مصطفى جاجام.. نجم الجزائر الذي لم تُنصفه السينما العربية

حميد بن عمرة
من مدينة وهران إلى بلاط “سبيلبرغ” كانت الرحلة طويلة، ولا يمكن لممثل الدخول إلى السينما العالمية لمجرد أن بوجهه وشما، أو أن شكله متفرد. التمثيل عند الجزائري مصطفى جاجام ليس نرجسية بوسائل الاتصال الاجتماعي، وإنما هو تعامل مع النص والخشبة قبل مواجهة العدسة. فمصطفى لا يستعمل وسائل الاتصال الاجتماعي في حياته اليومية مثل الكثير من الممثلين، لأن الحرفية لا تحتاج حتما إلى الإشهار.
يلحّ بأنه لا يستعمل هذه الوسائل لأنه يخشى الإدمان عليها، ولأنه يفضّل استقلاليته. فالممثل وجوده مرهون برغبة المخرج، لأنه يؤمن أن الإشهار العشوائي لا يزيد ولا يقلل من الحرفية. فالممثل لا يستعمل فقط لغة النص المطلوب منه، ولا لغة حي ولادته، أو لغة النجوم الذين يحلم بهم، لأن هناك لغة واحدة هي لغة الجسد قبل استعمال لغة يجهلها.
لا يحتاج الممثل الموضوعي إلى لهجة معينة أو تخصص جامعي لاكتساب اللغة، لأن الأهم هو أن يكون فصيحا ومسموعا للجميع، مع الحفاظ على اللون المحلي المطلوب. أما الأصعب عند مصطفى جاجام فهو الاقتراب من الأصل، وإذا اقتضى الأمر تدريبا فإنه يستحسن الاستعانة بمدرب خاص، ففي دور لشخصية مخابراتية باكستانية تعلم لغة الأوردو بطلاقة في ظرف قصير حتى لا يفقد مصداقيته، وفي دور مسرحي سابق من إخراج “بيار غيوتا” طُلب منه استعمال لغة مخترعة خصيصا بالمسرحية دام التحضير فيها لخمسة أشهر.
تعامل الممثل مصطفى مع الألمانية كثيرا في أفلام “وارنر شروتر”، ومع الإنجليزية مع الحفاظ على طابع محلي، فالممثل العربي الذي يتقن الإنجليزية بدقة لا تحتاجه السينما الأمريكية، لأنهم يملكون الكثير من الوجوه النمطية كما يؤكد مصطفى، إنهم يستعملونك لأن لديك لهجة ووجها لا يملكونه في قوائم الممثلين الأمريكيين، لذا لم يحلم “جاجام” بالتمثيل بأمريكا.
إن الاحتكاك بمخرجين كبار يعلمك الكثير، ليس فقط في اختصاصك كممثل، وإنما يفتح عينيك على الإخراج والتأليف، لأنه لا يمكن العمل مع أشخاص موهوبين وحرفيين دون اكتساب شيء منهم.
“الحدود”.. بداية سينمائية من هواجس أفريقيا
كان فيلم “الحدود” أول أفلام مصطفى جاجام، وقد صور عام 2001 مستبقا للأحداث لكنه ما زال راهن المضمون، فقد أخرجه في زمن لم تكن الهجرة فيه بهذا الحجم، بل كانت مجرد ظاهرة نسبية لا تشكل أي خطر على أوروبا حسب قوله، ويضيف أن الفيلم لم يتوقع أن يتحول هذا الزحف إلى برنامج ممنهج تشارك فيه عصابات عدة.
إن العمل في أفلام عالمية مع شخصيات مشهورة مثل “سبيلبرغ ” أو “شروتر” يغذي حياة الممثل إنسانيا بشكل يتعدى العلاقة المهنية.
لقد كان جاجام حاضرا بقوة أمام النجم “إريك بانا” في فيلم “ميونيخ” (Munich)، لكنه في تفسيره لهذا الحضور يقول بتواضع إن المخرج الكبير يتمكن دوما من أخذ يدك بهدوء إلى المكان الذي يريدك فيه، ويصر على أن لا توجد لدى ممثليه جميعا أي ثغرة في الأداء، وإلا يحذفون بالتركيب النهائي.
