السلطان عبد الحميد الثاني.. آخر معارك الخليفة العثماني الأخير

ضجت عليكِ مآذن ومنابر
وبكت عليكِ ممالك ونواح
الهند وَالِهة ومصر حزينة
تبكي عليكِ بمَدمَعٍ سحَاح
والشام تسأل والعراق وفارس
أمحا من الأرض الخلافة ماح؟
كانت تلكم أبيات أمير الشعراء أحمد شوقي في رثاء الخلافة الإسلامية وخليفتها السلطان عبد الحميد الثاني.
ونسترجع ما كتبه عميد السياسة السورية فارس بيك الخوري في آخر حياته حين قال: لم أندم في حياتي على شيء قدر ندمي على القصيدة التي نظمتها وهجوت فيها السلطان عبد الحميد، وتأكد لي فيما بعد بما لا يقبل الجدل أن هذا الخليفة المسلم راح ضحية ثأر اليهود.
مؤامرات اليهود.. سجال حي حول السلطان الأخير
بقي السجال حول شخصية السلطان عبد الحميد حيا، لكن بعودة محايدة إلى التاريخ وإلى موقفه من الحركة الصهيونية ومطامعها في السيطرة على فلسطين والقدس، ندرك كمّ وقع من الظلم على هذا الخليفة الذي كتب إلى شيخه الشاذلي محمود بن محيي الدين بن مصطفى أبو الشامات رسالة في أواخر عمره قال فيها بعد المقدمة: أعرض لرشادتكم وإلى أمثالكم أصحاب السماحة والعقول السليمة المسألة المهمة الآتية كأمانة في ذمة التاريخ:
إنني لم أتخل عن الخلافة الإسلامية لسبب ما، سوى أنني -بسبب المضايقة من رؤساء جمعية الاتحاد وتهديدهم- اضطررت وأجبرت على ترك الخلافة.
إن هؤلاء الاتحاديين أصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة فلسطين، ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف.
وأخيرا وعدوا بتقديم 150 مليون ليرة إنكليزية ذهبا، فرفضت بصورة قطعية أيضا وأجبتهم بهذا الجواب القطعي الآتي:
إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهبا، فضلاً عن 150 ليرة إنكليزية ذهبا فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي. لقد خدمت الملّة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد عن ثلاثين سنة فلم أسوّد صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين، لهذا لن أقبل بتكليفكم بوجه قطعي أيضا.
وبعد جوابي القطعي اتفقوا على خلعي، وأبلغوني أنهم سيبعدونني إلى سالونيك فقبلت بهذا التكليف الأخير.
هذا الفيلم -الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية وأخرجه المخرج التركي محموت فضيل- يسلط الضوء على شخصية من أهم الشخصيات التاريخية، التي تركت بصماتها في العالم العربي والإسلامي.
تركة الرجل المريض.. اغتيالات داخل بيت الخلافة
السلطان عبد الحميد هو ابن عبد المجيد الأول، وقد ولد سنة 1842 وحين بلغ ١٨ عاما توفي والده، فأصبح وليا للعهد وخليفة لعمه عبد العزيز الأول إلى أن توفي عمه فتولى الحكم سنة 1876.
مع دخول القرن العشرين وتسارع انهيارات الإمبراطورية العثمانية أبعد السلطان عبد الحميد عن الحكم وفرضت عليه الإقامة الجبرية إلى أن توفي في 10 فبراير/شباط 1918 وكانت وفاته إيذانا بوفاة الإمبراطورية التي انطفأت في سنة 1922.

تولى السلطان عبد الحميد الثاني عرش السلطنة العثمانية وهي في أشد حالات وهنها وضعفها، وكانت تلقب وقتها بتركة الرجل المريض، كانت أراضيها الخصبة الشاسعة الممتدة مثار طمع الدول الأوروبية التي بدأت تتحرك باتجاهها لاستعمارها وتقسيمها.
كان إرث الخلافة ثقيلا، وظل طوال سنوات حكمه يحاول إنعاش جسد الدولة والنهوض بها، بينما كان الهدف الاستراتيجي للقوى الأوروبية في أواخر القرن الـ19 وبداية القرن الـ20 متمثلا في تفكيك الإمبراطورية العثمانية وتقسيم أراضيها بين مستعمرات ومناطق نفوذ لهذه الدولة أو تلك.
