محمد الخلفي.. سيرة المؤسس الحقيقي للدراما المغربية

المصطفى الصوفي

نظرته الطويلة تجاه المدى البعيد تعني الشيء الكثير للممثلين الشباب الحالمين بركوب صهوة المسرح، وذلك بحثا عن إضاءة أكثر ألقا، وسينوغرافيا أكثر حلما، ومشاهد سينمائية بهية تجعله قدوة فنية وسينمائية من المستوى الرفيع. هذا الممثل الذي أجاد على المسرح لسنوات، صمته أكثر تعبيرا عن الكثير من الأشياء التي تُخالج الروح. هكذا يقول الكثير ممن عاصر هذا الممثل البارع الذي كلّما وقف على المسرح أو أمام الكاميرا تناسلت المشاهد واحدا تلو الآخر أكثر عذوبة وجمالا.

بِذكرنا الممثل محمد الخلفي الذي ولد بمدينة الدار البيضاء في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي؛ يقفز إلى الأذهان الكثير من معاصريه الذين أرسوا أسس التشخيص المسرحي والسينمائي والتلفزيوني المغربي منذ ما قبل الخمسينيات، أبرزهم الراحلون محمد مجد وفاطمة بنمزيان، ومحمد حسن الجندي الذي تألق في فيلم “الرسالة” لمصطفى العقاد، وأمينة رشيد المُلقبة بـ”لالة حبي”، ومولاي عبد الله العمراني وعزيز موهوب وحسن الصقلي وغيرهم من عمداء التمثيل المغربي.

وبالرغم من كونه قدّم الكثير من الأعمال الكوميدية، فإنه يبدو أقوى أمام الكاميرا كلما كان حزينا، وكلما لعب أدوارا تراجيدية ودرامية فيها الكثير من الأسف والألم والعزم على مواصلة المسار بصبر أيوب، وذلك للوصول إلى الهدف المنشود.

إنه فارس التشخيص في المغرب بالرغم من الوعكة الصحية التي ألمّت به خلال الأيام الماضية، لكنه لم يترجّل بعد بل ما زال يقاوم باستماتة، فتارة يبتسم لأصدقائه الذين زاروه في بيته في ضواحي مدينة الدار البيضاء، وتارة يتأمل الأيام الخوالي التي صال فيها وجال، وأخرى يتأسف لحال المشهد الفني الذي يحتاج إلى مزيد من الاهتمام والرعاية رفقا بالعطر والرجال والقوارير.

الراحل الطيب الصديقي الذي أسس فرقة “المسرح العمالي”

 

“المسرح العمالي”.. إنعاش المسرح المغربي

ميزة الخلفي ونقطة قوته أنه يُعدّ من الجيل الذهبي الذي تفتقت موهبته مع فرقة “المسرح العمالي” التي أسسها الراحل الطيب الصديقي، والتي تُعدّ من أبرز الفرق المسرحية المغربية التي حدّدت المعالم الأولى لمسرح مغربي وعربي أكثر احترافية، وذلك من خلال العديد من الأعمال التي قدّمها بتنوع مواضيعها، وفُسحة فرجتها التي لا تُنسى.

موهبة هذا الفنان المحبوب من قبل الجمهور المتقدة شجّعت الراحل الطيب الصديقي آنذاك لاستقطابه إلى فريق المسرح العمالي، والذي نهلت حكاياته الفنية من فيض التراث العربي، والمورث الشعبي المغربي المليء بالحكايات والخرافات والأساطير والسخرية اللاذعة.

العالم الفرجوي للصديقي والخلفي رفقة نخبة من فناني ذلك العصر؛ أنعش المسرح المغربي، وشكّل جمهورا عريضا، وعبّر عن الكثير من الهموم وقيم الهوية وأحلام الشباب على خشبة المسرح، وبعدها تواصلت بالونات المسرح الفرجوي هنا وهناك.

واعتبر العديد من المتتبعين أن مسرحية “في سبيل التاج” المستوحاة من مؤلف للكاتب المصري مصطفى المنفلوطي، تُعدّ إحدى المنطلقات الرائعة التي تألق فيها الخلفي رفقة الممثل والمخرج مصطفى التومي، وكان ذلك عام 1957، وهي المسرحية التي فتحت له آفاقا أرحب على المزيد من الأعمال الإذاعية والتلفزيونية والمسرحية، خاصة مع الطيب الصديقي.

