محمود ياسين.. الفنان المقاتل الذي حارب في الواقع والسينما

أسامة صفار

 

لم يكن الممثل المصري محمود ياسين في مزاج يسمح له بالحوار مع أي شخص، فقد بدا في حالة ضيق شديد حين عاد من أول موعد تصوير لمسلسله “صاحب السعادة” مع زميله وصديق عمره عادل إمام، ولم يشأ أي من أفراد أسرته أن يسأله عما به إلى أن يهدأ قليلاً. لم تمر سوى ساعة واحدة إلى أن تلقى ياسين بعدها اتصالا مختصرا جدا من أحد مديري الإنتاج في المسلسل يعتذر فيه عن إعفاء ياسين من دوره في العمل.

لم يصدق نجم المسرح والسينما المصرية لنحو ثلاثين عاما أنه يتعرض للاستبعاد من عمل فني بهذا الشكل، وعن طريق مدير إنتاج المسلسل، وبعد سنوات من المجد وصناعة التاريخ والجماهيرية.

ألقى النجم السبعيني بالهاتف إلى أبعد نقطة في غرفة مكتبه، وطلب كوب ماء من مساعدته التي أبلغت زوجته الممثلة شهيرة بما حدث فاندفعت الأخيرة إليه متسائلة، فقال بحكمته المعروفة: ليس أصعب من البدايات سوى النهايات، ويظهر أن مشهد النهاية في حياتي المهنية قد انتهى تصويره حالا.. وقد كان.

وبالفعل لم يشارك النجم المصري الكبير في أي عمل فني من بعدها رغم أن “صاحب السعادة” كان الفرصة الوحيدة لمشاركة نجمين تاريخيين مثل محمود ياسين وعادل إمام في عمل واحد، فرغم الصداقة والزمالة التي ربطت بينهما لم يحدث أن عملا معا أبدا.

هل استبعد عادل إمام محمود ياسين لأنه رفض أن يأتي اسمه في مقدمة العمل تاليا لاسم عادل إمام؟ هل ضعفت ذاكرة محمود ياسين لدرجة عدم القدرة على حفظ الحوار مما أهدر وقتا كبيرا أثناء التصوير؟ هل وهل.. لم تكن الإجابات ضرورية، فقد كان الواقع قاسيا بما يكفي، وثمة طريقة للاستبعاد كان من المستحيل توقعها، لكنها حدثت.

ولم تمر سوى فترة قصيرة حتى صرحت الممثلة شهيرة زوجة محمود ياسين في أحد البرامج التلفزيونية قائلة: محمود لن يعمل بعد الآن.

 

أيام العدوان الثلاثي.. مقاتل بالليل وقارئ بالنهار

كان المسار الذي أُسدل عليه ستار داكن اللون يعد واحدا من ملامح الفن المصري الراقي الذي جمع بين الأداء الرفيع والالتزام المهني والإنساني، فضلا عن التنوع وتوحيد الثقافة والأداء التمثيلي في تجربة نادرة لا تتوفر في العديد من الممثلين والممثلات.

ويشير اسم ياسين دائما إلى رخامة الصوت والمشروعات الفنية المرتبطة بالتوجهات الوطنية والقومية، فقد اعتبر معلما أساسيا من احتفالات نصر أكتوبر السنوية لسنوات طوال، سواء عبر الأداء في الاحتفالات نفسها أو عبر عرض فيلمه “الرصاصة لا تزال في جيبي”.

لم تكن موهبة محمود ياسين من ذلك النوع الذي يمكن ترويضه والتحايل عليه والاحتفاظ به في مساحة الهواية، لذلك كانت قراراته حاسمة ومغامرة بما لا يتفق مع ما هو متوقع من شاب هادئ ومتميز ودارس للقانون.

فقد ترك مدينته بور سعيد (200 كيلومتر شرق القاهرة) في منتصف الستينيات من القرن الماضي، ليلتحق بكلية الحقوق في جامعة عين شمس التي لم يعد إليها إلا في زيارات خاطفة بعد ذلك، فقد اختطفه المسرح الذي أغرم به منذ كان صبيا، حيث كان يساعد الفدائيين في مقاومة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 مساء، ويمارس هوايته في القراءة والتمثيل مع أصدقائه صباحا.

