عبد الوهاب الدكالي.. موسيقار غنى للسينما ورسم العباقرة
المصطفى الصوفي
عندما تستمع لأغنية “كان يا ما كان” للموسيقار عبد الوهاب الدكالي، تحس أنك تتابع فصولا مشوقة من فيلم درامي مثير، ومشاهد حالمة، وأحداثا مركبة بطريقة غاية في الإبهار وقعت ذات زمان في مكان من تلك القبيلة التي يسكنها الأحباب والعشاق والأهالي.
في الأغنية المشهورة، يكاد الإيقاع الموسيقي يحاكي صوت حوافر خيول تعدو باتجاه ذاك المكان على عجل، هذه القصة الأسطورية والتراجيدية ترويها العجائز للصبيان، بطلها حبيبان راعيان أحبا الطبيعة والنجوم، ويحلمان بموسم حصاد وعرس يجمع الشمل بكل الوفاء والحنان.
المشاهد الفيلمية في مقاطع الأغنية حزينة جدا، يختطف غريب الحبيبة على ظهر حصان، يحاول حبيبها استعادتها عند الفجر، لكن السور كان عاليا، فيفتضح أمرهما ثم تشاء الأقدار أن يفارقا الحياة، فيدفنا جنبا إلى جنب، لتصير حكايتهما الأسطورية على كل لسان، وفي كل زمان، ولتزورهما العصافير، وتنبت شجرة خضراء هناك دليلا على صفاء الروح والوفاء والاطمئنان.
الدكالي مع عمالقة الغناء
ينحدر الفنان عبد الوهاب الدكالي من مدينة فاس المغربية، وهي المدينة الشهيرة بالمدينة، ويوجد بها أقدم جامعة في التاريخ وهي جامعة القرويين، انطلق الدكالي في مسيرته نحو السينما بعد الورش والدورات التدريبية التي كان يتلقاها خلال البدايات الأولى في حياته مع فرقة المعمورة المسرحية على يد خبراء فرنسيين في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، وكان الدكالي يهوى التمثيل على المسرح بجانب عشقه وولعه بالغناء.
تعرف الدكالي على العديد من نجوم مصر في مجال الغناء والمسرح والتلفزيون والسينما بعد سفره إلى أرض الكنانة وإقامته هناك، وبرهن الدكالي على براعته في مجال الغناء والموسيقى، حيث أهلته للمشاركة في أفلام كبيرة جمعت نخبة من النجوم مثل نجاة الصغيرة وفايزة أحمد وصباح وشادية ونجوى فؤاد وفؤاد المهندس وليلى طاهر ومحمد عبد الوهاب، وغيرهم.
شارك الدكالي في العديد من الأفلام وتألق فيها، منها “القاهرة في الليل” لمحمد سليم عام 1963 والذي وضع موسيقاه التصويرية مطرب الأجيال محمد عبد الوهاب، كما شارك في نفس السنة مغنيا وممثلا في فيلم آخر شهد متابعة جماهيرية كبيرة، وهو فيلم “منتهى الفرح” الذي شارك فيه عمالقة الغناء والتمثيل من أمثال محمد عبد الوهاب وصباح وفايزة أحمد وفريد الأطرش ومحمد رضا، حيث غنى الدكالي أغنيته الشهيرة “الأولى” التي لحنها بنفسه، وكتبها حسين السيد.
بدأ نجم الدكالي يلمع بعد ظهوره اللافت في تلك الأفلام المصرية إلى جانب عدد من المشاهير، حيث اختاره المخرج يوسف شاهين للمشاركة في فيلم “رمال من ذهب” سنة 1966 إلى جانب عدد من النجوم أبرزهم الممثلة المقتدرة فاتن حمامة، والذي صُور جزء منه في المغرب، وهو فيلم يتحدث عن قصة رقيقة تجمع صديقين هما زبيدة وطارق، الذي يسافر إلى إسبانيا بحثا عن عمل، لكن طول غيابه يجعل صديقته تسافر هي الأخرى بحثا عن حب مفقود.