لم ينس السلطان عبد الحميد صورة عمه السلطان عبد العزيز وقد وجد مضرجا بدمائه عام 1876، وقد اعتقد البعض أنه انتحر بينما اعتبر آخرون ومنهم عبد الحميد أنها جريمة قتل مدبرة، وقد أورثت تلك الحادثة السلطان الخوف والقلق، خصوصا بعد أن اعتلى العرش خلفا لأخيه الأكبر السلطان مراد الخامس الذي أزيح عن العرش بعد ثلاثة شهور بدعوى اختلال في عقله.
مجلس المبعوثان.. برلمان الخلافة المفلسة
كانت الدولة العثمانية تعاني من التفكك ومن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية، وكما يقول المتحدثون في الفيلم فقد تولى السلطان الحكم في مرحلة صعبة، لدولة أفلست ماليا بالإضافة لظهور عدد من حركات التمرد في البلقان.
أما المشهد الأوروبي في تلك الفترة فكان متغيرا ومتجها نحو التنوير والعلم، وتطورت حركات الفلسفة والفكر إبان الثورة الفرنسية ونمت التيارات القومية وغدت تهدد الإمبراطوريات، وكانت عيون أوروبا الطامعة متجهه نحو أراضي الإمبراطورية التركية ذات الثروات الهائلة.
وصلت الدولة مرحلة الإفلاس بسبب الديون الخارجية، وأعلن السلطان عبد العزيز إفلاسها فعلا عام 1875 في مرسوم شهر محرم السنوي.

في المقابل كان المثقفون يرفضون أن يكون الحكم كله بيد الدولة وأرادوا لبلادهم أن تكون مثل أوروبا وأن يشكل فيها البرلمان، ويعتقد الباحث مصطفى أرمفان أن السلطان عبد الحميد كان صندوقا مغلقا وقد دخل في مفاوضات أولية، وكان مؤمنا بالمشروطية (الدستور) في تلك الفترة.
عقد السلطان مع الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) رشدي باشا ونائبه مدحت باشا اجتماعا تمهيديا قبل توليه السلطنة، بعد ذلك أعلن مدحت باشا الدستور وشكل مجلسا، وأرادوا أن يظهروا للعالم أنهم يعيشون في إطار حكم حديث على الطراز الأوروبي.
أعلن حكم الدستور في شهر يناير/كانون الثاني عام 1876، وشكل مجلس المبعوثان (النواب) وافتتحه عبد الحميد بنفسه، لكن الشكوك كانت تدور حول قدرته على الاستمرارية.
حادثة قصر جراغان.. محاولات اغتيال السلطان
كان الخوف والذعر يتملكان عبد الحميد من محاولة تعرضه للاغتيال، وقد وجد فعلا في الأرشيف العثماني أنه تعرض لمحاولة الاغتيال عدة مرات، وكان يظن أن المعارضة لن تتركه، يقول المؤرخ نجم الدين ألفان: بعد الهزيمة التي منيت بها الدولة في الحرب مع الروس، نفذّت حادثة قصر جراغان عام 1877 من قبل علي سعاوي، وهو من مهاجري البلقان، وجمع حوله تسعين شخصا لكنه فشل، في محاولة الإطاحة بالسلطان.
بعد هذه الحادثة حل مجلس النواب وأرسل النواب إلى بلادهم، وأحكم السلطان قبضته على الدولة، وأسس جهاز “يلدز” للاستخبارات معللا ذلك بأنه للحفاظ على الدولة وحمايتها، بينما رآه المعارضون استبدادا.
اعتبر قرار حل المجلس حركة ذكية من السلطان، فقد عطل عمل المجلس ودفع رواتب النواب، واستمر المجلس كمؤسسة، ولم يستطع أحد اتهامه بالخروج عن القانون، وليس هناك دليل على أنه تصرف بشكل مخالف للقوانين والدستور.