 

خمسون جائزة.. ثمرات مسيرة طويلة من النجاح

أنجز محمود ياسين خلال مسيرته السينمائية ما يقرب من 150 فيلما و21 مسلسلا و10 مسرحيات، وحصل على أكثر من 50 جائزة في مختلف المهرجانات في مصر وخارجها، من بينها جائزة التمثيل من مهرجان طشقند عام 1980، ومهرجان السينما العربية في أمريكا وكندا عام 1984، ومهرجان عنابة بالجزائر عام 1988، وحصل على جائزة الدولة عن أفلامه الحربية عام 1975، وجائزة الإنتاج من مهرجان الإسماعيلية عام 1980.

اختير محمود ياسين رئيس تحكيم للجان مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون عام 1998، ورئيس شرف المهرجان في نفس العام، إلى جانب توليه منصب رئيس جمعية كُتاب وفناني وإعلاميي الجيزة، كما حصل على جائزة أفضل ممثل في مهرجان التلفزيون للعامين 2001 و2002، واختير عام 2005 من قبل الأمم المتحدة سفيرا للنوايا الحسنة لمكافحة الفقر والجوع، وذلك لنشاطاته الإنسانية المتنوعة.

ينتمي محمود ياسين إلى ذلك الجيل الذي تفتح للحياة والفن، وأصبح جاهزا للنجومية في منتصف ستينيات القرن الماضي، لكن هزيمة يونيو/حزيران عام 1967 عطلت نجوميته وانتشاره بشكل كبير حتى ما بعد حرب 1973، فقد أنجز أعمالا جديدة جاءت في إطار مقاومة الشعور بالهزيمة.

 

أزمة في أيام النجومية الأولى.. تشابه البداية والنهاية

كانت أول أعمال ياسين السينمائية قد شهدت أزمة تكاد تستدعي أزمة مشهد نهاية مسيرته وتدعو لتأمله، ففي بداية المسيرة طلبه المخرج الكبير يوسف شاهين لبطولة فيلم “الاختيار” وتعاقد معه بالفعل ووقع الاتفاق على كل شيء، وقد صممت الملابس لتأدية المشهد.

لكن المخرج الكبير صلاح أبو سيف طلبه أيضا لفيلم “القضية 68″، فذهب ياسين إلى المنتج حلمي حليم ليعتذر منه كونه تعاقد مع شاهين الذي اشترط أن يتفرغ للعمل معه، فوعده حليم بحل المشكلة مع شاهين ودفعه لتوقيع عقد “القضية 68”.

ذهب محمود ياسين ليخبر يوسف شاهين بالأمر، فأعفاه من دوره بشكل عنيف وقاس لكن دون أن يخبره بشيء، وقد ظن الممثل الشاب أن المخرج غاضب فقط، فاعتذر عن “القضية 68” أيضا، ولكنه أُبلغ بأن المخرج صلاح أبو سيف قد استغنى عنه كذلك.

وبعد أن كان أمام أهم عملين سينمائيين لأهم مخرجي مصر أصبح بلا عمل، وجلس في بيته أسبوعا كاملا حتى فاجأه صلاح أبو سيف أنه في انتظاره لبدء التصوير.

 

حب الوطن.. إرث القومية العربية في الدم

يهتم محمود ياسين بالتفاصيل بشكل مبالغ فيه، ولا يرضيه إلا الإتقان والتفاني في العمل، لذلك اعتبره النقاد مدرسة مستقلة في الأداء الحرفي الدقيق، وهي سمات يبررها انتماؤه إلى أب تميز بالحكمة والإخلاص والحب لبلاده وتفضيله لمصلحة الوطن على مصالحه الخاصة، ويبررها أيضا انتماؤه إلى غرامه الأول المتعلق بالمسرح الذي يمنح الممثل معرفة ردود الفعل الفورية من قبل الجمهور ولا يمنحه أي فرصة لإصلاح الخطأ على الخشبة.

كان الأب يتمتع بكل مزايا موظفي شركة قناة السويس، من مرتب جيد إلى منزل فخم في حي للأجانب في منطقة بورسعيد، لكنه طار فرحا بعد تأميم الحكومة المصرية لها رغم حرمانه من المنزل والمرتب الضخم فيما بعد.

وقد نشأ محمود مثل أبيه مؤمنا بالقومية العربية، واستمر مؤمنا يحلم بالقومية العربية معتبرا نفسه مواطنا عربيا يعيش في مصر، ولم تكن مشاركته في الاحتفالات الوطنية مجرد عمل يعود لقدراته في الأداء وصوته المميز فقط، ولكن الرجل كان يصدق ما يفعله تماما.

تبرا نفسه مواطناً عربياً يعيش في مصر، ولم تكن مشاركته في الاحتفالات الوطنية مجرد عمل يعود لقدراته في الأداء وصوته المميز فقط، ولكن الرجل كان يصدق ما يفعله تماما.