أفلام.. مصرية ومغربية
توالت مشاركات عبد الوهاب الدكالي السينمائية مع نجوم السينما المصرية والعربية آنذاك، حيث شارك في فيلم “الضوء الأخضر” عام 1974 إلى جانب ليلى طاهر وفريد شوقي، ثم فيلم “أين تخبئون الشمس” للمخرج عبد الله المصباحي، وهو الفيلم الذي شارك فيه الفنان نور الشريف بدور البطولة.
شارك الدكالي في عدة أعمال مهمة على مستوى الأفلام المغربية التي تابعها الجمهور بشغف منها “أيام شهرزاد الجميلة” للمخرج مصطفى الدرقاوي في بداية الثمانينيات، إلى جانب عدد من النجوم أبرزهم الممثلة المصرية القديرة مريم فخر الدين، ثم فيلم “خفايا” لأحمد ياشفين منتصف التسعينيات.
كما برز أيضا نجم صاحب الأغاني الكثيرة والشهيرة منها “ما أنا بشر” و”مولد القمر” و”العامل والفلاح”، و”أنا والغربة” و”الليل والنجوم ومرسول الحب” في الأفلام الاستعراضية، مع مخرجين تأثروا بالموجة السينمائية المصرية خلال الستينيات من القرن الماضي، بعد أن درسوا السينما هناك، ومنهم المخرجان أحمد المسناوي ومحسن المفتي.
ويعتبر فيلم” الحياة كفاح” لمخرجيه أحمد المسناوي ومحمد التازي عام 1968، المحطة الفيلمية الأهم التي سطع فيها نجم الدكالي، حيث لعب الدكالي دور البطولة مع الفنانة ليلى الشنا، وهما الاسمان اللذان كانا يلهمان شباب تلك الفترة في الأناقة والحرية والنجومية والأحلام والتمرد.
أبدع الدكالي في مجال الموسيقى التصويرية من خلال عدد من الأفلام والمسرحيات والأوبريتات، من أبرزها المسرحية الشهيرة “إدريس الأول” للراحل الطيب الصديقي، وأوبريت “هاملت” لمحمد سعيد عفيفي، فضلا عن أفلام” للّا حبي”، و”البحث عن زوج امراتي” لمحمد عبد الرحمن التازي ومن بطولة الراحلة أمينة رشيد، و”ليلة القتل” عام 1992 للمخرج نبيل لحلو، وغيرها من الأعمال الفنية.
ولع بالريشة والألوان
عشق عبد الوهاب الدكالي مختلف أشكال الفنون، فبالإضافة إلى الغناء والتمثيل، كان الدكالي يعشق الرسم، حيث أبدى ولعا بالريشة والألوان منذ طفولته، وكانت خربشاته الأولى في المدرسة توحي باتقاد موهبة أخرى لدى هذا الفنان في المستقبل.
وجد الدكالي في رسم الوجوه والبورتريهات راحة البال، ومناسبة فنية لتكريم العديد من الشخصيات البارزة المغربية والعربية والعالمية في مجالات عدة، وبذلك يكون هذا الفنان المتطلع للعيش قريبا من الفن في كل التجليات والآفاق؛ قد وقع على تأليف نوتة جديدة بلون التميز، ومقطع آخر من مقاطع الريشة التي خبر حركاتها وهو يخلط الألوان، بابتسامة صامتة تفشي سرا لا يعرفه إلا المبدعون الحقيقيون.
شارك عبد الوهاب الدكالي في العديد من المعارض التشكيلية، وأقام الكثير منها كان آخرها معرض متميز بعنوان “عباقرة” الذي نظمه برواق باب الرواح التاريخي التابع لوزارة الثقافة والاتصال بالعاصمة المغربية.
المعرض الذي حضر افتتاحه العديد من الشخصيات من عالم الفن والثقافة والموسيقى والسياسة والإعلام، قدم فيه الدكالي محاكاة في غاية الإبهار والاحترافية لوجوه عدد من المشاهير وشخصيات بارزة من أبرزها العاهل المغربي الملك محمد السادس ووالده الراحل الحسن الثاني، والملاكم الشهير محمد علي كلاي وغاندي وأسطورة كرة القدم البرازيلي بيليه، والعالم المهدي المنجرة والمفكرة فاطمة المرنيسي، والشاعران أحمد شوقي ومحمود درويش، وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ والمغني الشهير لويس أرمسترونغ وغيرهم من الشخصيات والنجوم.
