حميد بن مسعود.. عصفور الرباط الذي حلّق في سماء السينما العالمية

المصطفى الصوفي
تبدو حزينة للغاية سينما رويال بالعاصمة الرباط المحاذية لحديقة حسان، والمدينة العتيقة لفضاء باب الأحد التاريخي، فأبوابها موصدة، وقد علاها الصدأ والغبار، وبهوها فسيح يجلله الصمت من كل مكان، إلا من صور باهتة لأفلام قديمة في غاية الأفول.
بالأمس القريب كان الفضاء الذي يطل على أحزمة خضراء توصلك إلى المسرح الوطني محمد الخامس ووزارة الثقافة، والمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي ونادي الأسرة، وكأنها خلية نحل، رواده فرحون وعشاقه يدخلون فرادى وجماعات في انتظار اللقطة الأولى من الفيلم الجديد.
من هنا مر كثير من نجوم السينما المغربية والعربية والعالمية عبر أحلامهم ورؤاهم، وفرجاتهم الشيقة والممتعة، حيث وجد فيها الكثير من أهل السينما متعة لا تعدلها متعة، وانتشاء بسحر السينما ليس له مثيل.
رشيد الوالي ومنى فتو ومحمد خير وسعاد خوي وإدريس الروح وسعيد باي وبشرى إهريش وحسن مكيات ومحمد الجم وأنور الجندي وعدد كثير من نجوم السينما المغربية مروا من هنا، ووجدوا في قاعة رويال إمارة السينما بتاج الدهشة والتشويق ونخوة التمثيل لأفلام لا تزال موشومة في الذاكرة.

صالات السينما المغربية.. نبع الشغف الأول
لا تزال هذه الصالة السينمائية تحتفظ بكثير من الشغف الطفولي والشبابي والعشق غير المحدود لأفلامها الأسطورية والملحمية لدى حميد بن مسعود الشهير بلقب” أميدو أو حميدو” ابن العاصمة الرباط، فقد وجد فيها ضفة للعبور إلى حلم الفن السابع بلا منازع.
من سينما رويال وعبر سينما الفن السابع بشارع مولاي عبد الله وصولا إلى سينما كوليزي، كان الراحل حميدو يشق طريقه بخفة النجوم، يبعث بسلامه لبائع الصحف على رصيف ساحة البريد، يلاطف حمام شارع محمد الخامس في الخيال ويحلم بأن يطير ليمسك بالنجوم.
هو ذا حميدو الفتى المشاكس، الذي ترك الدراسة مبكرا، وآمن بأن مستقبله سيكون مع السينما بأي ثمن، فتحدى الكثير من الظروف العائلية والشخصية، ورافق أهل الفن هنا وهناك، بحثا عن دفء السينما، وتطلب منه ذلك كثيرا من الجهد ووصفة سحرية لا تخطر على بال أي كاتب سيناريو محترف.
يستحضر الكثير من المتتبعين لمسيرة الممثل العالمي حميدو بن مسعود محطاته الأولى للولوج إلى عالم السينما من بابه الواسع، حيث شكلت صالات السينما وإقباله على مشاهدة الأفلام المدرسة الأولى لتعلمه المبادئ الأولى للتشخيص.
ابن الرباط الذي رأى فيها النور مع مطلع شهر أغسطس/آب من عام 1935، وتوفي في باريس في أغسطس/آب سنة 2013؛ وجد في تلك الصالات السينمائية الفضاء المضيء والمظلم لمتابعة معظم الأفلام بشغف، خاصة منها المصرية والهندية ثم الأمريكية والصينية والفرنسية.
وبالموازاة مع هذا الشغف الكبير بعالم السينما وأحلامها ونجومها، تعرف صاحبنا آنذاك على عدد من الفنانين خلال الخمسينيات والستينيات، فكانوا قدوة له ونبعا لسحر الفن الذي استلهم منه روح الحرية ورقة الإبداع النبيل.
ولعل من أبرز أولئك النجوم حبيبة المذكوري وأمينة رشيد الملقبة بـ”لالة حبي” زوجة الكاتب والمسرحي الرائد عبد الله شقرون، فضلا عن محمد حسن الجندي ومحمد خذي وحمادي التونسي وثريا جبران وحمادي عمور والعربي الدغمي وإبراهيم السوسي وغيرهم.
كما شكل لقاء حميدو برائد المسرح المغربي والعربي الطيب الصديقي منعطفا كبيرا أجج لديه شعلة عشق التمثيل، خاصة على مستوى المسرح، بعد التحاقه بفرقة التمثيل التابعة لراديو المغرب إبان الخمسينيات برفقة عدد من الفنانين آنذاك.