يدقق جاجام في توضيح مناهج العمل في البلاط الكبير في الإنتاج العالمي فيقول إنه نادر جدا أن تتحول علاقة عمل إلى صداقة دائمة، لأن الممثلين طبقات، والنجوم لهم المجاملة الخاصة، ولهم فريق بكامله يُحاط بهم، ولا تلتقي بهم إلا أثناء تصوير اللقطة، وليس لديك أي زمن لتتعرف عليهم أو يتعرفوا عليك.
السينما ليست صالون أصدقاء نشرب فيه الشاي بعد الوقت المستقطع، إنها آلية تتقدم بسرعة، ولا مكان لاعتبارات إنسانية فيها. يؤكد جاجام أن من يختارك ليس المخرج، بل مدير تجارب الأداء (الكاستينغ)، وهذا الأخير ليس حاضرا أثناء التصوير، فمدير “الكاستينغ” يسلم الممثل المناسب للدور المناسب في زمن معين، وليس مدير صالون للزواج يختم ساخرا.
لكن ما الذي يجعل الممثل “جاجام” يقبل دورا يتعامل معه المخرج الأمريكي “سبيلبرغ” كشخصية إرهابية؟ ما هي الحدود بين قبول دور تعرف مسبقا أنك لست البطل فيه سينمائيا، حتى وإن كنت مقتنعا تاريخيا أن القراءة معكوسة، وبين تأديته من أجل اعتبارات معيشية بحتة بعيدة عن المحتوى؟
من الأمور التي تدخل الممثل في متاهات التأليف هي أن تكون شريكة حياته كاتبة سيناريو متمكنة من الحبكة وآليات الدراما والفكاهة. إن العمل والعيش مع السيناريست “آنياس دو ساسي” التي صنعت الكثير من سيناريوهات السينما الفرنسية يسمح بخلق أجواء ملهمة للعمل في بيت جاجام.
لذا كان دورها حاسما في كتابة فيلمه “الحدود”، فالنية كانت تطوير سيناريو لعصبة تتنقل من نهر السينغال إلى الضفة الأوروبية. فتجنب في كتابته الجانب البائس، ولم يجعل من شخصياته مجموعة من المتسولين الذين ينال منهم الغبار.

“عن أي سينما عربية تتحدث؟”.. نبش في أسرار المهنة
في حواراتنا المستمرة يحلو لمصطفى جاجام نبش المهنة، وخاصة الذين يعتقدون أن التمثيل أقرب لعرض الأزياء، وأن القامة أو العضلات يكفيان للدفع بك في الشاشات الضخمة، فيقول جاجام إن السينما ليست قماشا يُنسخ ويباع في الأسواق حسب مقاس الناس.
مثّل جاجام كثيرا للمسرح ويعرف قيمة الصمت على الخشبة، إنه ممثل لا يبوح سريعا بمشاعره، كما لا يصرح بسهولة عن كواليس المهنة حياء وحفاظا على أسرار المهنة، فهو من الجيل السابق البعيد عن التباهي والاختيال.
لكن لماذا لم تعطه السينما العربية المصرية التونسية المغربية الأردنية الخليجية السورية الفلسطينية مكانا يليق بخبرته وأهميته مثلما تعاملت معه السينما الغربية؟ يرد “جاجام” بحذر وصرامة فيقول: لا لوم ولا ندم لأنني دوما مستعد وجاهز كممثل، لكن عن أي سينما عربية تتحدث؟
“الخارجون عن القانون”.. نحت الدور شبرا بشبرا
عندما مثل مصطفى جاجام في فيلم “الخارجون عن القانون” لرشيد بوشارب في دور خياط ينتمي لتنظيم جبهة التحرير الوطني، كان يعد الدور شبرا شبرا مثل المهنة التي تقمصها. يبوح لي جاجام أنه بعد العرض بمهرجان “كان” -حيث كان الفيلم بالمسابقة- حاوره كثير من النقاد والمنتجين أكثر مما فعلوا مع نجوم الفيلم، إن الشكل والمضمون قد يختلفان فيفقد المضمون من وزنه، إذ يشكو الكثير من المخرجين من الممثلين الذين لا يدخلون في أدوارهم، لكن المخرج عندما يكون أقل إبداعا من الممثل فإن هذا يظهر بشكل يفقد الفيلم تماسكه السردي.