 

“شيء من الخوف”.. عرض بأمر من عبد الناصر

لدى النجم المصري محمود ياسين عدد من المحطات المتميزة في السينما على مدى مسيرته منها فيلم “شيء من الخوف” (1969)، وهو من قصة ثروت أباظة وحوار عبد الرحمن الأبنودي، وشارك فيه مع الفنانين محمود مرسي ويحيى شاهين وصلاح نظمي وبوسي وكان من إخراج حسين كمال.

وقد واجه هذا الفيلم صعوبات رقابية كادت تمنعه من العرض بسبب الإسقاطات السياسية، لاعتقاد الرقيب أن شخصية عتريس ترمز للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لكن عبد الناصر نفسه هو من طلب عرضه.

من الأفلام التي شكلت جزءا مهما من مسيرته فيلم “نحن لا نزرع الشوك” (1970) مع الفنانة شادية، وهو من قصة يوسف السباعي مع إخراج متميز للراحل حسين كمال، وقد لقي نجاحا جماهيريا ونقدا كبيرا واعتبر من أبرز علامات تاريخه الفني، وما زال الفيلم بعد مرور نحو نصف قرن على صناعته يلقى ترحيبا واحتفاء كلما عرض على الشاشة الصغيرة.

كما شارك سيدة الشاشة العربية في فيلم “الخيط الرفيع” (1971) من إخراج هنري بركات، ثم “أنف وثلاث عيون” (1972) للمخرج حسين كمال مع الفنانين ماجدة وميرفت أمين ونجلاء فتحي وصلاح منصور.

 

“أغنية على الممر”.. الابن البكر لجماعة السينما الجديدة

جاءت تجربة فيلم “أغنية على الممر” (1972) الذي شارك في بطولته عدة فنانين منهم محمود مرسي وصلاح السعدني وصلاح قابيل، وكان من إخراج علي عبد الخالق؛ لتشكل حالة خالة خاصة في السينما المصرية، وتمثل تتويجا لتجربة مصرية عربية تطمح لمقاومة مشاعر هزيمة 1967 التي سيطرت على الوجدان العربي.

تشكلت جماعة “السينما الجديدة” عام 1968 وضمت المخرج المصري علي عبد الخالق والأردني غالب هلسا ومحمد خان وخيري بشارة، وكان فيلم “أغنية على الممر” هو باكورة إنتاجها، فقد أراد أصحابه أن يكون مقاوما ومجسدا لروح التطلع لمستقبل أكثر عزة وإشراقا.

ورغم ضخامة وصعوبة تصوير العمل فإن محمود ياسين قدم في العام نفسه الفيلم المميز “أين عقلي” مع سندريلا السينما المصرية سعاد حسني، وقد عرف عن ياسين في تلك الفترة كثافة العمل حتى إنه قدم 12 فيلما عام 1975، أي ما يعادل فيلما كل شهر.

 

“وقُيدت ضد مجهول”.. حين سرق المفسدون الهرم والنيل

بدأ محمود ياسين عقد الثمانينيات بفيلم “وقُيدت ضد مجهول” من إخراج مدحت السباعي، وقد عكس الفيلم التحولات التي عصفت باستقرار المنظومة القيمية للمجتمع المصري واستشراء الفساد فيه، إذ تدور قصة الفيلم حول الفلاح صابر الذي يعمل في حراسة بعض المنشآت، ولكن تقع بعض السرقات أثناء نوبة حراسته، فيُنقل إلى منطقة الأهرام حيث لا توجد هناك مقتنيات ولا أمتعة يمكن سرقتها، فتقع المفاجأة عندما يسرق هرم خوفو وينشغل الرأي العام المصري والعالمي بالحادث.

يبدأ ضابط المباحث رشدي بالتحقيق في الحادث ويتهم صابر بأنه قام بالتواطؤ مع آخرين في عملية السرقة، وعندما يطالب بعض الصحفيين الأجانب مقابلة صابر يقوم الضابط نظيم بنقل صابر إلى مستشفى الأمراض العقلية، وهناك يتقابل صابر مع بعض النماذج التي تفضل الإقامة بالمستشفى بعد أن تعرضت لضغوط المجتمع وفساده، ثم يظهر الهرم في إحدى قرى المكسيك وتجرى المفاوضات بين البلدين لإعادته، وتقيد القضية ضد مجهول.

يعود صابر إلى بلدته، وتكون المفاجأة الثانية أن نهر النيل قد سُرق أيضا كما سرق الهرم، ثم تقيّد القضية أيضا ضد مجهول.