“مؤتمر العثمانيين الأحرار”.. تركيا الفتاة تضرب الخلافة من باريس
واصلت حركة تركيا الفتاة انتشارها في أوروبا كلها، وأطلق عناصرها شعارات نارية حول الحرية والعدالة والمساواة. يقول الباحث أورخان كول أوغلي: إن حركة تركيا الفتاة كان مصطلحا أطلقه الغرب لا الأتراك، وهو يخص الشباب القادمين من أرجاء الدولة العثمانية ولم تكن الحركة تمثلنا.

عرفت تركيا الفتاة كمؤسسة عام 1889 وكان أفرادها يعملون بالسر، وأعلنوا أسماءهم لأول مرة عام 1895، وأعلن عن عقد مؤتمر لهم تحت اسم “مؤتمر العثمانيين الأحرار” في باريس عام 1902، وذلك من أجل جمع شملهم، وأرسلت دعوات إلى جميع قوى المعارضة ليجتمعوا تحت سقف تركيا الفتاة.
تضاربت الرسائل التي قدمها الأرمن واليونان في المؤتمر، مما يعني أنها مجموعة مشوشة الفكر ضمت داخلها وجهات نظر سياسية وفلسفات فكرية مختلفة، ومجموعات عرقية غير متجانسة، وقد جمعتهم معارضة عبد الحميد فقط.
تنشيط الحركة التعليمية.. أجيال مدارس السلطان التي ستلعنه
شددت الدولة الرقابة على حركة الكتابة والعملية الثقافية، حتى قال بعض المؤرخين إن أي جملة تعارض الدولة كانت تشطب، وفي المقابل يعتبر أورخان كول أوغلي قائلا إن الحركة الثقافية نشطت في عهد السلطان عبد الحميد ولم يعرقلها، لكن التدخل بالسياسة كان مرفوضا.
كان اهتمامه بالوحدة الدينية أهم أولوياته، وكان مدركا لقيمة التعليم ومساهمته بالتنمية، فأنشأ أكثر المدارس تطورا في عصره كمدارس الملكية والمالية والتجارية والتعليم العالي والحقوق والبحرية ومدارس البنات المهنية، ومدارس لرعاية المعاقين كما أنه بنى المستشفيات ووضع حجر الأساس لدار الفنون الجامعة وكل المؤسسات التي يحتاجها المجتمع.
كما اهتم بتعليم المرأة حتى غدت النساء كاتبات في عهده، لكن هذا التطوير أوجد مجموعة من المثقفين الذين نفذوا –ما أطلق عليها- حرب الاستقلال وأسسوا للجمهورية التركية، وكانت نشاطات التحديث بمثابة الجسر الذي عبر من خلاله هؤلاء وأطاحوا بالسلطان فيما بعد، ولم يعلم السلطان أن تلك المدارس التي أسسها ستخرج طلابا ينعتونه بالأحمق والمستبد.
تدرجت الفعاليات في مجال التعليم منذ عهد السلطان محمود وأكمل المسير السلاطين من بعده، وعند إطلاق مشاريع الترجمة بدأ يتكون جيل جديد متأثر بالثقافة الغربية، وكانوا من خريجي الجامعات ويتحدثون لغات عدة وعلى رأسها الفرنسية، فتأثروا بالفلسفة والفكر وظهرت مجموعات تسمى شبيبة العثمانيين.
شبيبة العثمانيين.. سوسة تنخر جسد جيش السلطان
عمل السلطان عبد الحميد على تحديث الجيش، وكان من المقلق له ازدياد التنظيم بالجيوش الأوروبية وقد أدرك ما تعانيه الدولة العثمانية وقوتها، لكن هذا التحديث كان يحتاج للمساعدة، وعلى هذا الأساس بدأ يقيم علاقات مع الألمان.
ومن مشاكل الجيش التي واجهها السلطان التنظيمات الثورية داخل صفوفه، فقد كان فيه مجموعة من الضباط يمكنهم القيام بانقلابات، لذا فإنه أوجد قوات حماية من ضباط موالين له، لكن هذا لم يمنع طلابا من المدرسة الحربية والطبية من التحرك.