لذا يمارس جاجام النحت في سرية تامة ولا يستعرض من أعماله شيئا إلا إذا سألته عن شيء وضع فوق الرف، فيجيب أن النحت عنده عمل حميمي. فما هي الحدود بين النحت الذي يمارسه وبين نحت الدور في السينما؟
يرد جاجام أن النحت عمل تقوم به في خلوة وعزلة مما يقربك لذاته، ويخلق حوارا داخلي بينك وبين نفسك، كما يُلح على أن السينما هي عمل جماعي يعتمد على إقناع الاخرين قبل كل شيء، إقناعهم بالفرس والجواد وخط الوصول في آن واحد. المنتج يحب الرهان لكن يحب خاصة معرفة نتيجته مسبقا. فهل الممثل غير البارع في إقناع غيره بأهمية وضرورة وجوده يُعتبر ممثلا فاشلا، أم أن المنتج والمخرج هما من يحددان قيمة الممثل؟ هل إقناع المشاهد أهم من إقناع الجهات الإنتاجية للفوز بالدور؟
أعرف أنه لا يمكن الرد على كل الأسئلة التي تراودني لأنني كناقد ومخرج أعرف جيدا أن الممثل مؤلف بدوره، لأنه العنصر الحيوي الذي به يكون الفيلم أو لا يكون، فالأسئلة تتدفق قبل الاستجواب وبعده، وحتى أثناء تحرير المقال، مثلما تتدفق الأسئلة عند القارئ، وهذا هو الهدف الأول الأساسي للكتابة.
“مغامرات بطل”.. تقمص شخصية الدرويش تجنبا للمقص
إن تصفح قائمة الأفلام التي مثّل بها مصطفى جاجام تُدلي بخبرة قديمة لها ثمنها الفني، لكن التوقف عند فيلم محوري مثل “مغامرات بطل” من إخراج الجزائري مرزاق علواش يكشف لنا عن إمكانيات فطرية هائلة تستحق التفكيك والتمعن.
فنجد في تقمصه لشخصية الدرويش أو المجنون حضورا غير مألوف، رغم أن المجانين بالسينما الجزائرية كانوا أبطال عدة أفلام. لأن المجنون حسب “جاجام” كان يبرر حرية تعبير لا يمكن لشخصية عادية استعمالها حتى لا يقع الفيلم تحت حدّة مقص الرقيب.
لقد تزامن عرض الفيلم بالجزائر مع وفاة هواري بومدين، فسحب من القاعات في أيام الحداد ولم يعرض بعدها بشكل مكثف. ويبقى بعد كل هذا الغياب يمكن لسينيماتيك الجزائر أن تعيد عرض هذا الفيلم مصحوبا بورشة في التمثيل والعودة إلى حقبة كانت السينما فيها بالجزائر صناعة حقا؟
يؤكد جاجام على أن شخصية المجنون ليست من اختراع جزائري، بل نجدها في فيلم “باب الحديد” ليوسف شاهين، وأفلام عربية وأجنبية أخرى. غير أن ما يدفع للتنقيب في هذا الفيلم هو أن كتابة الحوار كانت من طرف المسرحي عبد القادر علولة. فهل كان التمثيل بلهجة وهرانية لغرض الدخول في الشخصية، أم أن الجانب المسرحي هو الذي أعطى للدور ثقلا مختلفا عن الأدوار الأخرى؟
وهران مسقط رأس جاجام وعلولة فكلاهما ابن للمدينة المشعة، وكلاهما نشأ في أحضان البحر المتوسط، فهل وضع علولة الكلمات المناسبة في فم الممثل، أم أن الممثل عرف كيف يتذوق كلمات علولة؟ وهل تعمد مخرج الفيلم بناء السيناريو حسب إمكانيات الممثل، أم أنه كان يريد بصمة المسرحي علولة؟

تعريف التمثيل.. تغريد خارط السرب العام
هناك مقولة فرنسية شهيرة مفادها أن التعريف بالأشياء وإتقانها فكرتان مرتبطتان قلبا وقالبا. غير أن جاجام ليس بطلا بالمعنى الفيسبوكي بل بطلا لحياته، فهو يعترف بالعمل والمثابرة لا غير، فالتمثيل عنده ضرورة وأولوية حياة، حتى وإن لم يكن بالواجهة وتحت أضواء الشهرة.
فهل الممثل محدود بقدراته الجسدية مثله مثل العدّاء المختص في 1500 متر لا يصلح في سباق الماراتون، أم أن الممثل يخرج عن حدود الممكن والمسموح به متحديا طاقاته الشخصية؟ لا يبدو مصطفى جاجام في لهفة أو ترقب مستمر لعروض سينمائية، لأنه يعرف أن المخرج الجيد يُنقّب ويشاهد أفلام الغير، ولا يكتفي بالحاشية التي تمدحه.
