أحمد حلمي.. آخر ما بقي من فوضى نجم فقد شغفه

إسراء إمام
حاليا إن ذكرنا اسم أحمد حلمي فإننا سنجد عددا من الانطباعات المتضاربة حيال هذا الاسم، منها انطباع من يحبون نجومية صاحبه حُبّا غير مشروط، تقودهم مشاعرهم وتعمي حسهم النقدي، فيصفقون لكل ما يُقدمه هذا النجم بصدق وبولاء غريبين قد يستمران إلى الأبد أو يتوقفان فجأة، وهم فئة ليست قليلة من الجمهور.
وسنجد انطباعا معاكسا تماما عند فئة أخرى ترى أن نجومية حلمي كانت صدفة، أما ما يحدث له في السنوات الأخيرة من إخفاقات فهو ما كشف حقيقة حجم إفلاسه في إدارة موهبته، فمن وجهة نظرهم أسطورة حلمي انتهت، ولم يعد بمقدورها أن تُعيد مجدها من جديد، وهو الرأي الذي أراه مُجحفا مزيفا مثل الذي سبقه، فكلا الانطباعان يفتقران إلى الدقة، ويحكمان على الوضع عن طريق المشاعر سواء كانت حبا أم مقتا.
فالانطباع الذي أُثيره بخصوص أحمد حلمي، وسأتحدث بمنطقه في هذا المقال؛ هو ضرورة تأمله دون الاستباق بالتوقع، لأن أحمد حلمي قابل لأن تمنحه فرصة أن يكون غير متوقع، على الرغم من أنك قد تجزم بكونه مُستسهِلا مُستهترا مُستهوِنا.
فمفردات كتلك قد تلائم ما يحدث من حلمي في السنوات الأخيرة، لكنه لن ينحسر في خانة المتوقع، لأنه نجم ذكي حتى وإن تغابى بإرادته، ثري حتى وإن تقاعس عن توظيف هذا الثراء في إدارة موهبته.
حلمي في رأيي حتى وإن كان متوقعا في بعض المرات، فإنه لن يكون متوقعا إلى الأبد، فستظل تنتظر منه صحوة حتى وإن بدا كمن لن يقوم من غفوته.
هذا هو بالضبط انطباع الفئة الثالثة، وهي الفئة التي تُقدّر حلمي وتحبه، تتفهم استثنائية موهبته وتعي تماما قدراته، لكنها أيضا تعترف بكونه مُقصرا في اختياراته الأخيرة، وتُلقي عليه بلوم تجتهد في أن يكون عادلا، بينما تبذل مجهودا آخر في محاولة قراءة دوافع هذه الاختيارات الملغزة التي تدعو للتساؤل، وتمثل علامات تعجب كبيرة تستدعي بدورها النظر في ملف أحمد حلمي منذ البداية في محاولة للتفكر والفهم.
“لعب عيال”.. فوضوية ارتجالية حملت حلمي إلى التلفزيون
يقول حلمي إنه لم يفكر يوما في التمثيل، فبالنظر لما قاله عن تخطيطه لحياته سنراه عشوائيا أكثر من كونه عمليا، وهذا جيد بالمناسبة، لأن الفوضوية تشير أحيانا لصدق المشاعر، والمشاعر كفيلة في بعض الظروف أن تكون البوصلة الوحيدة لنوع أكثر عمقا من النجاح.
ويكفي أن هذه الفوضوية هي ما قاد حلمي لأن يعمل مساعد مخرج في قناة الفضائية المصرية، بدلا من عمله المُتوَقع في الديكور نظرا لدراسته في معهد فنون مسرحية بقسم الديكور، وهذه الفوضوية أيضا هي ما قاده لكي يتحول من مساعد مخرج إلى مُقدم برنامج أطفال فريد من نوعه، وقد حدث هذا فقط حينما اتبع حدسه وأجرى لقاء ارتجاليا مُفاجئا مع طفل، ثم عرض ذلك اللقاء على الإعلامية الكبيرة المختصة وقتها سناء منصور، ليُصبح مذيعا للبرنامج الشهير “لعب عيال”.
