صلاح أبو سيف.. الناطق باسم البسطاء في السينما

د. الحبيب ناصري
رغم انتقالهم إلى دار البقاء ما يزال العديد من المبدعين حاضرين معنا بعطاءاتهم الإبداعية ذات العمق الإنساني، والسبب كونهم التصقوا بتربتهم الشعبية ولم ينسلخوا عنها، حيث تعلموا وتدرجوا في مسارات العلم والمعرفة، وسخّروا علمهم وإبداعهم لكي يحكوا تجاربهم الإنسانية من خلال ما تعلموه.
كلما اقتربنا من سينما العديد من الروّاد العرب يحضر اسم صلاح أبو سيف (1915/1996)، فمن الصعب أن نتذكر السينما العربية في ثوبها الأول دون استحضار هذا الوجه الذي أحبه المتلقي الشعبي البسيط في كل أنحاء العالم العربي، وأحبه أيضا المثقف السينمائي المتخصص، فهو نقطة التقاء الجميع.
فما السر في جمعه للعديد من عشاق السينما العربية الذي نادرا ما يتحقق عند مخرجين آخرين؟ ولماذا نحن دوما في حاجة إلى أعماله السينمائية لكي نُطلّ من خلالها على زمن مصري وعربي شكّل محطة خصبة في سماء الإبداع العربي السينمائي، ومؤشرا على كون سينمانا العربية هي سينما أرّخت فعلا للعديد من انشغالات البسطاء وهم يبحثون عن لقمة عيش، أو حلم زواج مرغوب في تحقيقه، أو أرض ولدوا على أرضها ورفضوا مغادرتها مهما كانت ظروفهم الاجتماعية.

رائحة الفلاح المصري.. رائد الواقعية في السينما العربية
لن يختلف متتبعان أو متفرجان من هذا الوطن العربي الممتد من المحيط إلى الخليج على كون المخرج الراحل صلاح أبو سيف رحمه الله كان من أنصار إخراج أفلام سينمائية واقعية قريبة ومُنصتة لنبضات قلب الفلاح المصري والأم المصرية غير المتعلمة وصانعة الأجيال المتعلمة، وقريبة جدا من كل المهنيين والحرفيين في تلك الدروب والأحياء المصرية الشعبية، فولادته وتعلمه وحياته العائلية والتصاقه بتربته المصرية الشعبية؛ هي عناصر صنعت مجده السينمائي الواقعي.
من خلال عدد من أفلامه التي ميزت الحقل السينمائي المصري العربي، نُدرك مدى انشغال المخرج الراحل أبو سيف بأسئلة مجتمعه المصري، وكأنه كان يجيب من خلال أفلامه عن سؤال مُضمر وهو لماذا السينما؟ أو لماذا تصلح السينما؟
فيرد علينا من خلال كل ما قُدِّم بأن هذه السينما تصلح للانخراط في الإصغاء لهموم الناس ومشاكلهم والتعبير بلغة سينمائية قريبة إلى فهمهم، حيث يفهمها الطبيب والعامل والفلاح وربّة البيت والطالب والسياسي والشابة والتاجر وغيرهم، دون التوغل في جعل الفيلم لا يفكك إلا من لدن المختص في الصورة.
“دايما في قلبي”.. فيلم لم يموّله أي مُنتج
بالنسبة للأسلوب الفني لأفلام صلاح أبو سيف فقد راهن دوما على القصة، أي حكي قصة سينمائية منحوتة من الواقع سواء كانت عناصرها حقيقية أو غير حقيقية، فأفلامه حينما نشاهدها نشعر أننا أمام مشاكل مجتمعية مصرية وعربية، حيث ينبش في ذاكرة الفلاح والمرأة والسياسي والتاجر والمتعلم والراقصة والشابة، ويحاكى هموم الجميع.
وهناك الكثير من أفلام صلاح أبو سيف التي تسير على هذا النهج، وأشهرها “دايما في قلبي” (1946)، وهو فيلمه الأول الذي لم يرغب أي منتج في إنتاجه، مما جعله يبيع سيارته وذهب زوجته لتمويله، إضافة لفيلم “المنتقم” (1947)، و”مغامرات عنترة وعبلة” (1948)، و”شارع البهلوان” (1949)، و”لك يوم يا ظالم” (1952)، و”شباب امرأة” (1956)، و”رسالة من امرأة مجهولة” (1962)، و”لا وقت للحب” (1963)، وأفلام روائية عديدة عن أعمال أدبية مثل “بداية ونهاية” للراحل نجيب محفوظ.
