محمد بيومي.. عرّاب السينما المصرية الذي لا يعرفه أحد

الفنان المصري هشام عبد الحميد

هو أول رائد للسينما المصرية، إنه عرّابها ومؤسسها. لكن للأسف لا يكاد أحد من الناس العاديين يسمع عنه أو يعرفه، لأن المعلومة الخطأ المتداولة أن “طَلعَتْ حَرب” هو صاحب اليد العليا في إنشاء السينما المصرية، وأن طلعت هو الذي أنشأها، وذلك كونه الاقتصادي العظيم الذي أنشأ بنك مصر، وبالتالي هو من أراد أن يُقّدم لبلده صناعة سينمائية وفنونا تطبيقية لم يكن أحد يتصوّر أن تكون بهذا الحجم.

المُحزن في المسألة أن محمد بيومي هو في حقيقة الأمر الجذر الحقيقي لهذه السينما، بل والشعلة الأصلية لتطوُّرها، وهو الذي أضاء الطريق كي تتبوّأ تلك السينما مكانة لا يُستهان بها. لكن كعادة العظماء ذوي النبل الإنساني في بلادنا، فهم يتعرضون دوماً للخيانات والجحود ونكران الجميل.

هذا ما حدث مع بيومي أثناء تعاونه مع طلعت حرب الذي اقترح عليه عام 1925 تصوير مراحل إنشاء “بنك مصر”، ومن ثم تطورت الفكرة والاقتراح للتخطيط لإنشاء “إستوديو مصر”، وهو أكبر إنجاز سينمائي في ذلك الوقت، ثم ألحق به شركة الإعلانات المصرية. لكن ما حصل لاحقا هو أنه بعدما أسند لطلعت حرب كل المهام، بما فيها إدارة المشروع والتخطيط، كونه كان صاحب ذلك المشروع؛ التفَّ طلعت في نهاية الأمر على كل ذلك وحذف اسم محمد بيومي واستأثر من دونه بكل النجاح، وقطف بذلك كل الثمار، دون الإشارة ولو من باب المجاملة، ولو بإشارة عابرة إلى صاحب المشروع الحقيقي؛ محمد بيومي. فمن هو ذاك الفارس الجريء المجنون بالسينما؟

آثار تعود لمقبرة توت عنخ آمون بالمتحف المصري بالقاهرة، والتي عمل محمد بيومي على تسجيل تفاصيل افتتاحها (رويترز)

 

مقبرة توت عنخ آمون.. توثيق لأحداث نادرة

وُلد محمد بيومي عام 1894 وتوفي عام 1963، وخلال هذه الرحلة خاض بيومي تجارب ثرية في خضمّ حُبّه للسينما، ومعاناة كبيرة من قسوة القدر في صراعه مع السلطات بشأنها، فقد اشترك في البداية مع بشارة واكيم في فرقة تمثيل باسم “وادي النيل”، وانضمت إليهم فيما بعد “ماري مُنيب”.

ثم بدأ بيومي يسافر إلى أوروبا وتحديداً برلين، واستطاع أن يتداخل مع الحركة السينمائية هناك، حيث عمل ككومبارس لدى شركة “غلوريا فيلم”، ونجح في عقد صداقة مع مدير التصوير الألماني “بارنجر” الذي أمدّه بكل ما يخصّ السينما من أجهزة ومعدات (أجهزة الإضاءة والصوت والمونتاج) وما إلى ذلك من أجهزة تقنية مكّنته عندما جاء إلى مصر أن يحقق حلمه الطموح بتأسيس أول أستوديو سينمائي، كما استطاع إصدار أول جريدة رسمية في تاريخ مصر، وسمّاها جريدة “آمون”.

عمل بيومي بجدّ على عرض وتوثيق أحداث نادرة في تاريخ مصر، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر تسجيلا سينمائيا للحظات وصول سعد زغلول من منفاه واستقبال الجماهير له، كما سجّل تفاصيل افتتاح مقبرة توت عنخ آمون، وسجّل أيضاً تصوير جنازة “السير لي ستاك” كولونيل الجيش البريطاني في السودان، الذي اغتيل في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1924، لخلاف حدث مع المملكة السعودية.