 

الفنان العصامي.. الدخول إلى عالم السينما

قوّى الخلفي من فعالية ظهوره على المسرح وأدائه المُقنع عبر المشاركة في العديد من أعمال فرقة المسرح العمالي للطيب الصديقي، التي عرضت داخل البلاد وخارجها، ومنها “بين يوم وليلة” و”الوريث وغيرهما، فأصبح الفتى اليافع مطلوبا لدى العديد من المخرجين، مما كرّس حلمه بالنجومية بالدخول إلى عالم السينما.

ومع توالي ظهور الخلفي في أعمال جديدة خلال ستينيات القرن الماضي نافس هذا الفنان الفذّ العديد من الأسماء في المجال، خاصة الراحل حسن الصقلي ابن الدار البيضاء أيضا، ومصطفى التومي، وعائد موهوب، وإبراهيم الوزاني وعبد الصمد دينيا، وغيرهم من الفنانين الذين عاصروه.

وقد اكتسب هذا الفنان العصامي الذي راكم تكوينات وتدريبات مسرحية مهمة على يد مغاربة وأجانب؛ تجربة عالية في التشخيص (التمثيل)، فأصبح مطلوبا لدى العديد من المخرجين والمنتجين في أعمال متنوعة، سواء في المسرح أو التلفزيون أو السينما.

 

“الضحية” و”بائعة الخبز”.. الهم الجماهيري

ساهمت تجربة الخلفي المتميزة إلى انتقاله للاشتغال مع فرق مسرحية عديدة، أبرزها فرقة مسرح البدوي، وفرقة المسرح البلدي بالدار البيضاء، ليلتحق بعدها للاشتغال مع فنانين جُدّد أمثال أحمد الناجي ونعيمة المشرقي والشعيبية العدراوي وغيرها، ليرسو به المطاف إلى تأسيس فرقة خاصة به أُطلق عليها اسم “المسرح الشعبي” في نهاية الخمسينيات.

وتكمن ميزة وقوة هذه الفرقة التي أسسها الخلفي بشكل مستقل في أنها عملت على تقديم أعمال فرجوية قريبة من الجمهور، وعالجت مواضيع اجتماعية تُعبّر عن الضمير الجماعي للمواطنين وعن تطلعاتهم، كما طرحت مواضيع كثيرة تفاعل معها المُتلقي بشكل كبير، خاصة مواضيع الهمّ الجماهيري التوّاق للحرية والانعتاق من ربقة التخلف والتقاليد البالية وأحلام المستقبل، فضلا عن مواضيع أخرى ترتبط بالهوية والتراث والوطن.

كما ساهم إشعاع هذه الفرقة المسرحية الجديدة في تقديم مجموعة من الأعمال التي حققت متابعة مهمة من قبل الجمهور، فضلا عن اشتغالها مع العديد من رموز المسرح المغربي، أبرزهم الممثلة الكبيرة ووزيرة الثقافة المغربية سابقا ثريا جبران، خاصة في مسرحية “العائلة المثقفة”.

وإلى جانب المسرح ظلّ محمد الخلفي مهوسا بعشق الميكروفون والإذاعة والتلفزيون، فقدّم العديد من الأعمال التي لا يزال الجمهور يتذكرها بإعجاب وتقدير فني كبير، منها أطباق متنوعة كوميدية فكاهية، ومسلسلات أبرزها “بائعة الخبز”، والسلسة البوليسية الشهيرة “الضحية”.

 

بين “ملوك الطوائف” و”الضوء الأخضر”.. أدوار مُحترفة

تواصلت أعمال الخلفي في القناة الأولى والثانية المغربيتين مع العديد من المخرجين، حيث تألق خلال السنوات الأخيرة في الكثير من المسلسلات، أبرزها “الخواتات” للمخرج عبد الصمد دينيا، و”لالة فاطمة” للمخرج نبيل عيوش، التي لعب فيها إلى جانب العديد من نجوم الكوميديا المغربية دور الحاج قدور.

وعلى مستوى الأعمال الأجنبية يمكن القول إن الخلفي من الممثلين الذين كانوا يختارون جيدا الظهور في الأعمال دون الاهتمام بالماديات، حيث شكّل ظهوره في السلسلة التاريخية “ملوك الطوائف” للمخرج السوري حاتم علي حدثا فنيا راقيا لا يزال الممثل يذكره بكثير من الفخر والاعتزاز.

كما برع الخلفي في مجال السينما التي شكلت له كذلك مجالا مُغريا لإبراز موهبته المتقدة، وذلك في العديد من الأدوار التي استطاع أن يجسّدها باحترافية عالية، وقد استهل مسيرته السينمائية مع المخرج عبد الله المصباحي في فيلمي “الضوء الأخضر و”الصمت اتجاه ممنوع”، وذلك خلال بداية سبعينيات القرن الماضي.

