حسن البنا.. الرجل الذي بنى صرح الإخوان المسلمين
رغم مرور 73 سنة على اغتياله (1949- 2022)، ما زال الشيخ حسن البنا مؤسس “الإخوان المسلمين” -أكبر جماعة إسلامية ذات أتباع في العالم- يحظى باهتمام بالغ من كل الدوائر الداخلية والخارجية، فهو شخصية بالغة التفرد، اتفق أصدقاؤه وخصومه على أنه كان شديد الذكاء حاد الذاكرة، ثقته بنفسه لا حد لها، مؤمن بفكرته إلى حد العجب، ولا يكلُّ من جمع الأنصار حول دعوته، ينام خمس ساعات في اليوم، ويأكل ما حضر من الطعام، ويهتم بمظهره، واستطاع في 15 سنة أن يزور 2000 قرية مصرية، حديثه ساحر، وشخصيته آسرة، يقدّم دعوته بلغة بسيطة يفهمها المتعلم والأمي.
وقد أفردت قناة الجزيرة الفضائية حلقتين عنه، في برنامج “الجريمة السياسية”، تطرقت من خلالهما إلى سمات شخصيته، وإلى أبجديات جماعته، وحيثيات جريمة اغتياله.
حسن البنا.. حديث الثلاثاء الذي شكّل فكر الإخوان
يقول الحاج زكريا، وهو من أعضاء الجماعة الذين عاصروا حسن البنا: اعتاد البنا أن يقدم فكرته ودعوته من خلال حديث الثلاثاء الذي واظب عليه أسبوعيا، وزادت جماهيره حتى غصت بهم الطرقات حول المسجد.
أما اللواء فؤاد علّام، رئيس جهاز أمن الدولة فوصفه قائلا: كان البنا ذكيا جدا ومؤثرا في الناس وخطيبا مفوها وداعية فطنا، جمع بين حركة التجديد والتأصيل التي كان يقودها رشيد رضا، وحركة التنوير التي تزعمها محمد عبده، ودعم كل هذا ببعض الشعارات الوطنية التي سادت في عصره، وأهمها جلاء المحتل البريطاني عن مصر، وانتبه لهموم الناس اليومية مثل الجهل والمرض والفقر.
حسن البنا.. وبلدة المحمودية
في 14 أكتوبر سنة 1906، ولد حسن البنا في بلدة المحمودية على فرع رشيد، والده أحمد عبد الرحمن البنا الساعاتي، إمام وخطيب ومأذون شرعي، ومهتم بسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم وحديثه الشريف، وقد بدأ التلميذ النابغة حسن مشروعه قبل أن يتم عامه الثاني عشر، فانخرط في التنظيمات الشبابية، وأنشأ مع بعض زملائه جمعية منع المحرمات، وشارك في مظاهرات 1919. وفي عامه الرابع عشر التحق بمدرسة المعلمين الأولية في دمنهور، فدرس الفقه الإسلامي وقرأ كتب أبي حامد الغزالي، واشترك في الطريقة الحصافية الخيرية، إحدى الجمعيات الخيرية التي تعلم منها كيفية تشكيل الجمعيات وأنظمتها الداخلية.
تفتحت عيناه في بداية العشرين من عمره على الانفتاح والانحلال الذي حلّ بالمجتمع المصري المحافظ، وذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وبروز الحركات والاتجاهات التي دعت إلى العلم وتحرير المرأة، ودعوات الإلحاد والانفتاح على الغرب والتقليد الأعمى لكل تصرفاتهم، فكانت الخمور ودور الدعارة المرخصة منتشرة بشكل كبير في المدن المصرية، وخصوصا تلك الذي يقطنها الإنجليز والفرنسيون، وظهرت دعوات فصل الدين عن الدولة، وتصدّت لها الدعوات الأصولية، والذين ينادون بإعادة الخلافة الإسلامية.
انتقل البنا بعد ذلك إلى دار العلوم في القاهرة سنة 1923، وتخرج منها وكان الأول على دفعته كما هي عادته دائما، وعُين مدرسا في الإسماعيلية عام 1927، والإسماعيلية هذه كانت في ذلك الوقت مدينة فرنسية بامتياز موجودة على الأراضي المصرية، ويحرسها الجيش البريطاني، ولك أن تتخيل ما كان يعتمل في قلب هذا الشاب الوطني الحريص على دينه ووطنه من حقد وكراهية على المحتل الأجنبي.