بوستر فيلم “وكالة البلح” الذي يدور حول رواية الأديب الحاصل على جائزة نوبل نجيب محفوظ

 

حقبة الثمانينيات.. محطات سينمائية متميزة

من المحطات الفنية المتميزة في تاريخ محمود ياسين فيلم “وكالة البلح” (1982) مع نخبة من الفنانين منهم نادية الجندي ومحمود عبد العزيز وسيد زيان ووحيد سيف. ويدور حول رواية الأديب الحاصل على جائزة نوبل نجيب محفوظ، وهو من سيناريو وحوار مصطفى محرم، وإخراج حسام الدين مصطفى.

وبعده قدم فيلم “السادة المرتشون” عام 1983 مع الفنانين محمود عبد العزيز وسعيد صالح ونجوى إبراهيم وإخراج علي عبد الخالق، وهو من الأفلام التي انتقدت الانفتاح الاقتصادي الذي عصف بملامح المجتمع المصري.

وضمن اختياراته الناقدة للمرحلة وسياساتها قدم “الشيطان يغني” عام 1984 مع الفنانين بوسي وليلى علوي، وهو من تأليف وإخراج ياسين إسماعيل ياسين.

كما شارك بعد ذلك في بطولة فيلم “الحرافيش” عام 1986 مع الفنانين ليلى علوي وصلاح قابيل وممدوح عبد العليم عن قصة وسيناريو وحوار نجيب محفوظ وإخراج حسام الدين مصطفى.

وفي 1990 شارك في فيلم “ليل وخونة” الذي التقى فيه مع النجم الراحل نور الشريف، وهو من قصة وسيناريو وحوار نجيب محفوظ، وإخراج أشرف فهمي. كما شارك في “عودة الهارب” عام 1990 مع شهيرة وعزت العلايلي وإخراج يوسف أبو سيف.

 

“فتاة من إسرائيل”.. مقاومة التغلغل الصهيوني في ظل التطبيع

وفي نهاية التسعينيات انتقلت اختيارات محمود ياسين إلى مساحة الجدل حول استشراء الخطر الإسرائيلي عبر الاختراق من خلال معاهدة السلام مع إسرائيل، فقدم عام 1998 فيلم “حائط البطولات” من إخراج محمد راضي، و”فتاة من إسرائيل”عام 1999 من إخراج شريف عارفة.

وتفرغ بعد ذلك لتقديم عدد متميز من المسلسلات ثم عاد للسينما مع المخرج محمد ياسين ومجموعة من النجوم الشباب بفيلم “الوعد” عام 2008 مع الممثلة روبي وياسر ياسين وأحمد عزمي عن قصة وحيد حامد، ثم “عزبة آدم” عام 2009 مع دنيا سمير غانم وأحمد عزمي وإخراج محمد كامل القليوبي.

 

البيت الفني للمسرح.. عاشق الخشبة الذي اختطفته الشاشة الكبيرة

كان محمود ياسين يؤمن بالمسرح كفن خالد وجاد، ويرى في السينما عملا ترفيهيا سوف ينتهي مع الأيام، لذلك صب اهتمامه على المسرح وقدم أعمالا مميزة، بينما قدم أدوارا صغيرة في بعض الأفلام منها فيلم “الرجل الذي فقد ظله” (1968) وفيلم “القضية 68” (1968).

ولكن الفرصة الحقيقية جاءته من خلال فيلم “نحن لا نزرع الشوك” (1970)، ليحقق نجاحا كبيرا ويدرك من خلاله قدرة وتأثير السينما على المشاهد، وينطلق في الأستوديوهات ليصل رصيده إلى 150 فيلما. لكن المسرحيات التي قدمها في بداياته أهلته في عام 2012 لتولي رئاسة البيت الفني للمسرح، وهو الجهة الرسمية التي تشرف على مسرح الدولة في مصر.

ومن أبرز أعماله المسرحية “ليلى والمجنون” و”ليلة مصرع جيفارا” و”وطني عكا” و”واقدساه” و”عودة الغائب”، كما لعب دور الراوي في مسرحية “سليمان الحلبي” و”دائرة الطباشير القوقازية” و”الزير سالم”.

وبعد مسيرة فنية طويلة توفي الفنان المصري الكبير محمود ياسين صباح الأربعاء الموافق 14 أكتوبر/تشرين الأول الجاري عن عمر يناهز 79 عاما، بعد صراع طويل مع مرض الألزهايمر الذي أصابه قبل ثمانية أعوام. وكان ابنه الكاتب والممثل عمرو محمود ياسين قد أعلن عبر صفحته في فيسبوك وفاة والده.


إعلان