 

“الوتر الخامس” و”أيام شهرزاد الجميلة”.. صائد الجوائز

كما تألق مع المخرجة سلمى بركاش في فيلمها “الوتر الخامس” سنة 2004، وهو الفيلم الذي حاز على جوائز عدة بمهرجانات وطنية ودولية، فضلا عن تألقه أيضا مع المخرج محمد إسماعيل في فيلميه “هنا ولهيه” و”اوشتام”، دون نسيان مشاركته الوازنة في العديد من الأفلام القصيرة لمخرجين بارزين، منهم هشام العسري.

وكان فيلم “أيام شهرزاد الجميلة” في بداية الثمانينيات لمصطفى الدرقاوي من الأفلام الجميلة التي يحتفظ الخلفي بذكراها المتفردة، خاصة أن هذا الفيلم جمعه بالعديد من نجوم السينما المغربية أبرزهم الفنانة المقتدرة نعيمة المشرقي، والفنان عبد الوهاب الدكالي.

وبالمناسبة يعيش هذا الممثل هذه الأيام وضعا صحيا صعبا، حيث يمكث بمقر سكناه بضواحي مدينة الدار البيضاء، في ظروف تطرح أكثر من سؤال عن حال الفن والكثير من الفنانين المغاربة الذين حين يمرضون يظلون يعانون بصمت، وذلك حفاظا على ما تبقى لهم من كرامة.

 

الفنان المغربي.. البطاقة المحترقة

أطلق الناقد والكاتب المغربي أحمد سجلماسي نداء في الآونة الأخيرة للاهتمام أكثر بهذا الفنان، وذلك في ظلّ ظروفه الصحية العصيبة، ومن خلاله بالعديد من الفنانين الذين يعيشون ظروفا قاسية، بعد أن غدر بهم زمان الفن الذي لا يرحم.

كما قام وزير الثقافة والشباب والرياضة الناطق الرسمي بالحكومة حسن عبايبة بزيارة تفقدية للفنان الأسبوع الماضي، وذلك للرفع من معنوياته، وهي مناسبة أعطى فيها الوزير تعليماته للاهتمام بهذا الفنان الذي يُعدّ من الروّاد والمؤسسين للحركة الفنية المغربية.

وفي ظلّ مثل هذه الظروف، يُطرح من جديد الوضع الاعتباري للفنان، ومدى قيمة بطاقة الفنان التي أصبح يحملها غالبية الفنانين المغاربة في ألوان إبداعية عدة، وأهمية خدماتها الاجتماعية خاصة الصحية، ودور النقابات والجمعيات الفنية التي تهتم بالفن والفنانين لمساعدة الفنانين في مثل هذه الحالات.

وزير الثقافة المغربي أثناء زيارته لمحمد الخلفي

 

60 عاما من الدراما.. مسيرة مؤسس

يظل الفنان محمد الخلفي أبرز روّاد المسرح والتلفزيون والسينما في المغرب، ومن المؤسسين الحقيقين للدراما والتشخيص المغربي منذ أكثر من 60 سنة، وبالرغم مما قدّمه من أعمال ممتعة وجميلة، فإن المخرجين في الوقت الراهن للأسف لم يستفيدوا أكثر من هذا الرمز الفني والطاقة الهائلة والمؤهلات التي لديه للقيام بأدوار تناسب تجربته الرائدة التي راكمها منذ سنوات.

إلى هنا يسير الخلفي على مهل، يصل إلى شرفة البيت الذي يؤويه، يرنو إلى الفضاء الفسيح الأخضر باتجاه مدينة سطات، يتناهى إلى سمعه صفير قطارات تمرّ من الجوار، يعي جيدا أنها تسير باتجاه مراكش الساحرة بفنها وتراثها ومسرحها العريق.

في السماء يتطلع إلى أزيز طائرة أقلعت للتو من مطار محمد الخامس الدولي، فقد اعتاد على صوت محركاتها خاصة أثناء الليل، يتابعها بهدوء إلى أن تختفي وسط الضباب، سرب حمام يخطف نظرته إلى الجهة الأخرى، يتذكر مشاهد من أفلام “أيام شهرزاد الجميلة”، يغمض عينيه للاستمتاع بـ”الوتر الخامس” لسلمى بركاش، متذكرا صهوات الخشبات المسرحية التي صال فيها وجال كفارس مغوار.


إعلان