موهبة عابرة للحدود
الفنان التشكيلي رشيد بن عبد الله الذي يتابع باهتمام تجربة الدكالي التشكيلية، قال للجزيرة الوثائقية إن الدكالي المطرب والموسيقار والممثل، هو أيضا رسام من نوع خاص، برعت أنامله الساحرة بحس مرهف في رسم لوحات جميلة، خاصة على مستوى رسم الوجوه والبورتريهات، وهو شيء جميل للغاية، ونادر لأي فنان.
وأكد أن موهبة الدكالي لا تقف عند حدود المحال والمستحيل، بل تتسع إلى كل ما هو حالم وشاعري ويبعث على الأمل، سواء من خلال الموسيقى التي تألق فيها، وحقق شهرة واسعة في المغرب والعالم العربي، أو من خلال المشاركة في الكثير من الأعمال السينمائية، وهو ما يجعل من تجربته الفنية، مثالا لموهبة فنية وإبداعية تفتقت براعمها بالسحر والأناقة والبراعة والتميز.
وشدد بن عبد الله على أن المعرض الذي نظمه الدكالي مؤخرا في رواق باب الرواح التاريخي، يعد أحد الأوجه الحقيقية للاهتمام الكبير لهذا الفنان بالرسم والفن عموما، كفن جعل منه ريشة بها عزف الكثير من الوصلات والمواويل الموسيقية التي راقت للجمهور بكثير من التأمل والإعجاب والاندهاش.
وأشار بن عبد الله إلى أن الدكالي يعد أحد الوجوه الفنية المثابرة والمجددة والمؤثرة الذي اشتهر بأغانيه الرومانسية والوجدانية والوطنية والاجتماعية والإنسانية مثل أغنية “سوق البشرية”، مما جعل منه رائدا من رواد الأغنية المغربية الكلاسيكية، وأحد المؤسسين للفعل السينمائي المغربي، علما بأن الموسيقى والغناء يبقيان عشقه الأدبي الذي أبدع فيه وتألق، بشهادة عمالقة الطرب العربي كمحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وشادية وفريد الأطرش وغيرهم من الفنانين.
مشاركات وتكريميات
أمام هذا الزخم الفني والعطاء المتنوع للدكالي، حظي الدكالي باهتمام كبير من قبل العديد من المهرجانات والتظاهرات داخل وخارج المغرب للمشاركة فيها، كما شارك ضمن لجان تحكيم مهرجانات سينمائية عدة، أبرزها مهرجان السينما الأفريقية الذي يُعد من أقدم المهرجانات الأفريقية في أفريقيا، ومهرجان الفيلم الوطني في طنجة، ومهرجان تطوان الدولي لسينما بلدان البحر الأبيض المتوسط وغيرها من المهرجانات.
واحتُفي بتجربة الدكالي في العديد من المهرجانات والمناسبات، منها تكريمه بالدورة الثالثة لمهرجان الأيام السينمائية لدكالة بالجديدة، وكذلك في المهرجان الدولي لسينما التنوع خلال شهر يوليو/تموز الماضي في تازة، والمهرجان الدولي للفيلم التربوي شهر فبراير/شباط الماضي في فاس، وتكريمه في مدينة مكناس ومنحه مفتاحها، وذلك بمناسبة الذكرى العشرين لتصنيف مكناس تراثا عالميا وإنسانيا.
كما تم تكريمه أيضا خلال مهرجان ربيع أكدال في فاس قبل سنتين، وفي مهرجان تطوان الدولي لسينما بلدان البحر الأبيض المتوسط خلال دورته الـ23 مارس/آذار الماضي، إلى جانب تكريم كل من الممثلة الإسبانية فرنانديز آنا، والممثل المصري خالد الصاوي، والممثلين المغربيين محمد خيي والسعدة لاديب.