أجرى حلمي هذا اللقاء الارتجالي لأنه -على حد قوله- كان يُستفَز كطفل حينما يُداعبه أحدهم بالطريقة الكرتونية المعتادة التي يحاول بها الكثيرون التقرب إلى الطفل من خلال معاملته، وكأنه يمتلك عقلا صغيرا، فيصدرون همهمة غير مفهومة باعتبار أنها ستضحكه، ويستخدمون مفردات مثل “إمبو” “ماء” وغيرها، لأنهم يعتقدون أنها المفردات الأقرب لفهمه.
كان كل هذا يضايقه، ومن الواضح أن تأففه من ذلك التعامل كان دوما مُخزَنا في ذاكرته، وهو ما أهله لكي ينتهز الفرصة حينما واتته ويحاور طفلا بالطريقة المعاكسة تماما لما أغضب طفولته دوما، فماذا سيحدث إن تكلم معه وكأنه كبير أكثر من اللازم؟
في هذا الموقف يمكننا أن نستخلص أن حلمي لا يمتلك سرعة بديهة مذهلة وكفى، وإنما يمتلك منهجا تحليليا خلّاقا قاده إلى الفكرة. هذا بالإضافة إلى كونه صاحب قدرة على تنفيذ فكرته تلك بتفرد وموهبة دفعتها لكي تكون ألمعية كفاية، لتجعل مديرته غير مترددة بخصوص تحويلها لبرنامج كامل.
ويمكنك أن تعود لواحدة من حلقات “لعب عيال” مُراقبا تلك المرّة حلمي عن كثب، وهو يتلقف بمهارة إجابات الأطفال، ويحولها إلى أسئلة وتعليقات مناسبة تماما لتزيد من طرافة الأجواء وتقدم سببا منطقيا لاستمرارية هذا البرنامج على مدار أربع سنوات.
“موهبة تشكلت وأصبحت إنسانا”.. حلمي المتفجر بالمواهب
كان برنامج “لعب عيال” سببا لكي يرى المنتجون في أحمد حلمي مشروع كوميديان، ومن هنا جاءت خطوة التمثيل صدفة أيضا، لكنها صدفة مُهد طريقها بفطرة صادقة، وموهبة تفسح لنفسها مجالا إلى ما تجيد، حتى وإن لم تكن واعية بذلك.
أحمد حلمي موهبة جديرة بالاهتمام، فهو يمتلك حسا أقوى بكثير مما نحسبه فيه، هذا الحسّ يجذبه ويمدّه بقدرة معينة على تذوّق الفنون وممارسة بعضها، فمن المعروف عنه قدرته على الرسم، لكنه أيضا يمتلك علاقة خاصة مع الموسيقى، وإن تابعت الفيديوهات التي يظهر فيها حلمي على منصات التواصل الاجتماعي التي يقوم بمونتاجها بنفسه؛ ستلاحظ ذلك من اختياراته الموسيقية، والكيفية التي يوظفها بها مع اللقطات، على الرغم من طبيعة هذه الفيديوهات التي تبدو لمن لا يدقق مجرد مادة طريفة عابرة.
كما أننا يجب ألا ننسى أنه قد حكى في مرة عن قبوله في كلية تربية موسيقية بقسم الأصوات، وهذا يعد دليلا دامغا على تلك العلاقة التي تجمعه بالموسيقى.
قد تراه متعدد الموهبة، لكنني أراه بشكل أدق موهوبا بشدة، لدرجة تجعله قادرا على استيعاب عدد من الفنون، فهل تعي الفارق؟
الأخيرة تعني أنه لم يولد ليُكتب على اسم موهبة بذاتها، بل إن موهبته هي قدراته على استيعاب أكثر من نوع للفنون، فهو يملك أدوات ذهنية ونفسية وشعورية تؤهله لأن يقتحم نوعا ما من الفن لم يسبق له ممارسته فيجيده، وقد يضيف إليه بصمة خاصة.
حتى فن التمثيل نفسه، لا يقف حلمي فيه عند منطقة الكوميديا، فإضافة إلى الذي لا يختلف عليه أحد بخصوص أدائه الدرامي في أفلام مثل “سهر الليالي” و”آسف على الإزعاج” و”18 يوم” وغيرها، فهو أيضا قادر على أن يفاجئك باكتشافه لنفسه في مساحات أخرى مختلفة يصعب تصنيفها من التمثيل.
ولن أجد في هذه الجزئية توصيفا أكثر تلخيصا وإيجازا وجمالا لما أرغب في قوله، سوى تلك الجملة البسيطة البديعة التي وصفته بها الإعلامية سناء منصور في برنامج صاحبة السعادة حينما قالت: أحمد حلمي هو عبارة عن موهبة تشكلت وأصبحت إنسانا.
