثير من الفاكهة خاصة التين في موسم الصيف. تصعد الفتاة الحافلة بهدوء، فلحسن حظها أنها وجدت مكانا في آخر المقاعد، فقد صبرت لكنها تأففت هي الأخرى، نفضت عن الكرسي الغبار ثم جلست وهي تنظر إلى الخارج كأنها تبحث عن شيء ما، لكنها أدركت أنها أتت وحيدة دون أن يرافقها والدها الذي اعتاد أن يوصلها للمحطة أثناء كل رحلة سفر إلى الرباط.
تلك مشاهد مقتطعة من سيناريو واقعي للرحلة الطويلة إلى العاصمة الرباط لساندريلا الشاشة المغربية الفنانة سعاد خويي، والتي صنعت مجدها الفني على صهوة حافلة بحثا عن النجومية والتألق، بدءا من دخولها للمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط، فكانت من خريجي أول دفعة لهذا المعهد بتخصص تشخيص، وهي الدفعة التي تخرج منها العديد من الفنانين والنجوم أمثال رشيد الوالي وحسن مكيات وإدريس الروخ، وغيرهم من الفنانين والكوميديين الذين وجدوا في المعهد الفضاء الاحترافي لتعلم أصول التمثيل والتشخيص.
أشكال فنية وتعبيرية
حين تُسأل سعاد خويي عن أقرب الفنون إلى قلبها المسرح أم السينما أم التلفزيون، تُجيب بتلقائية إن المسرح هو الأقرب إلى نفسها، لأنها وجدت في أبي الفنون الراحة الروحية التي لم تجدها في أشكال فنية وتعبيرية أخرى، وهي لا تزال حتى اليوم تدين لفرقة المسرح الوطني بالشيء الكثير، وهي الفرقة التي منحتها الفرصة الذهبية للتعلم وتطوير موهبتها والتألق والنجومية وتقديم أروع الأعمال في كثير من المسرحيات الشهيرة، منها “الرجل الذي” و”المرأة التي” و”جار ومجرور” و”ساعة مبروكة” و”جا وجاب”.. وذلك مع فنانين روّاد مشهود لهم بالكفاءة في التمثيل، مثل المؤلف والفنان القدير محمد الجمّ، والمرحوم عزيز موهوب، والمخرج المتميز عبد اللطيف الدشراوي، فضلا عن مليكة العماري ونزهة الركراكي وآخرين، وهي المسرحيات التي قامت بجولات فنية في العديد من البلدان الأوروبية والأفريقية.
إلى جانب العديد من العروض المسرحية التي اشتهرت بها الممثلة المغربية سعاد خويي مع فرقة المسرح الوطني، تألقت أيضا في الآونة الأخيرة في مسرحيات جديدة، من بينها “العشق الكادي” تأليف وإخراج عمر الجدلي، فضلا عن مسرحية “شكون المسؤول” لمسرح المنصور وإخراج عبد اللطيف الدشراوي، و”برلمان النساء” التي تندرج ضمن برنامج توطين الفن المسرحي المدعوم من قبل وزارة الثقافة والاتصال في قطاع الثقافة المغربية بعدد من المدن المغربية.
شهرة كزبد البحر
وإذا كانت الفنانة سعاد خويي التي كُرمت في يونيو/حزيران الماضي بمدينة خريبكة خلال اللقاء الشهري “أكسيون سات” (وهو برنامج شهري يستضيف نجوم السينما والمسرح والتلفزيون المغربي والعربي، حيث قدمت ماستر كلاس للطلبة وعموم الجمهور) قدمت للمسرح الكثير من الأعمال، فإن حضورها في المشهد السينمائي ظل مشفوعا بما تختاره الفنانة من أدوار، فهي تنتقيها بعناية ودقة.
وتقول سعاد في هذا السياق” ليس الممثل هو الفنان الذي يقبل بأي دور يمنحه له المخرج، بل الفنان الجيد والناجح هو الذي يختار الأدوار التي تتناسب مع شخصيته وقيمه ومبادئه ومشروعه الفني والإبداعي الذي يشتغل عليه منذ سنوات، دون التفكير في التعويض المادي المقترح، حيث لا يعقل أن يؤسس الفنان لتجربة مهمة ويراكم رصيدا فنيا مهما ومحترما طيلة مسيرته الفنية، ويقبل بأتفه الأدوار مقابل الشهرة أو المال، وربما هذا من بين أسباب غياب العديد من الوجوه الفنية سواء في المسرح أو التلفزيون أو السينما عن المشهد الدرامي والسينمائي سواء في المغرب أو الوطن العربي”.
وعن الشهرة والمال في السينما تؤكد سعاد “أن الشهرة مثل زبد البحر الذي يطفو فوق الماء، والمال أبدا لم يصنع يوما من الأيام نجما من النجوم، بل الأساس هو ما يقدمه الفنان من أدوار، ومن بعدها يأتي المال، فالرأسمال المادي الحقيقي للفنان هو الجمهور، فإن أحبك الجمهور فزت فوزا عظيما، ولو أنك قدمت أدوارا قليلة لكنها مؤثرة وتترك أثرا وبصمة لدى الجمهور، وهذا هو الأساس وسر الفن الرائع والجميل ونجاح أي فنان”.
أما عن أجمل الأدوار التي لعبتها في السينما فتقول “باعتقادي الشخصي ليست العبرة بالكمّ بل بالكيف، وما قدمته للفن السينمائي قد يكون قليلا مقارنة مع ما قدمته للتلفزيون أو للمسرح، لكنه ذو قيمة وأعتز به أيّما اعتزاز، لأنه كان مهما وقويا وذا مصداقية، وهذا هو الأساس في العملية الإبداعية السينمائية”.