 

“الباشكاتب”.. أعمال ناضجة في زمن قياسي

أنجز بيومي أفلاماً قصيرة وطويلة للسينما المصرية بدأها بالفيلم القصير “برسوم يبحث عن وظيفة” بطولة بشارة واكيم وعبد الحميد زكي ومحمد شفيق، ثم أتبعه بإخراج فيلم “الباشكاتب”، ثم “خطيب نمرة 13″، و”زعزع زعتر”، ثم “ليلة في العمر”. وما يعنينا هنا أن محمد بيومي كَوّن أعمالا ناضجة جماليا بمقياس زمنه، وتتماشى نسبيا مع السينما في العالم، فقد حرص في أفلامه على تقديم السخرية والمقالب (farce).

وبالتوازي خرج بيومي للتصوير الخارجي، ولم يكتفِ بالتصوير الداخلي للمَشاهد التي صممها، فبهذه الخطوة كان بيومي سباقا في مجال التصوير الخارجي حتى من أتى من بعده كالمخرج محمد كريم، وقد انطلق بالكاميرا لتصوير مشاهد كثيرة في الريف المصري مُلتقطا جماله وبراءته، كفيلم “ليلة في العمر” الذي تحكي قصته عن زوج فلّاح وزوجته ينتقلون من الريف إلى المدينة، وعن المباريات التي تحدث في هذا الصدد.

 

وعود محمد نجيب.. رئيس في الإقامة الجبرية

وسط هذه الإنجازات العظيمة كان محمد بيومي يمرّ بأوقات صعبة، خاصة عندما فقد ابنه الصغير الذي حزن عليه حزنا شديدا، جعله ذلك إضافة للمشكلات الكبيرة التي واجهته في العمل مع طلعت حرب وأعوانه؛ يتوقف أو يعتزل السينما أو يكاد، لكنه عاد مرة أخرى وقلبه مليء بالطموح والأحلام للسينما معشوقته الأساسية.

لعل بيومي أخطأ دون قصد عندما قامت حركة 23 يوليو بذهابه إلى محمد نجيب -أول رئيس لمصر- عارضا عليه مشاريعه، وقد أثنى عليه محمد نجيب ووعده بإسناد الكثير من المهمات له، لكن لم يتحقق شيء من تلك الوعود، وقد حاول محمد بيومي أن يلتقي مرة أخرى بنجيب، إلا أن نجيب كان قد أُجبر على الإقامة الجبرية، ولم يعد رئيسا.

محمد بيومي خلال تصويره فيلما وثائقيا خاصا بـ”المرسى أبو العباس” عام 1932

 

في مهبّ الريح مرّة أخرى.. الثمن الباهظ

أصبح محمد بيومي مرة أخرى في مهبّ الريح يبتكر ويصنع المشاريع ليعرضها على ذوي الأمر فيرحبون بها ثم ما تلبث وعودهم وترتيباتها أن تذهب أدراج الرياح. تُرى هل دفع محمد بيومي ثمن اتصاله -عن غير قصد- بمحمد نجيب دون أن يُشرك بقية الضباط الأحرار؟

هذا ما حصل تماماً مع ليلى مراد -ودعمها فى ذلك محمد فوزي- عندما كانت تشكو لمحمد نجيب عن سوء معاملة الضباط الأحرار الجافة لها. على أيّة حال، لقد دفع الثلاثة “بيومي وليلى وفوزي” ثمن هذا الفعل غير المقصود، لينالهم ما نالهم من تهميش وإقصاء. وبالفعل لم تُكلل كل محاولات محمد بيومي بالنجاح، ولم يفكر مسؤول واحد بالاستفادة من أفكار بيومي العظيمة لإنجاح فن وصناعة السينما المصرية.

غامر ذلك الرجل المتفاني كثيرا، وتحرّك بين الوزارات بدأب وهمّة عالية، فخاطب وزارة التجارة والصناعة التي رحبت بأفكاره ومشاريعه، لكن لم يتحرك مسؤول لتنفيذها، ورغم ذلك فإنه لم ييأس وسافر عام 1956 إلى النمسا، ثم إلى فرانكفورت لدراسة التصوير المُلوّن في مصانع شركة أدوكس، لكن كل هذا الجهد ذهب أدراج الرياح أمام تجاهل النظام.

رحل محمد بيومي عن عالمنا ولم يسمع به أحد تقريبا، إلى أن جاء فيلم المخرج محمد كامل القليوبي البديع “محمد بيّومي ووقائع الزمن الضائع”، ليُعيد قراءة تاريخ تأسيس السينما في مصر بطريقة أكثر إنصافاً، ويُقدّم لنا في أوائل التسعينيات من يعتبر مؤسسا أصليا لصناعتها، وليعيد الاعتبار لمحمد بيومي الرائع الذي مضى وكاد أن لا يعرفه أحد.


إعلان