إن الممثل الذي لا ترتعش قدمه على خشبة المسرح أمام جمهور عارف لا يمكن أن تهمس له رمشة عين أمام أي عدسة قريبة أو بعيدة الفضاء. هكذا يبدو جاجام في كل لقاء معه مطمئنا وساكنا.
صراع المسرح والسينما.. فرق شاسع بين الكوميدي والممثل
يعترف مصطفى جاجام بالمنافسة بين ممثلي المسرح وممثلي السينما، ففي فرنسا هناك فرق شاسع في المصطلحات بين مفهون الكوميدي (Comédien) ومفهوم الممثل (Acteur)، حيث يختص الأول في المسرح والثاني في السينما، لكن هناك اختلاف آخر أكثر دقة يفسره الممثل النجم “آلان دولون” الذي يعترف أنه ممثل وليس من صنف الكوميديان.
الفرق بسيط عنده، لأن الأول يدرس ويتمرن ويرغب ويحب التمثيل، أما النوع الثاني فيعيش الدور ولا يمثله، أي أن الدور يجب أن يتطابق مع حياته وماضيه كي يستلهم منه ويعيد استحضاره.
فكيف يمكن لممثل بعيد عن ضوضاء الحوارات التلفزيونية وصحف “الباباراتزي” أن يحافظ على نكهة التمثيل، وكيف يتمكن من الحفاظ على استعداد مستمر لتقمص أي شخصية، دون اعتراف ذويه من مخرجي السينما العربية؟
يُقر جاجام أن الممثل كباقي المواطنين بحاجة إلى موارد معيشية، وأنه بهذا يعرف القيمة المادية لكل دور حسب ميزانية كل فيلم.
مدرسة السينما الجزائرية.. حين تصبح القضية أهم من الممثل
لا يلوم مصطفى جاجام السينما العربية أو الأفريقية على تناسيه أو عدم الانتباه إليه، لأنه يتساءل كثيرا إن كانت حقا موجودة كصناعة، أم أنها محصورة فقط على بعض الفرديات. كما يبوح أيضا أنه أعطى ما يكفي من وقته وطاقته إلى السينما الفقيرة المصورة من دون ميزانية، ولا يمكن أن يُلام بدوره على عدم مساعدة هذا النوع من الإنتاج.
يلاحظ جاجام أن السينما الجزائرية لم تبنِ أفلامها حول الممثل، وإنما حول القضية، فقد كانت القضية الفلسطينية وقضايا التحرير عامة أهم من السيناريو. لذا فإن فيلمه “حدود” يتمحور حول سبع شخصيات من آفاق مختلفة يرتبطون ببعضهم ويحاولون الوصول إلى عالم أفضل.
“الحدود” كما يقول “جاجام فيلم متقدم عن زمنه شكلا ومضمونا، وقد عانى الكثير بعد إخراجه وبعد عروض عالمية كثيرة؛ من خلاف بينه وبين جهات الإنتاج، وربما هذا أحد أسباب عزلته الإخراجية حتى الان؟
من النظريات الثابتة أن الممثل عندما يخرج فيلما تكون علاقته مع الممثلين أكثر دقة، لأنه يعرف أسرار المهنة، وهذا يسمح بمنح الممثل فضاء مريحا وآمنا لبلورة الدور. إن الممثل جاجام رغم جزائريته المرفرفة فهو يحمل في وجهه جنسيات مختلفة مغربية وباكستانية وفلسطينية، لذا ليس مهما لون جواز سفرك أكثر من الطريق الذي تنوي السير عليه، ولا مناص من الشفافية عند الممثل كي يكون قابلا لاستيعاب كل الألوان، إنه شفاف مثل الماء، يتخذ جميع الأشكال والألوان حسب نوع الوعاء.

“الحدود”.. دفاع عن المُهاجرين خارج النمطية
دافع مصطفى جاجام في فيلمه “الحدود” عن المُهجرين الذين لا يملكون جوازات سفر، وبالتالي تطابق فكره السياسي مع تفكيره الفني، وقد ساهمت زوجته “أنياس دو ساسي” في الاقتباس، أي أنها هي التي كانت توجه الكتابة على نحو يسمح للسرد أن يتقدم سينمائيا.