كان هؤلاء الطلبة يقرأون مؤلفات شبيبة العثمانيين، فتكون لديهم فكر معارض، ومنهم في مدرسة الطب إبراهيم تمو وعبد الله جودت وغيرهم، وشكل اجتماع الشباب من أصول ألبانية وأذرية “جمعية الاتحاد والترقي”، وكان من أهدافها القضاء على الحكم المستبد والعودة للعصور الذهبية للإمبراطورية العثمانية.
في ذلك الوقت كان البرلمان مغلقا ومجلس الأعيان مفتوحا ظاهريا، وكانت هناك رقابة على الصحافة، وكل هذه الأمور قد أثرت سلبا على الذين درسوا العلوم الغربية وانفتحوا على العالم، فكانوا يرون النظام مستبدا ولا بد من الإطاحة به.
جمعية الاتحاد والترقي.. عدو شرس لا تصل إليه يد السلطان
دفعت السلطان رغبته بالتمسك بزمام الأمور وقلقه من فقدان السيطرة لاتخاذ تدابير قاسية تجاه الاتحاد والترقي، وشهدت البلاد حملة اعتقالات ونفي واسعة.
يقول الدكتور وحيد الدين إيركين: لم يستطع أنصار الاتحاد والترقي القيام بأي نشاطات، ومن كان يثبت انتمائه يبعد، أو يعين في وظائف الدولة بالمناطق النائية مقابل راتب جيد، ولم يكن السلطان عبد الحميد يحب القسوة، لكن مع ذلك أشيع عنه الكثير، ومن الأمثلة على ذلك أن المحامي الأول للاتحاد والترقي إبراهيم تمو اعتقل لفترة في قصر يلديز، وبعد القبض عليه أشيع في المجموعة أن إبراهيم قتل ووضع في أكياس، وألقي في البحر وكانت هناك مبالغات كثيرة.
ظهر في القصر مصطلح التقارير التي كان يكتبها العملاء الموالون للسلطان بشكل يومي وبانتظام عن الاتحاديين، لكن المنظمة نقلت نشاطاتها إلى البلقان وتحديدا إلى مقدونيا لتصبح بعيدة عن أعين القصر، ولم تعد حصرا على الشباب الضباط، بل ضمت إلى صفوفها قادة عسكريين.
أصبح البلقان مركزا لقوى المعارضة بفضل نشاطات الضباط ولم يكن بوسع السلطان التدخل بمقدونيا بسبب الإدارة الدولية وهي قوة عسكرية تشبه قوات حفظ السلام، وكانت مقدونيا تتولى إدارتها. ومن جانب آخر فإن المثقفين الذين لم يوحدهم الفكر اجتمعوا لمناهضة السلطان عبد الحميد، ومنهم الشاعر محمد عاكف وبديع الزمان سعيد النورسي ومنظر القومية التركية ضياء كوك.
سكة حديد الحجاز.. قطار العلاقات مع شيوخ الدين والقبائل
من إنجازات السلطان عبد الحميد المهمة سكة حديد الحجاز التي عبرت مختلف أنحاء البلاد، وكانت تمتد كل عام بمعدل 150 كيلومترا واعتبرها وسيلة للنهوض وتسهيل التبادل التجاري ونموّه، وكانت لها أهداف سياسية وعسكرية.
وفي واحدة من أبرز مشاريع تقوية الجبهة الداخلية أطلق عبد الحميد مشروع خط سكك الحجاز الذي انطلق تشييده في بداية القرن العشرين ليصل إلى المدينة المنورة عام 1908، مختصرا بذلك رحلة الحج الشهيرة تاريخيا من الشام إلى الحجاز من 40 يوما إلى 4 أيام فقط.

تقول الدكتورة آرزو تيرزي: كان السلطان عبد الحميد يستخدم ألمانيا ضد أوروبا من أجل خط سكة الحديد الذي وصل من بغداد إلى برلين.
كانت بلاد الرافدين أراضي خصبة وغنية بالموارد الطبيعية، وربطت عبد الحميد علاقة جيدة مع شيوخ القبائل والمجموعات شبه المهاجرة هناك، وكان يتابع عن قرب الجماعات التي تعيش فيها وطبق سياسات متنوعة ليحافظ على ارتباطهم بالدولة العثمانية.