أصالة موسيقية
يشير الفنان سعيد الهداني مدير مهرجان الأغنية العربية في محافظة خريبكة، إلى أن الفنان عبد الوهاب الدكالي كان يمتاز عن غيره من الفنانين من جيله بشخصية قوية تفرض على الجمهور والنقاد احترامه، وذلك بالنظر إلى إبداعه الموسيقي الرائد الذي قدمه لحنا وغناء.
لم يفت الهداني التأكيد على تفرد الدكالي ومساهمته الكبيرة في تطوير الموسيقى المغربية والعربية، وكذلك الحفاظ على هويتها الكلاسيكية دون المساس بأصولها، ودون أن تجرفه موجة الموسيقى العصرية التي أصبحنا نراها الآن.
كما اعتبر الهداني أن تألق الدكالي على المسارح داخل وخارج المغرب كمغن لأكثر من ستة عقود، وإصداره للعديد من الألبومات، يشكل علامة بارزة في الحقل الإبداعي الفني العربي، مما ساهم في إثراء الخزانة الفنية العربية، خاصة في شقها الموسيقي.
وعن مساهمة الدكالي في تأسيس النواة الأولى للسينما المغربية، أوضح الهداني أن أغلب الأفلام السينمائية العربية وخاصة المصرية التي تعد رائدة في هذا المجال، اعتمدت على الموسيقى لاستقطاب الجمهور في بداياتها، وكان الدكالي واحدا من نجوم عصره خلال سنوات الستينيات، وقدم أعمالا جيدة ممثلا ومغنيا، ولفت إليه الأنظار، واهتمت به الصحافة واعتبرته من الإشراقات الأولى للانطلاقة الحقيقية للممارسة السينمائية المغربية التي تأثرت بالموجة المصرية والأوروبية.
وشدد الهداني على أن الدكالي رغم مشاركته في الكثير من الأفلام السينمائية المتنوعة ممثلا ومطربا، يظل فنانا موسيقيا بالدرجة الأولى، خُلق لكي يكون كذلك نظرا لموهبته الكبيرة في المجال، فكانت الموسيقى هي الفن النبيل الذي قاده نحو عوالم التمثيل، وكذلك إلى عوالم الفن التشكيلي الذي ولجه فأبان عن حس إبداعي واحترافي رائع.
الأيام السينمائية لدكالة
لعل مهرجان الأيام السينمائية لدكالة بمدينة الجديدة ضواحي مدينة الدار البيضاء، يعد من بين التظاهرات السينمائية التي تتخذ من الموسيقى تيمة لها كل عام، حيث كان لعدد من الأفلام التي تعالج موضوع الموسيقى حظوة كبيرة ليشاهدها الجمهور، إضافة إلى تكريم العديد من التجارب الفنية والموسيقية التي تألقت في المجال السينمائي.
وقد حظي عد الوهاب الدكالي خلال الدورة الثالثة من هذه التظاهرة السينمائية الموسيقية باحتفاء خاص، وهو ما يعتز بذكره مدير المهرجان خالد الخضري الذي أوضح أن الدكالي مبدع محترف جعل من الموسيقى البساط السحري الذي ركبه صهوةً مطيعة باتجاه برج الأحلام.
وبدوره خالد الخضري الناقد السينمائي والكاتب الذي ألف الكثير من الكتب عن السينما ورموزها، وهو فنان أيضا وعازف على آلة العود ومحب للفن التراثي (العطية)، يرى في الموسيقار الدكالي الشخصية الفنية المتفردة الذي أحب الموسيقى حتى النخاع، ومهدت له الطريق للدخول إلى عالم السينما، ليصبح محط أنظار الكثير من المخرجين الكبار، وهو ما ظهر في أعمال سينمائية ناجحة مغربيا وعربيا.
وأكد الخضري أن عبد الوهاب الدكالي أسس منذ الستينيات من القرن الماضي لتجربة موسيقية سينمائية، أو لنقل مشروعا فنيا زاوج بين السينما والغناء، كما نجد ذلك في الأفلام السينمائية الهندية، وهو ما استجاب له الكثير من المخرجين، وحقق متابعة جماهيرية كبيرة.