كل هذا يجعلنا نقر فعلا كيف كان الراحل لصيقا بهموم الإنسان المصري الاجتماعية والسياسية والثقافية الشعبية.
سينما الأحياء الشعبية.. بُعد كلاسيكي في المعالجة
تكوين الراحل في المونتاج والإخراج بفرنسا واحتكاكه بالسينما العالمية في بداية عمله وعشقه الحقيقي لمهن السينما، وخروجه من رحم المكان المصري الشعبي حيث وُلد بحي شعبي مصري في القاهرة يسمى البولاق، ومعايشته لمحطات تاريخية كبيرة كالحرب العالمية الثانية والاستعمار البريطاني والفرنسي للعديد من الدول العربية وتتبعه للعديد من الثورات مثل الثورة الناصرية وغيرها؛ كل هذا جعله يدرك أن التعبير السينمائي عليه أن يُنحت من عنصرين اثنين: أولهما قصة من الواقع أو شبيهة بما يجري في هذا الواقع. والثانية هي معالجة درامية تجرّ المشاهد وتجعله يتابع القصة الفيلمية وينحاز دوما لقيم الخير ضد الشر.
إنها معالجة تميزت بالبعد الكلاسيكي، حيث دوما تبدأ بنقطة بداية وتتطور نحو التعقيد، لينتصر الشر مؤقتا، ثم يعود الخير لهزمه. إنه حكي بسيط وجميل ومؤثر في المتلقي في أفق جعله حاضرا في فيلمه، ومهما كانت وظيفته المجتمعية في وطنه، فلن تجد في أفلامه سوى تلك المشاهد المنحوتة من الريف المصري، حيث عشق الفلاح البسيط لأرضه وقيمه البدوية.
وإذا تدرجنا نحو القاهرة فيحضرها من خلال أحيائها الشعبية، حيث الحركة الجماعية وضجيجها الجذاب والمحدث للحياة، وتعدد الأصوات الحرفية والمرأة المرتدية للباس مصر الشعبي والمطلة من الشرفة وهي تتحدث مع جارتها، وتحكي لها عن بعض تفاصيل حياتها العائلية، تحت رقابة رجل في المقهى في الأسفل، يتابع كلامها وحركات جسدها، وهي ترد عليه بابتسامة تحمل دلالات عديدة.
سينما صلاح أبو سيف سينما تشبهه في كل تفاصيلها المكانية والزمنية والتاريخية، فبها حكى عن هموم مصر وصراعها مع الاستعمار، وبها أيضا عبّر عن المسكوت عنه في مجتمعه المصري الذي يشكل إرثا مجتمعيا مصريا لن تتخلص منه مصر إلا بالتعلم والمعرفة والعلم.
“القاهرة 30”.. ريشة رسم الواقع المصري
عديدة هي الأعمال السينمائية التي نبش فيها صلاح أبو سيف عن واقع مصر السياسي، ويكفي هنا أن نستحضر فيلمه “القاهرة 30″، فقد فكك من خلاله ظروف مصر السياسية وطبيعة تمثلها للسياسة خلال فترة الثلاثينيات.
كما تمكن أيضا من نبش العوالم الباطنية للشخصية المصرية من خلال فيلمه “بين السماء والأرض”، حيث توقف المصعد في عمارة عالية، مما جعله يتغلل في عوالم الشخصيات من زاوية واقعية اجتماعية، وعلاقة هذه الشخصيات بالحياة قبل الإنقاذ وأثناءه وبعده.
أما فيلم “الأسطى حسن” فمتابعته تجعلنا ندرك قيمة صلاح أبو سيف في ترسيخ نظرة سينمائية واقعية مصرية لحدوتاته، سواء على مستوى المكان أو الألبسة أو غيرهما، أو على مستوى الفرق الشاسع بين طبقات وطنه، وكيف يصبح الحب ذلك العنصر الجامع بين من يوجد في أعلى الهرم الاجتماعي ومن يوجد في أدناه.