حاول عبد الحميد توحيد الأمة الإسلامية ووجه رسائل إلى رجال الدين والعلماء وخاصة العرب لبحث سبل التعاون فيما بينهم، وكان متدينا يعتز بالقيم الإسلامية ويهتم لأمر المسلمين ويريدهم أن يعيشوا حياة كريمة وقد أنجزت سكة الحديد لخدمة المسلمين.
ومن أبرز المفكرين الذين دعاهم لمقابلته الشيخ جمال الدين الأفغاني، فقد أعجب بذكائه ودفاعه عن القضية الإسلامية، لكن تحول فيما بعد إلى خصومة بسبب آراء جمال الدين المناهضة للسلطة ودفاعه عن البرلمان، واتهم بتدبير مؤامرات ضد القصر.
قضية فلسطين.. خط السلطان الأحمر
اتبع السلطان عبد الحميد سياسة متوازنة في علاقات الدولة الخارجية، لكنه كان صلبا فيما يتعلق بقضية هجرة اليهود إلى فلسطين وبيعها لهم مقابل المال.
كان من أهداف المؤتمر الصهيوني في بازل عام 1897 الاستيطان في منطقة لكسر القيود على اليهود في أوروبا، وقد اختاروا فلسطين واعتبروها أرض الميعاد، وقام “ثيودور هيرتزل” الشخصية الأبرز بزيارة تركيا خمس مرات لهذا الغرض، وطلب فلسطين مقابل المال.

يقول وحيد الدين إيركين: كان طلب “هيرتزل” السماح لهم بإقامة وطن في فلسطين مقابل تخفيض ديون الدولة التركية إلى 32 مليون ليرة، وأرسل رسالة إلى السلطان عبد الحميد بذلك، وأنه يمكنهم دفع 80% من المبلغ، وعلى الرغم من رغبة السلطان بالتخلص من الدين، وأنه كان يرى أن اليهود ظلموا من الناحية الإنسانية، فإنه في المقابل لم يقبل ببيع فلسطين.
التقى “هيرتزل” بالسلطان عبد الحميد مرة واحدة، وأخبره خلالها أنه لن يفرط بشبر واحد من الأرض، لأن هذا الوطن أمانة في يد الأمة وليس ملكه الشخصي.
ومن المشاكل الكبيرة التي واجهت السلطان عبد الحميد قضية الأرمن، فحين طالبت الأقليات بالاستقلال ركب الأرمن الموجة وطالبوا بحكم ذاتي في مناطق وجودهم في الدولة، وذلك على الرغم مما كان يعرفهم به الأتراك بأنهم “الملة المخلصة”.
قنبلة حول عربة السلطان.. بركة من الدماء في ساحة الجامع
كان السلطان عبد الحميد يحاول قلب الدولة من حالة الضعف إلى القوة، ومن تلك التدابير تحويل الأراضي النفطية والمؤسسات القوية لملكيته الخاصة، ليحول دون وقوعها في أيدي الأوروبيين وتكون موثقة بسند ملكية، وهي آلية دفاع عن موضع ما، حيث كانت هيئة الديون تأخذ من تلك الثروات بشكل مباشر، لهذا أراد حماية حقول الخامات المعدنية.
كان ذنبه الوحيد حبه لبلاده وخوفه من سقوطها، وقد تعرض لمحاولة اغتيال في عام 1905، فبعد صلاة الجمعة ومروره بمراسم السلام كان يتحدث مع رجال الدولة في جامع يلديز، فانفجرت قنبلة موقوتة وتحولت ساحة الجامع لبركة من الدماء.

ورغم وجود الاستخبارات فإنهم لم يستطيعوا كشف العملية، فقد خرجت عربة من سفارة أجنبية تحمل قنبلة تزن 80 كيلوغراما يقودها مجموعة من الأرمن، وقد أوقفت بالقرب من عربة السلطان، ثم شد فتيل القنبلة وكان من المفترض أن تنفجر بعد دقيقتين، لكن السلطان تأخر وهو يتحدث مع جمال الدين أفندي فانفجرت قبل وصوله، وتدخلت الشرطة وأمسكوا بالمنفذين، وكان من بينهم “إدوارد جوريس” البلجيكي، وأما صاحب القنبلة فكان أرمينيا.
