حميد بناني.. 50 عاما من عطاء فيلسوف السينما المغربية

المصطفى الصوفي

يكاد فيلم “وشمة” للمخرج المغربي حميد بناني يختزل بشكل بارع عالما ساحرا من الوقائع والأحداث المتشابكة في قالب فني مشوق للغاية، ليجعله العمل السينمائي المغربي النموذجي في سبعينيات القرن الماضي.

بهذا المعطى السينمائي القوي يجمع معظم النقاد والباحثين والأكاديميين أن فيلم “وشمة” يعد مدرسة سينمائية بامتياز وفق في إرساء أسسها حميد بناني بشكل كبير، فكان مرجعا حقيقيا للعديد من المخرجين والسينمائيين كأول عمل سينمائي محترف بالمعنى الصحيح.

فيلم “وشمة” إذن واحد من إبداعات المخرج السينمائي المغربي حميد بناني، ويعالج فيه قضايا مختلفة في آن واحد، مثل الطفولة والتصوف والدين والمغامرة والأبوة بطموحها لضمان مستقبل الأولاد، كما لا يخلو من عالم الجريمة والنهايات المأساوية وكبوة البطل كحصان.

لقطة من فيلم “وشمة” للمخرج “حميد بناني”، والذي يعتبر مدرسة سينمائية بامتياز

 

حميد بناني.. محطات سينمائية زاخرة

يحكي فيلم “وشمة” قصة أب محافظ وعنيف يتمادى في عقاب ابنه مسعود الذي كان يحب اللعب مع أقرانه بدل الاهتمام بدراسة القرآن الكريم في المسجد العتيق بالبادية، وفجأة يمرض الأب ويموت، ثم تفشل الأم في تربية الابن العاق، ليدخل هذا الابن بسبب عقده النفسية وسوء تربيته واندفاعه وسلوكه المتهور إلى عالم الانحراف، فتكون نهايته درامية.

مخرجنا هو من مواليد مدينة مكناس عاصمة السلطان مولاي إسماعيل، وقد ولد في بداية الأربعينيات من القرن الماضي، ثم سافر بعد دراسته للفلسفة بجامعة محمد الخامس بالرباط وتخرجه منها سنة 1963 إلى العاصمة الفرنسية باريس للالتحاق بالمعهد العالي للدراسات السينمائية العليا، حيث حصل منه على ديبلوم تخصص إخراج.

شغل حميد بناني- وهو أيضا كاتب سيناريو وممثل- لدى عودته إلى المغرب منصب رئيس مصلحة العلاقات الخارجية بالإذاعة والتلفزة المغربية، وهو المنصب الذي غادره مبكرا، فقد قضى فيه سنتين فقط من سنة 1968 إلى غاية 1970، ليتفرغ للكتابة والإخراج السينمائي والتلفزيوني.

اشتغل بناني في بداية مسيرته الفنية -مثل غيره من المخرجين- على الفيلم القصير، وقد شكل له احتكاكا وتدريبا قويا على ولوج تجارب سينمائية قوية في المستقبل، على اعتبار أن الفيلم القصير في بعض الأحايين أقوى من الفيلم الطويل من حيث اختزال الفرجة السينمائية وتركيزها، ومعالجة مواضيع مهمة في قوالب فنية أكثر اختصارا وتأثيرا.

 

“الخادمات”.. شرارة انطلاق سينما الفيلم القصير بالمغرب

أنجز حميد بناني فيضا من الأفلام الروائية القصيرة لعل أبرزها “العائلة المغربية” و”القلب إلى القلب” و”ولادة نجم” و”الخادمات” المقتبس من مسرحية للكاتب العالمي “جان جونيه”، وهو فيلم يتطرق فيه بطريقة بديعة وممتعة إلى فئة نسائية من المجتمع تعيش ظروفا قاسية وصعبة من أجل كسب لقمة عيشها.