“على جثتي”.. إخفاق حلمي الذي يُكرر نفسه
قال حلمي في برنامج “صاحبة السعادة” مؤخرا إنه يفضل أن يكون مجربا مختلفا أكثر من كونه تقليديا ناجحا، وعلى هذا الأساس قدّم مواضيع غريبة على الجمهور كفيلم “1000 مبروك”، أو مواضيع جريئة على لونه الكوميدي كفيلم “آسف على الإزعاج”.
وبالطبع نجح حلمي في أن يكون مجربا موفقا، لكنه خان هذا التوصيف بداية من فيلم “إكس لارج” (2011)، ونهاية بفيلم “على جثتي” (2013). فمنذ تجربة “على جثتي” وحلمي يقوم بتكرار نفسه، ولا أقصد أنه يكرر نفسه داخل المواضيع التي يقوم بتقديمها، فهو يختار موضوعات تبدو مختلفة، لكنه يكرر نفسه بمحاولته الدائمة أن يعيد نففس المعاني التي سبق أن قدمها في أفلامه الناجحة.
بات حلمي محصورا بين أشباح هذه المعاني متأثرا بهالتها القيمية، والمشكلة أنه غفل عن كون تلك الهالة التي صدقها الناس وأحبوها تسللت إلى نفوسهم بهذه الانسيابية لأنها لم تكن مُتعَمّدة، كما أنها وُظَفت جيدا داخل إطارها الفيلمي، فلم تكن منفصلة عنه ولم تسبقه بخطوة واحدة بل توارت في ظله، فلمحها الناس وأشاروا عليها. لكننا في فيلم مثل “على جثتي” نرى تلك النية المبيتة في الحض على التغيير من السلوك الإنساني زاعقا وحيدا، داخل إطار سيناريو باهت ضعيف للغاية.
“خيال مآتة”.. ارتباك فني في تجربة بائسة
بعد فيلم “على جثتي” نراه يُعيد الخطة نفسها، لكن بشكل أكثر خيالا وخفة في فيلم “صنع في مصر” (2014)، ثم في عام 2016 يلجأ لمنطقة أمانه بفيلم “لف ودوران”، فتلك تجربة تشبه مرحلته التي قدّم بها نفسه للناس، والتي قد وصفها بذلك، وضَمّن تحتها أفلامه “زكي شان” و”مطب صناعي” و”ظرف طارق” و”جعلتني مجرما”. لكنه واجه المشكلة ذاتها، وهي ضعف الكتابة، مما جعل الفيلم يبدو تجربة معقولة لبطل يقدم نفسه لأول مرة في فيلم رومانسي كوميدي.
لم يرقَ الفيلم لمستوى أفلام منطقة الأمان، وبدا خالي الوفاض من البصمة التي ينتظرها الجميع من حلمي.
ثم بعد سنوات حائرة نراه يقدم فيلم “خيال مآتة” (2019)، وهو الذي يمثل أيضا تجربة بائسة لإعادة أمجاد المعاني القِيمية بكتابة مرتبكة فاقدة للروح والإيقاع والتناغم بشكل لا يصدق، ومتشبثة في المقابل بمحاكاة الرمزية المباشرة، والمشاهد المؤثرة التي لا تقف على أرض بناء قوي للشخصيات والأحداث.
بين الأفلام القوية والهشة.. بوصلة حلمي الضائعة
صحيح أن معظم أفلام حلمي القوية كانت مع كُتّاب مشهود لهم، وفي المقابل أفلامه التي خيّبت ظنوننا كانت مع كتاب لا يجيدون ملك زمام السيناريو، لكن لا يمكننا عزو سبب الإخفاق إلى هذه النقطة فقط، أولا لأن ثمة أفلام لحلمي مع كُتّاب لا نراهم متألقين في كل حالاتهم مثل أيمن بهجت قمر، ورغم ذلك معظمنا يعتبر فيلم “آسف على الإزعاج” من الأفلام الجيدة جدا التي تُحسب لحلمي، وكذلك “إكس لارج”، رغم أننا يمكن أن نستثنيه بسبب وجود شريف عرفة في الصورة، ومن المعروف عنه في بعض الأحيان التدخل لصالح قوة السيناريو.