إرهاب بدعم أجنبي.. حرب أهلية توشك على الاندلاع
اشتد قلق السلطان بشأن القوات العسكرية في مقدونيا حيث زادت قوة جمعية الاتحاد والترقي عام 1906، وتشكلت لهم قوة مسلحة بدأت تنتظم في مدن مثل سالونيك وتستميل ضباط الجيش، وكانت جمعية الاتحاد والترقي تتحرك بهدف دعائي سابقا، لكنها دخلت مجال التسلح ونفذت أحداثا إرهابية فيما بعد.
كان للسفارات الأجنبية أثر كبير في أعضاء الاتحاد والترقي وشاركوا في مؤتمراتهم واجتماعاتهم، وحرضت سفارات النمسا وألمانيا وأعضاء تركيا الفتاة للخروج للشارع ضد السلطان، في الوقت الذي كانت تعاني فيه الدولة من الانقسامات والضعف.
وقد بعث السلطان بعض الباشاوات من أجل تهدئة الأوضاع، لكن الاتحاديين قتلوهم على الفور، ولم يستطع السلطان تقدير ردود الفعل في البلقان واضطر لإعلان الدستور عام 1908، وأحيا عمل البرلمان.
يقول نجم الدين ألفان: كان هناك مخطط مكون من سبع نقاط لخلع السلطان، منها إثارة الفتنة وتحريض الشعب على الثورة، لكن عبد الحميد أعلن المشروطية الثانية في كل أنحاء الدولة، وبذلك سحب البساط من تحت أقدام جمعية الاتحاد والترقي، وهو ما منع نشوب حرب أهلية.
أحداث 31 مارس/آذار.. ثورات داخلية واحتلال خارجي
في خضم الاضطرابات داخل حديقة الخلافة تحرّكت النمسا بذريعة الثورات الشعبية في البلقان لتبسط سيطرتها على البوسنة والهرسك في أكتوبر/تشرين الأول 1908، وبشكل شبه متزامن أعلنت بلغاريا استقلالها التام والتحق الجزء الباقي من اليونان بمن سبقه إلى الثورة.

ثم عمد بعض الضباط وشباب بعض المنظمات السياسية على التظاهر والمطالبة بالإصلاحات في عاصمة الدولة العثمانية، لكن الأحداث تطورت في بداية 1909 لتصبح عصيانا شاملا تخللته أعمال عنف دموية أججها دخول قسم من الجيش على الخط واقتحامه لإسطنبول.
وقعت تلك الأحداث في 31 من مارس/آذار، وقام طلاب المدارس وبعض الوحدات العسكرية بثورة، لكنها أخمدت من قبل جيش حركة الاتحاد والترقي القادم من سالونيك، وكان يقال إن هدف الجيش الأساسي الذي كان تحت قيادة محمود شوكت باشا هو “نجدة السلطان”، وقد دخل جيش الحركة إلى إسطنبول في 25 أبريل/ نيسان وسيطر عليها.
دعا محمود شوكت باشا مجلسي النواب والأعيان لمجلس مشترك سُمي بالمجلس الوطني المشترك، واستصدروا فتوى بخلع السلطان.
“لقد عزلتك الأمة”.. عبد الحميد من سلطان إلى نجار في سالونيك
كان السلطان يجلس برباطة جاش في مكتبه مشغولا بكتبه، وكان الباب مفتوحا على مصراعيه حين قدم وفد البرلمان الذي أحياه عبد الحميد، وكان الوفد مؤلفا من اليهودي “إيمانويل قراصو” والأرمني “آرام أفندي” والألباني “أسد توبيتاني” والعثماني عارف حكمت وسعد الأرناؤوطي، وذلك لإبلاغ السلطان بقرار العزل.
دخلوا رجال الوفد على السلطان وقالوا له: “لقد عزلتك الأمة”، فرد عليهم تقصد أنهم خلعوني، ثم قال قولته الشهيرة: أنا خليفة المسلمين وسلطانهم، وإن كان يجب أن يخلعني أحد فهم المسلمون، أما أحدكم فيهودي، والآخر فأرمني وثالثكم ناكر للجميل.