رحلة إلى باريس.. تألق ابن الرباط في المسرح الفرنسي
كانت فرقة التمثيل التابعة لراديو المغرب تقدم أعمالها تحت إشراف المرحوم عبد الله شقرون، من خلال بث إذاعي بدار الإذاعة والتلفزة التي كان مقرها سابقا بوزارة البريد بالمحاذاة مع ثانوية مولاي يوسف التي تحولت إلى مقر للمجلس الدستوري حاليا.
وكان حميدو من الكتاب النشطين لتمثيليات تلك الفرقة التي كانت تقدم في الإذاعة، فضلا عن عرضها في عدد من المدن المغربية في إطار جولات مسرحية، وكانت تلقى صدى واسعا لدى الجمهور الذي كان يرى في المسرح الفن القريب من الناس بتعبيراته وفرجاته وممثليه النجوم.
وشكلت تلك التمثيليات والانضمام إلى تلك الفرقة مدرسة حقيقية لحميدو تعلم فيها الكثير من الأسس الحقيقية لمسرح فرجوي جاد يعتمد تارة على الاقتباس، وتارة على حقائق الواقع والمجتمع وأحداثه، خاصة أثناء مرحلة الاستعمار، أو بعد حصول المغرب على الاستقلال وانطلاق عصر جديد من الفنون المشبعة بكثير من الحرية والامل، والتطلع إلى المستقبل والانفتاح على العالم.
كما شكلت مشاركة حميدو في الفيلم الفرنسي المغربي المشترك “الدكتور.. بالرغم منه” لمخرجه “هنري جاك” خلال منتصف الخمسينيات، وهو مقتبس عن مسرحية تراجيدية لـ”موليير”؛ الاستهلال السينمائي الأول الذي كشف عن جوهرة فنية في التشخيص.
وقد حفزه هذا الظهور المدهش أمام الكاميرا وما يرافقها من كواليس وأجواء أثناء التصوير، إلى بذل مزيد من الجهد لصقل موهبته الفنية والاحتكاك أكثر بمعاصريه من الفنانين والممثلين، حتى يصل إلى ما يصبو إليه، وقد رأى أن الأفق في الرباط محدود للغاية، خاصة أن الحركة المسرحية والسينمائية قبل الاستقلال كانت في إرهاصاتها الأولى، وهو ما حدا به للهجرة إلى أوروبا بحثا عن شعاع السينما.
وفي العاصمة الفرنسية باريس، وفي النصف الثاني من عقد الخمسينيات، دخل حميدو المعهد العالي لفن الدراما لدراسة الفنون، وكان لم يتجاوز بعد ثمانية عشر سنة، حيث التقى بجيل جديد من الفنانين الطلبة والأساتذة الفرنسيين، ونظرا لموهبة ابن الرباط المتقدة وإصراره على التميز تخرج من المعهد بامتياز بعد ست سنوات من الدراسة الأكاديمية، واحتل خلال مسيرته الدراسية في هذا المعهد المرتبة الأولى ضمن المجموعة في التشخيص.
هذا التألق اللافت للفتى المغربي الآتي من تخوم المحيط الأطلسي، فرض على القائمين على المعهد ضمه إلى الفرقة القومية والفنية الشهيرة في ذلك الزمان “أوديون للمسرح”. كما تألق إلى جانب الفنان الفرنسي الشهير “جان لواي بارو” مع هذه الفرقة الفرنسية التي قدمت العديد من المسرحيات، ومن أبرزها ” البخيل” و”هنري السادس”، و”الستائر” وغيرها، فضلا عن مسرحيات كوميدية وتراجيدية مع فرق مسرحية أخرى، وهو ما عبّد له الطريق للقاء العديد من المخرجين.
كما خطف الفتى الأسمر أنظار الجمهور الفرنسي من خلال أدائه الرائع في كثير من المسرحيات أيضا وتألقه برفقة عدد من نجوم وعمالقة المسرح الفرنسي، كالممثلة الشهيرة “مادلين رينوت” و”جون لويس باربوات”.

“كلاود لولوش”.. أبو النجومية وصانع الاحتراف
يُجمع الدارسون لتجربة الفنان حميدو أن عراب السينما الفرنسي المخرج الكبير “كلاود لولوش” يعد الأب الروحي لحميدو، خاصة أن “لولوش” وجد في الممثل المغربي الآتي من أقاصي الجنوب نموذجا للوجه السينمائي المثير القادر على محاكاة الكثير من القصص المشوقة المرتبطة بالواقع والخيال والمجتمع والأسطورة والتاريخ.