في هذا الجانب يؤكد الناقد عبد القادر مكيات في تصريح بالمناسبة أن تجربة الفيلم القصير لدى حميد بناني تعد من التجارب المضيئة في تاريخ السينما المغربية منذ بداياتها الأولى، سواء من حيث المواضيع التي عالجتها، أو من حيث التقنية الفيلمية التي أنجزت بها تلك الأفلام.

وشدد الأستاذ مكيات على أن البحث الأكاديمي والدراسات السينمائية العليا التي تلقاها الطالب حميد بناني خلال منتصف الستينيات من القرن الماضي بباريس، واحتكاكه ببعض التجارب السينمائية الفرنسية آنذاك؛ مكنه من نقل التجربة وإسقاطها في البداية على أعمال قصيرة قوبلت بكثير من التقدير والاهتمام سواء من قبل الجمهور أو النقاد.

وأضاف مكيات أن الدراسات الفلسفية لحميد بناني في الفترة الجامعية والسينمائية بباريس مكنته من التعرف والاحتكاك بأسماء وازنة في هذا المجال والعلوم الإنسانية والدراسات السيكولوجية والفكرية، مثل تجربة عالم السيمائيات “رولان بارت” والفيلسوف “جاك دريدا” وغيرهما.

واعتبر مكيات أن هذه الخصوبة الثقافية والثراء الفكري، وإسقاطاتها على المجتمع سينمائيا بطريقة حديثة مكنت المخرج حميد بناني من إخصاب النظرة البسيطة والفطرية للسينما، وهو ما ساهم في تكريس أولى شرارات تجربة سينمائية قصيرة واعدة في البداية، لتتطور إلى أعمال سينمائية طويلة صفق لها الجمهور كثيرا.

 

“وشمة”.. إنتاج يضاهي السينما العالمية

وجد الناقد عبد القادر مكيات في الفيلم الطويل “وشمة” -الذي صور باللون الأبيض والأسود سنة 1970- الملامح الحقيقية لعمل سينمائي محترف للسينما المغربية والمغاربية بكل المقاييس، لما يتوفر عليه من عناصر فرجوية قوية تضاهي الأعمال السينمائية العالمية.

وشدد على أن بناني من خلال هذا النموذج السينمائي المعاصر استطاع أن يفلسف السينما من خلال التعبير بالصمت والريح تارة، وأخرى بسراب الماء ونسيم المنادل والستائر في الشرفات، وهديل موسيقى حزينة ومخيفة أحيانا.

ولفت مكيات إلى أن تكوين بناني الجامعي والفلسفي مكنه أيضا من الغوص في نفسية الشخصيات، خاصة شخصية الطفل اليتيم المحروم ، والأب المتسلط المحافظ، والأم المغلوبة على أمرها، والرفقاء الذين صنعوا من البطل الصغير منحرفا قاده قدره المحتوم إلى الموت بسبب حادثة مؤلمة.

وقال بالمناسبة إن فيلم “وشمة” يظل طقسا سينمائيا باهرا موشوما في الذاكرة السينمائية المغربية والعربية بكثير من الفضائل الفنية والجمالية، وهو ما جعل الكثير من النقاد والباحثين والطلبة يتخذونه مرجعا أساسيا في كثير من بحوثهم ودراساتهم.

وأضاف الناقد السينمائي مكيات أن الإجماع الذي حصل عليه هذا الفيلم ترجمت حظوته وقيمته الجوائز الدولية التي حصل عليها، إضافة إلى تكريمه في أكثر من مناسبة وطنية ودولية.

بوستر فيلم “وشمة” لحميد بناني مُصورا باللونين الأبيض والأسود، والذي كان رمزا للسينما المغربية الواعدة في السبعينيات

 

آثار السينما الأوروبية.. معالجات تلامس نبض الجمهور

على مستوى الأفلام الروائية الطويلة أخرج حميد بناني عدة أفلام نالت اهتمام النقاد والجمهور، فقد وجدوا فيها متنفسا حقيقيا للكثير من الهموم الاجتماعية، وذلك من خلال معالجة قضايا قريبة من نبض الجمهور، ومعبرة عن طموحه وأحلامه بطريقة لا تخلو من رؤية وإبداع وصيانة للهوية والتاريخ.