أدوار سينمائية متنوعة
في هذا الإطار يتذكر الجمهور المغربي جيدا الأفلام التي تألقت فيها الممثلة سعاد خويي، منها “بدرة الشيطان” للمخرج عزّ العرب العلوي المحارزي، و”عودة منصور” للمخرج سعد تاشفين، فضلا عن “المطلقة” لرشيد العروصي، و”واش عقلتي على عادل” لمخرجه محمد زين الدين، و”نانسي والوحش” للمخرج محمد فريطس، و”عدوة الابن الضال” لأحمد بولان، وغيرها من الأفلام التي قدمت فيها سعاد أدوارا طلائعية امتزج فيها إحساس الحب والمسؤولية ومشاعر الحلم بالواقعية.
كلها أدوار جسدت ورسخت فيها سعاد الكثير من القيم الاجتماعية النبيلة، منها قيم المرأة الشريفة العفيفة التي تحافظ على أسرتها، والمرأة التي تحلم بعالم يسوده الوئام بعيدا عن كل حقد وضغينة ومؤامرات وتقليل من دور المرأة في الحياة والمجتمع.
كانت “سندريلا” دائما مقتنعة بما تقدمه من أعمال خاصة في المجال السينمائي، فهي -كما تؤكد- رفضت العديد من الأدوار التي اقتُرحت عليها من قبل مخرجين راهنوا على جمال المرأة والتركيز على مواضيع ماكرة لإغواء الجمهور بغض النظر عن القيم والمبادئ، لكنها كانت دائما تتصدى لمثل تلك المناورات حفاظا على كرامة الفن الذي يسكنها، وصيانة للصورة الجميلة التي رسمها لها الجمهور منذ سطوع نجمها خلال تسعينيات القرن الماضي.
تقدم سعاد بهذا نموذجا للممثلة التي تعرف أين تضع قدمها قبل ركوب أي حافلة باتجاه المدينة الفاضلة للسينما الجميلة والراقية، لأن الفن في نظرها كما تقول “رسالة نبيلة وروح قيم وهوية متأصلة فينا وإبداع متجدد، ودور أساسي في الحياة والمجتمع، والذي يجب عليه أن يبني لا أن يهدم، وأن يُربي لا أن يفسخ الأخلاق، ويجب عليه أيضا أن يكون ذا بعد اجتماعي ومجتمعي وكوني وإنساني، حفاظا على الممارسة الفنية والسينمائية والمسرحية، وحفاظا على الجمهور، وعلى وأجيال المستقبل الذين تؤثر فيهم الصورة، وتساهم في تربيتهم وتكوين شخصيتهم”.
ابتسامة تهزم أعداء الحبكة
في التلفزيون اشتهرت سعاد خويي التي كانت إحدى ضيوف شرف المهرجان الدولي للفيلم العربي الأخير بمكناس إلى جانب الفنانة المصرية بوسي، ولا تزال تُذكر في الكثير من الأدوار الجميلة والخفيفة الظل دائما بقصة شعرها المميزة ونشاطها المعهود، وبغضبها الطفولي الممتع، وأيضا بابتسامتها العريضة التي تهزم الأعداء، وذلك في حبكة درامية برع المخرج في رسم معالم فرجتها على إيقاع موسيقي حزين جدا.
تألقت سعاد في الكثير من الأعمال التلفزيونية منها “شجرة الزاوية”، و”من دار لدار”، و”الثمن” و”الساس” و”العام طويل”، وغيرها من الأعمال التي لا تزال عالقة في أذهان الجمهور المغربي.
وتُبرز سعاد -التي تفتخر بالانتماء للمدينة الصغيرة ووادي زم- عشقها لكرة القدم، والزي التقليدي المغربي خاصة “التكشيطة”، وأنها تنام باكرا وتستيقظ باكرا، وتحافظ على أسرتها وأبنائها الذين تمنح لهم الحرية في اختيار مستقبلهم دون ضغوط، وعن جديدها الفني تقول إن لديها عملا فنيا جديدا مع أحد المخرجين المصريين، وهو عمل تريده أن يبقى مفاجأة للجمهور، وسيكون متكاملا من حيث الشكل والمضمون، وسيمنح لها نجومية جديدة على حد تعبيرها.
فراشة في بحيرة البجع
هكذا هي سعاد خويي التي تألقت في المسرح والسينما والتلفزيون، وكُرمت في الكثير من المناسبات والمهرجانات الوطنية والدولية، منها مهرجان الروّاد الدولي للمسرح عام 2018 بخريبكة، وكذلك خلال الدورة الثامنة للمهرجان اللبناني للسينما والتلفزيون في بيروت دورة “القدس”، إلى جانب الممثل والمخرج والسيناريست عباس النوري من سوريا، كما ترأست العديد من لجان التحكيم وشاركت في عضوية لجانها، وكانت آخرها عضوية لجنة تحكيم الدورة الـ32 لمهرجان الإسكندرية لدول البحر الأبيض المتوسط، وذلك ضمن مسابقة نور الشريف للفيلم العربي.
تلك بعض أطياف الممثلة المغربية سعاد خويي التي ركبت صهوة الريح عبر جبال “كريفة” في حافلة مهترئة بسبب حالتها الميكانيكية الضعيفة، وذلك بحثا عن حلم راودها منذ الطفولة؛ أن تصبح ممثلة ونجمة، وقد تأتى لها ذلك بسبب إصرارها واجتهادها وتطوير موهبتها، فقد ظهرت في السينما فأبدعت، وتهادت على المسرح مثل فراشة فكانت كموسيقى بحيرة البجع لتشايكوفسكي، ولمعت في التلفزيون بقصة شعرها التي لا تزال تحافظ عليها حتى الآن في صورة شعرية موحية كقديسة لم ترسمها يد فنان.