وقد تألق حميدو خلال تعامله مع “لولوش” في أكثر من 13 فيلما سينمائيا منذ الستينيات من القرن الماضي، وتقمص فيها أدوارا مختلفة توزعت بين الحب والكراهية والقوة والرقة والرومانسية وأحلام الشباب والإنسان في ارتباطه بالأرض وقيم الروح والاندفاع نحو عالم مترع بالخيبات والانكسارات والكرامة والانتصار لقيم الخير.
وأمام هذا التحدي الفني للفتى الرباطي القادم من دروب المدينة العتيقة، عرف حميدو كيف ينافس العديد من النجوم أمثال “ألان دولون” ليكسب عطف “لولوش” طيلة أربعين سنة من خلال مشاركته في أفلامه المتعدة التي لعل من أشهرها “فتاة وبنادق” و”اللحظة الكبيرة” و”الحياة من أجل الحياة” و”رجل وامرأة” و”القصة الجميلة”.
ويظل الفيلم الشهير لـ”لولوش” “الحياة، الحب، الموت” (1968) الأشهر على الإطلاق، وقد لعب فيه حميدو دور البطولة، وهو ما قاده إلى التتويج في كثير من المناسبات، ولعل أبرزها حصوله على جائزة أحسن دور رجالي بالمهرجان الدولي للسينما في ريو دي جانيرو بالبرازيل بداية السبعينيات.
وبهذا التتويج وبالتألق المتواصل لحميدو من خلال أفلام “لولوش” مخرجه المفضل وأفلام مخرجين فرنسيين آخرين أمثال “فيليب دي براوكا” و”ألكسندر أرغادي” و”جورج لوتنار” و”روجي هاينان” وغيرهم؛ ارتفعت أسهم هذا الفنان في سوق السينما العالمية، وأصبح حميدو أمام شهرته محط أنظار العديد من المخرجين العالميين خاصة في هوليود، حيث تألق في أفلام أمريكية عديدة لعل أبرزها “قافلة الرعب” للمخرج “وليام فرايدكاين” عام 1977 و”الهروب نحو النصر” سنة 1981 لـ”جون هيوستن”.
“لعبة التجسس”.. نجومية في سماء هوليود
شارك حميدو في عدد من الأفلام الأمريكية جمعته بنخبة من نجوم هوليود، ومنهم العملاق ” سيلفستر ستالوني” و”براد بيت” و”روبرت ريدفورد”، وحققت إيرادات كبيرة، ومنها “لعبة التجسس” (2001) لـ”توني سكوت”، فضلا عن الفيلم الشهير “رونين” (1998) لمخرجه “جون فرانكنهايمر” برفقة النجم الأمريكي “روبيرت دي نيرو” والفرنسي “جون رينو”.
ومرورا بتجربته السينمائية الموفقة في هوليود، تألق حميدو في العديد من الأفلام لمخرجين من ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبريطانيا، إضافة إلى الوطن العربي، خاصة من مصر، كفيلم “عصفور الشرق” (1986) للمخرج يوسف فرنسيس.
ولعب حميدو في هذا الفيلم، إلى جانب عدد من النجوم كنور الشريف ومحمد خيري وسعاد حسني و”إليزابيث جارد”، وقدم فيها أدوارا طلائعية مزجت بين الرجل الشرقي بملامحه العربية الواضحة، وبين الإنسان المثالي المتطلع إلى الحياة.
وبلغت أعمال حميدو الذي اشتهر في الخارج أزيد من خمسين عملا سينمائيا، إضافة إلى كثير من الأعمال المسرحية والتلفزيونية من مسلسلات وأفلام تلفزيونية مغربية وأجنبية، ولعل من أبرزها “علي بابا والأربعين حرامي” للمخرج الفرنسي “بيار أغنين” و”بن باركة” و”راس العين” لمحمد لطفي، و”المطاردة” لـ”ليلا تريكي” و”المعادلة المغربية” لـ”سيكون بيتون” و”عائشة” لـ”يامنة بنكيكي” وغيرها.
“شمس الربيع”.. أفلام كأصابع اليد في السينما المغربية
يتذكر الجمهور صوت الممثل حميدو الفريد والمتميز، من خلال تجربته في دبلجة الأفلام الهندية إلى اللهجة المحلية المغربية (الدارجة) مع المغربي إبراهيم السياح، وأيضا إلى باقي لهجات منطقة المغرب العربي، إلى جانب فنانين من الجزائر وتونس.