وحين خلعوه إجبارا وتهديدا بقتل شعبه، قال: عملتُ 33 عاما من أجل دولتي وشعبي.. الله سيحاسبني، ورسول الله ﷺ هو من يحق له أن يحاكمني، سلَّمتُ هذه المملكة كما استلمتها، ولم أبِـع شبرا من الأرض، وماذا أفعل إذا كان أعدائي قد أرادوا تشويه كل خدماتي، وقد نجحوا في ذلك؟
كان ذلك في 27 أبريل/نيسان 1909 وقد نفي السلطان وأسرته إلى منطقة سالونيك القبرصية معقل الماسونية العثمانية واليهود اليونانيين.
مراقبة الانهيار الصامتة.. جنازة سلطانية في إسطنبول
مكث عبد الحميد بضع سنوات مشتغلا بحرفة النجارة التي كان يتقنها إلى جانب الحدادة، لكن وصول القوات اليونانية المتمردة إلى سالونيك أدى إلى نقل السلطان المخلوع إلى إسطنبول من جديد في نوفمبر/تشرين الثاني 1912.
أقام عبد الحميد في قصر بيلار بايي متفرجا على استكمال مخططات تفكيك الإمبراطورية، إلى غاية وفاته في فبراير/شباط 1918، أي قبل تسعة أشهر من انتهاء الحرب العالمية الأولى، وقد دفن في مقبرة السلطان محمود الثاني بمراسم جنازة سلطانية.
تقول ابنته: مع خلع والدي بدأت أيام المستقبل المر والحزين، كانت أصوات المدافع القوية تهز جدران القصر أحسست بالألم من قلبي وانهمرت دموعي، فقلت يا رب ارحم أبي وهب له حياته، فالعرش والتاج لا يعنيان شيئا، ملجأنا هو الله، ما كنا نسمعه من قدماء القصر عن خلع السلطان عبد العزيز وقتله، تركزت هذه الحادثة المفزعة في أدمغتنا وكان احتمال أن نتعرض للمصيبة نفسها، هذه الفكرة المخيفة تراودني فتجعلني أرتجف.
ثار جدل كبير في الأمة بشان شخصية السلطان عبد الحميد، لكنه بلا شك كان من العظماء الذين صنعوا تاريخها.
رفيق الكتاب والقهوة اليمنية.. عالم السلطان الخاص
على الصعيد الشخصي والإنساني، كان عالم السلطان عبد الحميد الخاص مقتصرا على سكان القصر والمقربين، ومن عادته اليومية -كما تقول ابنته- أنه كان يحب القهوة ولا يشرب إلا القهوة اليمنية، وكان خليل أفندي هو من يقدمها له، لم تكن خفيفة أو ثقيلة وكانت بدون سكر، ويشربها ست مرات أو سبع في اليوم ويحتسيها جرعة جرعة.

كان السلطان ينتقد بكل شيء حتى في أكثر عادته خصوصية، تقول ابنته: كان أبي يأمر أن يقرأ عليه بالليل وهو في غرفة الكتب، وصار معرضا لجميع أنواع النقد بأنه يترك مشاغل الدول من أجل القراءة، وكان أبي يعلل ذلك بأنه يريد يتخلص من وطأة الأعمال التي تشغله بالنهار، ويريد تحويل ذهنه إلى وجهات أخرى، ويهنأ بنومه، فإذا كانت القراءات جادة يطير النوم من عينيه، لذا طلب ترجمة الروايات، كما أمر بترجمة كافة إجزاء روايات شارلوك هولمز البوليسية.
كان ينام باكرا ويستيقظ باكرا ويستحم، وقد أمر ببناء مصطبة ليجلس فيها ويرتدي ملابسه ثم يصلي الفجر ويتناول فطوره والحليب الممزوج بالمياه المعدنية، ويرتشف القهوة، ثم يذهب إلى قسم الحريم ثم إلى صالة الاستقبال يجلس خلف مكتبه، ويطلب الباشا رئيس الكتاب وينظر في المعاملات الرسمية حتى الساعة الحادية عشر، ومن هواياته المفضلة أعمال النجارة التي كان يلجأ إليها لإزالة قلقه المتنامي.