“بطل من الجنوب”.. نبش في الصراع الديني
كان صلاح أبو سيف من الذين نبشوا في ذلك الصراع الديني المعلن عنه أو الخفي، مثل ما جاء في فيلمه “بطل من الجنوب”، وهو فيلم تدور وقائعه جنوبي لبنان، لكن بداية القصة من مصر، حيث هذا البطل (الطفل) ينتمي لأسرة مصرية مسيحية زارت لبنان.
وفي ظل انفجار ببيروت اعتقدت الأسرة أن طفلها قد قُتِل وتحوّل إلى أشلاء كبقية المقتولين، لكنه في الحقيقة كان من الناجين، فتبنته أسرة مسلمة وسمته عبد الله، وقدّر له أن يشارك باعتباره مسلما ضمن الحرب الدينية الأهلية اللبنانية ضد فصيل مسيحي، ليكتشف أنه مسيحي فيما بعد، فيقرر أن يحوّل انتقامه ضد العدو الإسرائيلي، وتحت عيون أمه (نجلاء فتحي) سيقوم بعملية فدائية استشهادية.
“الزوجة الثانية”.. خاتمة مأساوية للعمدة الخبيث
في فيلم “الزوجة الثانية” سنة 1967 يثير المخرج صلاح أبو سيف فيلما له قيمته المجتمعية المصرية والعربية، حيث عمدة قرية مصرية يبحث عن ابن ليورثه، مما جعله يطمع في خادمة من خادماته وهي متزوجة.
هنا يكشف لنا المخرج مكر العمدة، وكيف فكر في تلفيق تهمة لزوجها الخادم عنده أيضا، وقد تمكن من هدفه، لكن الزوجة الثانية انتصرت بالحيلة لصالحها ولصالح زوجها الأول. وكعادة أفلام أبو سيف فإنه سينتقم من العمدة من خلال إصابته بالشلل باعتباره مصدر الشر، ولا بد من الانتصار السينمائي الدائم لفئة المغلوبين والمقهورين وعودة الحق لأصحابه.
لم يكن صلاح أبو سيف بمعزل حتى عن بعض الجرائم الحقيقية التي هزّت مصر، وتمكن من أن يُسائلها فنيا بلغة الصورة السينمائية الواقعية، مثل ما نجد في فيلمه “الوحش” الذي عبّر به عن ما وقع في الصعيد المصري من جرائم عديدة من لدن هذا الوحش المصري غير الرحيم بأهله.

صلاح أبو سيف ونجيب محفوظ.. زواج السينما بالأدب
كان صلاح أبو سيف ونجيب محفوظ يشكلان ثنائيا عرفت به السينما المصرية التي أثرت السينما العربية، وقد التقيا في كونهما من محبي مصر وحياتها الشعبية وتاريخها العريق وعوالمها الساحرة، وقد جعل منهما لقاؤهما ثنائيا من الصعب فهم السينما المصرية بشكل عام وسر واقعيتها بشكل خاص بمعزل عنه. عن هذا الثنائي الذي قدم للسينما المصرية عدة تحف فنية مسكونة بروح مصر وأحيائها الشعبية وألبستها الصعيدية وموضوعاتها الاجتماعية المتعددة المنحازة دوما لقصص البسطاء، باعتبارهم دوما شخوصا ممثلة لواقع مصر الحقيقي والشامخ.
هذه الشخصيات وما تمتلكه من تصورات ومميزات مميزة لها ولمصر، والأمكنة باعتبارها أيضا موضحة لطبيعة المكان المصري والصدق في التعبير؛ كل تلك ميزات جمعت ووحدت المخرج صلاح أبو سيف والكاتب نجيب محفوظ.
زواج فني وسينمائي وقصصي شعبي جميل ميّز هذا الثنائي الذي شكّل مرجعية جمالية رائعة ومميزة للثقافة المصرية والعربية والإنسانية عموما، وما كان من الممكن أن يتحقق ما حققاه لولا هذه القناعات التي كانا يتميزان بها، فقد أدركا معا أن الفن عليه أن يكون واقعيا، وأن يصغي لنبضات قلب المجتمع في كل مناحي الحياة، إنه التعبير الفردي الجماعي عمّا يعيشه مجتمع مصر من ألم وأمل.
يكفي التذكير بـ”بداية ونهاية” ورواية “القاهرة الجديدة” التي عدّل أبو سيف عنوانها سينمائيا إلى “القاهرة 30″، وهما روايتان من كتابة نجيب محفوظ، حيث تمكن صلاح أبو سيف من تحويلهما إلى فيلمين روائيين سينمائيين.