السيناريو المكتوب لا يصلح دوما للتنفيذ، لذا فمهمة المقتبس تشبه عمل المركب السينمائي في تعديل المشاهد، وأحيانا عكس تسلسلها حسب منطق قد لا يراه كاتب السيناريو، إنها مهنة قائمة بذاتها وليست مجرد تدخل لمستشار فني بفيلم.
يختلف كثيرا هذا الفيلم عن الأعمال الحديثة المتطرقة للموضوع نفسه، والتي تكتفي بحشو عدد من “الكليشيهات” في تسلسل ساذج وتركيز بدائي على البؤس والغبار، لأن جاجام شرح الموضوع من كل جانب، وأعطى له كل البعد السياسي والنفساني بمعالجة الشخصيات فردا فردا دون حشرهم في سلة واحدة، فالفيلم عن الفرد وعن الجماعة، وكيف تتكون الصلة رغم اختلاف الجنسيات واللغات، وكيف يميل الفرد دوما إلى الانتماء الجماعي بفطرية أزلية.
لا يسرد جاجام فقط رحلة من الجنوب إلى الغرب، وإنما رحلة كل فرد نحو الآخر، والمثير في هذا العمل هو استناده على وجوه غير معروفة، وعلى سيناريو متشابك وتصوير في بيئة صعبة، أي أن الفيلم لم يأخذ احتياطات مألوفة كاستعمال نجم على الأقل يضمن الترويج والاستقطاب، ويقلل من تخوفات المنتجين. فهل بهذا الفيلم يكون “جاجام” قد قام برحلة مجازفة مثل شخصياته؟

“مسلي رسام وموصل أحلام”.. من يريد قتل الفنون في الجزائر؟
في عام 2011 أخرج مصطفى جاجام وثائقيا حول الرسام مسلي شكري (1931-2017) الذي ترك بصمة كبيرة في مدرسة الفنون الجميلة بالجزائر. ومن بين الذكريات والحنين يستنطق جاجام آخر عمالقة الفن التشكيلي الجزائري المنحدر من عائلة مقاومة مرتبطة بالزعيم مسلي الحاج المعروف بمصالي الحاج، والذي غيّر اسمه لتجنيب العائلة أي التباس أو تورط في عمله السياسي.
يصور جاجام الفنان مسلي بحياء عندما يسترجع حزنا باطنيا وألما عميقا حين أجبر على مغادرة الجزائر في العشرية السوداء، لكن من يريد قتل الرسم والسينما والشعر والحب لحد الآن في هذا البلد؟
إن العلاقة بين الفيلم الطويل “الحدود” وبين الفيلم الوثائقي “مسلي رسام وموصل أحلام” هي أفريقيا والحلم الأفريقي، لأن مسلي في لوحاته يثبت علاقته بالقارة أكثر من علاقته بتلمسان مسقط رأسه. فهل بهذا التوجه يريد جاجام كمخرج الإلحاح على أهمية الانتماء الأفريقي أكثر من الانتماء للبترول؟
إن الحديث مع جاجام لم ينقطع منذ لقائي الأول به عام 2016، حين كان رئيس لجنة التحكيم بالأيام السينمائية الجزائرية، إذ عرضتُ فيلمي عن المسرح والسينما “هواجس الممثل المنفرد بنفسه” مع الكبير محمد أدار ابن مدينة وهران. وكانت الأسئلة التي أرسلتها له تصلح لكتاب كامل حول مهنة الممثل، لذا سحبت النوع الكلاسيكي في الحوار، مما يسمح بحميمية وحياء في الوقت نفسه.
ينهي “جاجام” سيناريو جديدا تدور أحداثه بين الجزائر وفرنسا، لكنه أصر على كتمان مضمونه وباح فقط بأنه لن ينهج مسار الفيلم الأول بسبع شخصيات، بل يكتفي بعصر واحد. لكن يبقى التساؤل عن عدم وصول وجه سينمائي إلى عدسات المخرجين العرب، وعن الحاجز الوهمي الذي يطارد الممثلين من هذا الوزن، لأن جيل جاجام لا يطرق الأبواب ولا يرسل الورود ولا ينحني أمام جبروت القنوات التلفزيونية. فكيف نجعل الممثل الجيد في متناول المخرج الجيد دون المرور بالواسطة والحاشية؟