من قصر فرعون خرج موسى.. نواة جماعة الإخوان المسلمين
كان لحسن البنا برنامج فريد في الدعوة في هذه الفترة، حيث خصص ثلاثة مقاهٍ في الإسماعيلية ليزور كل واحد منها مرتين أسبوعيا، وكان يدعو الناس ويحذّرهم من الخطر المحدق بهم. وفي 23 مارس 1928 اجتمع البنا بستة أشخاص من الذين يعملون في معسكرات الإنجليز، وأعلنوا أنفسهم جماعة الإخوان المسلمين، وعُيّن البنا قائدا لها، واختار لنفسه لقب المرشد.
وقد اختار البنا أن تكون دعوته على ثلاث مراحل:
– مرحلة التكوين، والطاعة ليست شرطا ملزما في هذه المرحلة.
– مرحلة التنفيذ، وفيها تكون الطاعة ملزمة وواجبة.
– مرحلة قطف الثمار، أو جيل الانتصار.
وخلال عامين، انتشرت شُعَب الإخوان في الإسماعيلية وبورسعيد والعريش، وفي أربعة أعوام أصبحت عشر شُعب، وهناك رأى البنا أنه لا بد من قفزة أوسع، فانتقل إلى القاهرة، وبعدها بعام صدرت أول جريدة أسبوعية باسم الجماعة “جريدة الإخوان المسلمين”. ثم تمددت الجماعة بشكل لافت لتصل إلى 50 شعبة في مصر، ولتعبر إلى الأقطار المجاورة، مثل السودان وفلسطين وسوريا.
وفي 1936 تُوّج فاروق ملكا على مصر خلفا لوالده الملك فؤاد، فاحتفى به الإخوان واستقبلوه على طول طريق موكبه بالتأييد والبيعة، طمعا في تأييده ومؤازرته للجماعة الوليدة.
يقول الكاتب الإسلامي أحمد رائف: لم يلتقِ حسن البنا شخصا إلا ترك فيه ذلك الأثر الإيجابي العظيم، استطاع أن يجمع إليه المصريين على اختلاف مشاربهم في زمن يسير، واستطاع أن يجسّد للجماهير الإسلامية حلم الخلافة الذي ضاع.
لا بد للحق من قوة تحميه.. مرحلة التنفيذ
وفي عام 1938 وصل عدد شُعب الإخوان إلى 300 شعبة، وهنا قرر البنا الانتقال إلى الخطوة التالية؛ التنفيذ والجهاد، ولأنه صاحب رؤية ولا يؤمن بالطفرات فقد شرع في فصل مجموعة مختارة من الإخوان عن العمل الدعوي المدني وصار يدرّبهم على الجهاد والقتال من خلال فِرق الكشافة والرحلات، حتى كثرت أعدادهم وصاروا يشاركون في استعراضات شبه عسكرية تظهر مدى قوتهم وانضباطهم.
ثم أنشأ نظام الكتائب والأسر، مما أدى إلى تفريخ نظام جديد أشد حساسية وخصوصية وخطورة، تنظيم مسلح يهدف إلى التغيير بقوة السلاح، قائم على السّرية المطلقة والطاعة العمياء، أطلق عليه اسم “الجهاز الخاص” أو “التنظيم السري”، ووضع له قانونا سُمّي “قانون التكوين”، وأُوكلت إليه مهام من مثل تفجير الحانات التي يجلس فيها جنود الاحتلال أو تفجير حافلاتهم.
في عام 1945 اغتيل رئيس الوزراء أحمد ماهر على يد محمود العيسوي أحد أعضاء الحزب الوطني، لكن رجالا من قيادات الإخوان أكدوا أن العيسوي هو من صميم تنظيم الإخوان، الأمر الذي يوحي بأن أهداف الجهاز الخاص قد انحرفت عن مسارها الذي رسمه البنا، ويؤكد هذا التفجيرات التي قام بها الجهاز في أقسام الشرطة المصرية التي قمعت المظاهرات الرافضة لمعاهدة “صدقي- بيفن”.
بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن أصبح الكيان الإخواني قويا ومنافسا، قرر الشيخ البنا الدخول في المعترك السياسي، وصارت الأحزاب تخطب ودّ الإخوان للدخول معها في تحالفات، حتى تزيح حزب الوفد، القوة الكبرى عن سُدة الحكم، كما خاض الإخوان غمار الاقتصاد، وأصبحت مؤسساتهم تدرّ عليهم المال الذي يحتاجونه، حتى أن دار الإخوان الرئيسية في القاهرة، وبقية شُعب الإخوان في المحافظات كانت من خالص مال الإخوان وتبرعاتهم.
مواجهة الطاعون.. الإخوان يقُضُّون مضاجع الصهيونية
جاء العام 1948 حاملا معه نقيض المودة التي كان يظهرها السياسيون تماما، فصار الجميع أعداء للبنا، فقد حمل هذا العام أحداثا خطيرة، وكان للإخوان دور مؤثر وفعال فيها، وصار يُنظر إلى الإخوان على أنهم جماعة إرهابية لا إصلاحية كما كانت بداياتها، وأنهم تحولوا إلى جهة تمارس الإرهاب والابتزاز لتحقيق مكاسب سياسية، بعلم وتخطيط من حسن البنا، على حد تعبير الخصوم.
كانت علاقة البنا بفلسطين وثيقة منذ 1936 أيام الإضراب الكبير، وكان الإخوان يمدّون الفلسطينيين بالمال والسلاح، وعندما صدر قرار التقسيم في 1947 كان الإخوان أول من دعا قادة وشعوب الأمة العربية للنهوض من أجل نصرة فلسطين واسترداد الحقوق، وفي عام 1948 عندما قررت الدول العربية الدخول في حرب مع اليهود لتحرير فلسطين، كانت كتائب الإخوان هي الأعلى جاهزية والأكثر إقداما، وقد قاموا بتفجيرات حاسمة في مستوطنات يهودية ردا على مذبحة دير ياسين.
يقول خالد محيي الدين، عضو مجلس قيادة الثورة: كان شباب الإخوان المسلمين يقومون بأعمال بطولية وبفدائية خارقة، وهذا ليس غريبا على تربيتهم الدينية ووطنيتهم الصادقة، وطمعهم في الشهادة والجنة.
حسن البنا.. الخروج عن طاعة الملك
كان مقتل أحمد الخازندار انعطافة أخرى في تصرفات الجهاز الخاص للإخوان حرفته عن مساره، وذلك باستهداف القضاة حتى يفكروا ألف مرة قبل إصدار الأحكام بحق الوطنيين، ولكن هذه الأعمال كانت تتم بغير علم البنا، الأمر الذي سبّب له حزنا وألما شديدين وحرجا أمام الجهات الرسمية والرأي العام.
في نوفمبر من 1948 كُشف عن أعضاء التنظيم الخاص، وذلك في سقطة أمنية لا تُغتفر، وقد جرّت على الجماعة ويلات ظلت تداعياتها إلى وقتنا الحاضر، حيث اشتبهت الشرطة في سيارة “جيب”، وجدت بداخلها متفجرات وأسماء أهداف وخرائط وأسماء أشخاص، تبيّن فيما بعد أنها لأعضاء التنظيم السّري للجماعة، وأن الأهداف كانت تفجير السفارتين البريطانية والفرنسية، وبعد التحقيق تبين أن عددا كبيرا من التفجيرات السابقة كانت من فعل هذا الجهاز.
بعد انكشاف أمرهم بشهر فقط اغتيل حكمدار شرطة القاهرة سليم زكي، وأُلصقت التهمة بالتنظيم السّري مرة أخرى، وعندما أحسّ البنا بخطورة الموقف سارع إلى التواصل مع النقراشي باشا رئيس الوزراء آنذاك، بل وبالديوان الملكي وبالسكرتير الخاص للملك من أجل احتواء الموقف، ولكن دون أن يحصل على إجابات أو ردود أفعال، يبدو أن العد التنازلي قد بدأ.