ولم تستفد السينما المغربية للأسف من موهبة هذا الممثل الظاهرة، حيث فاقت شهرته في الخارج شهرته في الداخل، ولم يشارك بما فيه الكفاية في الأفلام التي أنتجت في المغرب منذ مطلع الاستقلال، وبقيت مشاركة حميدو في السينما المغربية معدودة كعدد أصابع اليد، ويرجع ذلك ربما إلى العروض التي كانت تتقاطر على الممثل في الخارج، خاصة من مخرجين أمريكيين وفرنسيين، إضافة إلى احتشام التجربة المغربية التي كانت في بداياتها لا تكلف المنتجين الكثير من التعويضات.
وبالرغم من ذلك فقد شارك حميدو -الذي كان مرتبطا كثيرا بوطنه ومغربيته- في عدد من الأفلام المغربية، من أبرزها “شمس الربيع” (1969) للمخرج لطيف لحلو، كما تعامل مع المخرج رضا الباهي في فيلم “شامبانيا مرة”، وأيضا مع حكيم نوري في فيلم “قصة عشق”، ومحمد إسماعيل في فيلم “هنا ولهيه”، ورشيد بوتونس في فيلمه “لا هنا لا لهيه”.
واعتبرت مشاركته في فيلم “لالة حبي” لمحمد عبد الرحمن التازي إلى جانب نخبة من النجوم أبرزهم الممثلة المقتدرة الراحلة أمينة رشيد، من المشاركات القوية واللافتة التي يفتخر بها حميدو، فضلا عن مشاركته الوازنة في فيلم “أركانة” لحسن غنجة، و”موسم المشاوشة” لمحمد عهد بنسودة.
كما شكل فيلم “أفغانستان لماذا؟” (1984) للمخرج عبد الله المصباحي، طفرة نوعية في الأداء الرائع لحميدو، حيث لعب فيه دور البطولة إلى جانب نخبة من نجوم السينما العالمية كالأمريكي “شين كونري”، واليونانية “إيرين باباص”، والمصريين عبد الله غيث وسعاد حسني، والفرنسي “مرسيل بوزفي” والإيطالي “جوليانو جيما” ومحمد حسن الجندي وغيرهم.
ثمار العطاء.. جوائز في المحافل المحلية والدولية
أمام هذا العطاء الفني المتنوع لحميدو على مستوى السينما العالمية، تُوج بالعديد من الجوائز التي حفزته إلى مزيد من العطاء، كما احتفي به في عدة مهرجانات أجنبية وعربية، لعل أبرزها تكريمه في الدورة الثامنة والعشرين لمهرجان الإسكندرية لسينما دول البحر البيض المتوسط سنة 2012، وكذا في المهرجان الدولي الخامس للفيلم بمراكش، إلى جانب المخرج الإيراني “عباسي كيوريستامي” والأمريكي “مارتن سكورسيزي”.
كما حظي حميدو بتكريم خاص خلال الدورة الـ33 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي سنة 2009، فضلا عن مهرجانات أخرى، كمهرجان مسقط بعمان خلال سنة 2012، ومهرجان “مرتيل” السينمائي بالمغرب في دورته الـ11 سنة 2011.
وقد اختارت الدورة الثالثة لمهرجان “كازا” السينمائي الدولي للهجرة والاندماج المنعقدة ما بين 25 و28 نوفمبر 2020، تكريم هذا العلم السينمائي على طريقتها الخاصة، تقديرا لتألقه في الكثير من الأفلام العالمية، وإبرازه لقيمة المواهب السينمائية العربية في الخارج.
وشمل هذا الاحتفاء عرض فيلمين روائيين لعب فيهما حميدو دور البطولة، الأول بعنوان” هنا ولهيه” لمحمد إسماعيل، والثاني روائي قصير بعنوان “لا هنا ولا لهيه” لمخرجه رشيد بوتونس، وهما يتقاسمان موضوع الهجرة والاندماج في المجتمعات، لتكون السينما واصلا فنيا نبيلا، لتكريس روح التعايش والتسامح بين الثقافات والشعوب.
وسيظل حميدو بالرغم من مرور سبع سنوات على رحيله في الديار الفرنسية رمزا من رموز السينما المغربية، وقد وضع بصمته على تجربة عالمية رائدة إلى جوار عمالقة السينما في أمريكا وأوروبا وأفريقيا وآسيا.