لعل فيلم “وشمة” يبقى المثال الحي على سينما مغربية معاصرة تحمل الكثير من الضوء الفني الفرنسي والفرانكفوني، على اعتبار أن المخرجين المغاربة الذين درسوا في فرنسا وفي عدد من البلدان الأوروبية كألمانيا وإيطاليا ورومانيا تشبعوا بالثقافة الأوروبية والأنجلو ساكسونية، وأرادوا أن يقدموا للجمهور سينما حية برؤية جديدة تتماشى مع قضايا مجتمع محافظ متطلع إلى مزيد من الانفتاح.

لعب بطولة هذا الفيلم -الذي أنتجته شركة “سيكما ثلاثة” التي أسسها حميد بناني رفقة المخرجين محمد السقاط ومحمد عبد الرحمات التازي وأحمد البوعناني- الممثل المقتدر عبد القادر مطاع، إلى جانب نخبة من الممثلين كمحمد السقاط وخديجة المجاهد ومحمد الزرق وفاطمة شرقاوي وتوفيق داد.

 

“الطفل الشيخ”.. هدية إلى المقاومة المغربية

أخرج حميد بناني إلى جانب فيلم “وشمة” فيلم “الطفل الشيخ”، وهو عبارة عن ملحمة بطولية وطنية تصور جانبا مهما من التاريخ المغربي إبان فترة الحماية الفرنسية التي فرضت على المملكة منذ سنة 1912، وحتى حصوله على الاستقلال سنة 1956.

ونجح المخرج إلى حد كبير من خلال هذا الفيلم في رد الاعتبار لتاريخ المقاومة المغربية للاستعمار الفرنسي، حيث البطل سعيد الذي اشتهر بنضاله المستميت ومقاومته الشرسة للوجود الفرنسي على الأراضي المغربية في منطقة تافيلالت. يبدو سعيدا شيخا كفيفا أخذ منه الزمن عتيا، ويروي حكايته وذكرياته للطفل الذي تبناه، كإشارة عميقة لمنح المشعل للجيل القادم لمواصلة الدفاع عن الوطن والهوية والتاريخ وبلاد الأجداد.

هذا الفيلم الملحمي والدرامي لعب أدوراه المرحومان محمد مجد ومحمد بسطاوي والنجم السينمائي إدريس الروخ، فضلا عن عمر لطفي وسناء مزيان وفرح الفاسي وفاطمة هراندي الملقبة براوية.

 

“صلاة الغائب”.. سينما بنكهة شعرية ومسحة فلسفية

شكل فيلم حميد البناني “صلاة الغائب” الذي أنتج سنة 1996 نقلة نوعية جعلت العمل السينمائي الجيد عملا مشتركا، وهو ما كرسته خلية كتابة السيناريو والحوار ونخبة الممثلين الذين تألقوا بشكل لافت في الفيلم، وهم المرحوم الطيب الصديقي وحميد باسكيط وعبد الكبير الركاكنة والسعدية أزكون و خديجة فرحي وأحمد الطيب.

وشارك في كتابة السيناريو والحوار المخرج حميد بناني مخرج الفيلم والمفكر محمد الطوزي والكاتب الفرانكفوني الطاهر بنجلون، فضلا عن محمد الخراط؛ مما جعله فيلما متناسقا اجتمع فيه الحس الأكاديمي بالروائي والشعري والفلسفي والجمالي.

ودائما تحضر المسحة الفلسفية التي ترتبط بمحبة الحكمة وطرح السؤال وتكريم الإنسان والبحث عن معادل فني موضوعي يتجانس فيه الحس العقلي بالروحي، إذ استطاع بناني في “صلاة الغائب” تصوير الصراعات النفسية والانجذابات العاطفية والنفسية للبطل المصاب بمس أو خلل في الذاكرة، فيتيه في أرض الله الواسعة بحثا عن العودة إلى حالته الطبيعية، وذلك من خلال لقاء شخصيات من تاريخه وماضيه.