“الفتوة”.. نجيب محفوظ السيناريست
لم يكتف صلاح أبو سيف بتحويل بعض روايات نجيب محفوظ إلى أعمال سينمائية، بل تمكن الكاتب نجيب محفوظ من كتابة العديد من السيناريوهات لفائدة السينما المصرية بشكل عام ولصلاح أبو سيف بشكل خاص، وهو ما نجده في فيلم “الفتوة” الذي يفكك فيه الكاتب ومن خلاله صلاح أبو سيف واقع مصر الاجتماعي الاستغلالي، حيث ترسيخ ثقافة الظلم والاستبداد من خلال وقائع عديدة تقع في سوق بيع الخضر.
من الممكن التعامل حاليا مع سينما الراحل من زاوية فيلمية وثائقية، إذ سنتمكن ونحن نتابع العديد من أفلامه من معرفة طبيعة الحياة التي كانت سائدة في مصر خلال فترة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وهي فترة مخالفة لما أصبحت عليه مصر بشكل عام اليوم والقاهرة على وجه الخصوص، شأنها شأن كل ما يقع في العالم من تحولات عمرانية وديموغرافية وغير ذلك.
قيم الخير السينمائية.. رسائل خالدة
عديدة هي الدروس والعبر الممكن استخلاصها من أعمال الراحل صلاح أبو سيف، فحُبّه للمكان المصري الشعبي هو حُب يتضح من خلال طبيعة إحضاره للمكان المصري التاريخي والشعبي (أحياء القاهرة القديمة)، وكل الأمكنة التي تولد لدى المتفرج من سحر المكان المصري، إضافة لحُبه لشخصيات البسطاء من الفلاحين والمغلوبين والمظلومين والانتصار الدائم لهم فنيا وإنسانيا.
بالنسبة للألبسة المصرية الشعبية فعادة ما يحضرها في أفلامه، سواء تلك البدوية أو الحضرية ذات الألوان المتعددة والمميزة لحياة البسطاء. كما تمكن أبو سيف من جعل السينما أداة تعبير واضحة لقول “لا” لكل ظلم واستبداد، انعكاسا لميله الدائم نحو ضرورة تحقيق الحق والعدالة.
كما تميز أبو سيف بالحوار المميز لسينماه، حيث الشخصيات تتحاور وتتصارع فيما بينها، دون الميل نحو ما يميز سينما المؤلف التي تعبر في العديد من الحالات بلغة الصمت والرموز والايحاءات، كما استطاع أن يعبر عن هموم المجتمع ومسايرة تحولاته الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، لا سيما ومصر عرفت في عهده العديد من التحولات السياسية التي ميزت مصر الحديثة.
فهذه بعض الدروس المستخلصة من سينما الراحل صلاح أبو سيف الذي ترك لنا كمّا هائلا من الأفلام المصرية التي ما زالت إلى يومنا هذا معبرة ومولدة للمتعة السينمائية المفيدة، في زمن نجد فيه تحولات عديدة تشهدها السينما العالمية، كنتيجة لهموم إنسانية منها ما هو جديد وله صلة بحياته المعاصرة.
سينما أبو سيف.. انتصار للهموم المصرية
سنبقى دوما في حاجة إلى سينما صلاح أبو سيف باعتبارها علامة مميزة للسينما المصرية الواقعية، ومن خلالها نظل نقارن بين ما يجري اليوم في السينما المصرية على وجه الخصوص والسينما العربية على وجه العموم.
إن سينما أبو سيف تتضمن العديد من الدروس والعبر، فأقل ما يُقال عنها إنها سينما هادفة إلى الانتصار لقصص مصرية منحوتة من هموم وآلام وآمال عايشها المخرج وتفاعل معها، وقدّم وجهة نظره فنيا فيها.
الكبار دوما لا يرحلون حينما يغادرون هذه الدنيا، فهم راسخون في أذهان الناس بأعمالهم الفنية والثقافية والإنسانية. وهو مخرج يستحق اليوم أن يكون موضوعا سينمائيا روائيا ووثائقيا، اعترافا منا بخدماته السينمائية الجميلة لفائدة السينما المصرية والعربية والإنسانية عموما، واعترافا لما تركه من بصمة في من تعلم على يديه.