أما السبب الثاني الذي يمنعنا من التشكيك في قدرة حلمي على تمييز الكتابة الجيدة من غيرها، فهو مشاركته الفعالة في الوصول لنتائج مرجوّة في كتابة سيناريوهات أفلام مثل “كدة رضا” مع أحمد فهمي و”عسل أسود” مع خالد دياب. هذا يعني أنه صاحب حاسّة تعامل جيدة مع صناعة السيناريو نفسها، فما بالك بقدرة الحكم عليه؟
السبب في رأيي أكثر التباسا وتعقيدا، فحينما تحدثنا عن بوصلة حلمي التي كانت تقوده منذ البداية لمناطق تخدم موهبته لاحظنا تلك الفوضى التي كانت تسيطر على تصرفاته، تلك الفوضى التي كانت نابعة من حدسه وتلقائيته في التعامل مع الظروف، وفقا لما تمليه عليه طبيعته.
يدّعي حلمي أنه ما زال كما هو مجربا فوضويا، يقول مؤخرا في ثقة “أنا هاعمل فيلم مش هايعدموني بعده”، في إشارة لكونه لا يَهاب ردات فعل الجمهور، وأن اختياراته لن تتحول بعيدا عن رغبته الدائمة في الاختلاف، لكن هذا ليس صحيحا، فبالنظر إلى اختياراته منذ فيلم “على جثتي”، سنرى الخوف وهو يُقيّد خطواته، ويحول بينه وبين صوت نفسه، وبدلا من ذلك نستمع إلى صوت آخر لا يبحث من خلاله عن إرضاء نفسه كما كان يحدث في السابق، وإنما عن صدى النجاحات الفائتة.
“الجمهور ينتظرك أنت”.. رسالة إلى حلمي الباهت
بعد كل إخفاق وآخر يبدو حلمي غير مبال فاقدا للشغف الذي كان يملكه في السابق، وهذا الفقد يدفعه لأن يخون صوته الخاص في الاختيار القادم، ويجعل ما رأيناه فيه مميزا قد أصبح باهتا، حتى أن حضوره لم يعد مُؤثرا كما كان، ولياقته الكوميدية كذلك. لقد ضِعنا منه لأنه قرّر أن يضيع من نفسه. ومع كل فرصة مُحاولة بقلب بارد يعمل بآلية أكثر، فيزيد ذلك الشحوب الذي نلتمسه في روحه أكثر، وكأنه صَنع من نفسه درعا لتقبّل سوء الوضع وعدم التعاطي مع تفاقمه بطريقة شعورية، فتصبح المحاولات بعدها أكثر جمودا وتوقعا، وبالتالي أقل جمالا.
ليس ثمّة فوضى إبداعية في تلك الدائرة المفرغة، وإن كان يمكن أن نعتبرها نوعا من الفوضى، فهو ذلك النوع البغيض من الفوضى غير الخلّاقة. فقد قال ذات مرة منذ سنوات “أنا التمثيل كله أصلا مش في بالي، لو حصلي فيه أي صدمة ممكن أسيبه وأمشي”، فهل يمكننا اعتبار ما يحدث نوعا ما من التخلّي؟ إنه بات ينزع نفسه مما يُقدمه، لينأى بها عن صدمات الإخفاق؟ ليصبح ما يقدمه مجرد عمل يبذل فيه جهدا منطقيا لكي يعجب الناس، وإن لم يحدث فلا داعي للقلق.
لا أعي في الحقيقة دقة صحة هذه القراءة للوضع، ولكن إن لم تكن صحيحة، فهي في النهاية محاولة لتأمل تلك السنوات الأخيرة في مسيرة حلمي بدافع من حبي له، وبخلفية واعية لثراء نفسه، وإن كانت صحيحة فهي ببساطة رسالة تسعى لأن تعيد لنا هذا الحلمي المتقد الطفولي الذكي الذي لم يكتشف كل قدراته التي أحببنا ربع ما رأيناه منها حتى الآن.
فكما قال هو بذاته: “التمثيل بحر، وأنا كنت عاوز أعوم، مش عاوز أثبت للناس إني بعرف أعوم، فيه فرق كبير”. إذا عد لنفسك يا حلمي واقصر الرهان معها وعليها، ولا تنفصل عنها بما ينتظره الناس من معادلات نجاحك السابق، فإن الناس ببساطة تنتظرك أنت.