 

أيام قرطاج السينمائية.. تكريم آخر بعد خمسين سنة

أخرج حميد بناني عددا من الأفلام الوثائقية والروائية، وقدم للتلفزيون فيضا من الأفلام التي عالج فيها مواضيع اجتماعية برؤية فنية تتجاوز الأعمال التلفزيونية المبتذلة، لعل من أبرزها “خريف الأم” و”السراب” و”النور في قلبي” “والضيف” و”وهم امرأة” وغيرهم.

بهذا الفيض والخصوبة الفيلمية التي تُميز المخرج حميد بناني توجت أعماله في كثير من المهرجانات والمحطات الدولية، فضلا عن تكريمه والاحتفاء به وبأفلامه داخل البلاد وخارجها.

وبالمناسبة وإحياء لذاكرة اسم سينمائي عربي قدم للسينما نموذجا فنيا راقيا شكلا ومضمونا ارتأت فعاليات الدورة ال31 من أيام قرطاج السينمائية التي تقام من 18 إلى غاية 23 من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري؛ تكريم هذا الفنان كاسم سينمائي بارز على الساحة العربية والأفريقية.

وسيعاد خلال هذه الدورة عرض فيلمه “وشمة” الذي توج سنة 1970 بالجائزة الثالثة (جائزة التانيت البرونزي)، وفي ذلك اعتراف بقيمة هذا العمل الذي ما يزال يشكل إلهاما سينمائيا للعديد من المخرجين رغم مرور50 سنة على إنتاجه.

رئيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية “أحمد بوكوس” يكرم المخرج “حميد بناني” على هامش عرض فيلمه “الطفل الشيخ” باللغة الأمازيغية عام 2018

 

من الهواية إلى الاحتراف.. عطاء على أصعدة عدة

قال المخرج والممثل المقتدر عبد الكبير الركاكنة الذي لعب دورا بارعا في فيلم “صلاة الغائب” إن حميد بناني يعد من السينمائيين المغاربة الرواد، وأحد رموزها وركائزها الأساسية، وذلك بالنظر إلى ما قدمه للسينما المغربية في بدايتها.

وأضاف أن تميز أعمال حميد بناني نابع من ثقافته الواسعة وإلمامه بالمجال السينمائي الذي درسه في فرنسا، فهو كاتب ومخرج وأكاديمي ذو ثقافة سينمائية وازنة مكنته من ولوج المجال باحترافية عالية، وأعطى للسينما المغربية انطلاقتها الصحيحة، وهو الأمر الذي جعل فيلمه “وشمة” علامة بارزة في تاريخ السينما المغربية، فضلا عن تتويجه بجوائز عدة داخل وخارج المغرب.

واعتبر تكريمه في الدورة الحالية لأيام قرطاج السينمائية تكريما مستحقا، واعترافا ضمنيا بقيمة هذا المخرج المغربي والعربي الذي ساهم بقدر وافر فنيا وإبداعيا في سيرورة تطوير الممارسة السينمائية، وجعلها تتخطى جانب الهواية والبساطة إلى الاحتراف والعالمية.

وشدد على القيمة الاعتبارية لهذا المخرج الذي كان يجد في كتابة أفلامه بنفسه ضمانة واعدة لنجاحه وانتشاره، خاصة أنه كان يحاكي في مختلف سيناريوهات أفلامه أحداثا نابعة من بيئته التي يعيشها.

وأشار الركاكنة إلى أن بناني إضافة إلى كونه مخرجا متميزا، فهو كاتب ماهر، إذ تعد روايته “الأغنية الأخيرة للثوار” نقلة نوعية في الكتابة الأدبية، مبرزا دوره الكبير في التأطير والتكوين السينمائي، وذلك من خلال تقديم الكثير من الدروس السينمائية، وتأطير ورشات مفيدة في مجال السيناريو والإخراج وغيرهما، مما يجعله فنانا متعدد المواهب.


إعلان