حل جماعة الإخوان.. الدخول إلى النفق المظلم
بدأت إرهاصات حل الجماعة بإغلاق صحيفة “الإخوان المسلمين” الناطقة باسم الجماعة، تلا ذلك عناوين في صحف الأحزاب الأخرى أن أخبارا سارة ستذاع قريبا، ثم أمر الملك بإعادة كتائب الإخوان المرابطة في فلسطين، وفي 6 ديسمبر 1948 اتصل وكيل وزير داخلية الحكومة السعدية بالمرشد ليخبره أن الأزمة سوف تحل، وأن أخبارا سارة ستذاع الليلة.
تجمَّع الإخوان بالمركز العام وفي دور الإخوان وشعبها الأخرى انتظارا للبيان الهام، وفي تمام الحادية عشرة من مساء ذلك اليوم صدر الأمر من الحاكم العسكري العام بحلّ جماعة الإخوان المسلمين ومصادرة أموالها وممتلكاتها، وفي خلال دقائق كان مبنى المركز العام محاصرا بأعداد كبيرة من الشرطة، وقُبض على جميع من فيه من الإخوان وتُرِك البنا طليقا، الأمر الذي رأى فيه حتفه عيانا.
تراوحت آراء المحللين حول الدافع الحقيقي وراء حل الجماعة، فمن قائل إن اليهود كان لهم تأثير كبير في القرار بعد العمليات البطولية التي سطّرها الإخوان ضدهم، ومن قائل إنها تصفية حسابات حزبية ضيقة في الداخل المصري، وآخر يرى أن الإخوان كانوا مصدر تهديد حقيقي للباشاوات في مصر، وأن دعوتهم للعدالة والمساواة من شأنها أن تضر بالامتيازات التي حازها كبار الإقطاعيين في البلاد.
جاء الرد على حل الجماعة سريعا فاغتيل النقراشي باشا أمام بهو مكتبه، وعلى مرأى ومسمع قوات الشرطة والحرس الخاص به، كان ذلك صباح 28 ديسمبر 1948، ورغم أن البنا كان محاصرا في منزله ومعظم أعضاء الجهاز الخاص معتقلون في السجن، فإن هذا لم يمنع بعض الطلقاء من الإخوان من تنفيذ عملية تفجير أمام محكمة الاستئناف، وهذا ما زاد الطين بلّة، ووضع المرشد في مزيد من الحرج.
ذهب بعض الرسميين ممن لبسوا ثياب الوساطة بين الحكومة والجماعة إلى البنا وهو محاصر في بيته، وطلبوا منه إصدار بيان يتبرأ فيه من كل هذه الجرائم التي ارتكبها التنظيم السري، وبالفعل فقد كتب لهم بيانا شاملا شافيا بيّن فيه مذهبه السّلمي، والحفاظ على الدم الوطني والأموال والمقدرات، ونبذ العنف والإرهاب ضد أبناء الوطن أيا كانوا، واختار للبيان عنوانا بليغا؛ “ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين”.
تصفية البنا.. نزيف حتى الموت في المستشفى
لقد كانت خدعة كبيرة، أو على حد قول الزعيم اليساري رفعت السعيد “اعتصار البرتقالة حتى آخر قطرة”، فهذا البيان الذي كتبه المرشد، كان شكلا من أشكال الابتزاز للجماعة وإمامها، فهو لم يُنشر إلا بعد اغتيال البنا، حتى يخيل للرأي العام أنه تراجع في آخر أيامه عن البناء السامق الذي بناه على مدى 21 عاما.
ثم استدرج البنا إلى شَرَك الموت بخطة شيطانية، ففي 12 فبراير 1949، طُلب منه أن يذهب إلى جمعية الشبان المسلمين، لإجراء جولة من المفاوضات مع الحكومة قد تسفر عن مخرج إذا طرحت تنازلات متوازنة من الجانبين، وأوهموه أن وزير الداخلية بنفسه قد يحضر هذه الجلسة، وتم اختيار المكان بعناية، لما كان له من قيمة في قلب البنا الذي كان من المؤسسين له، وكان يعقد فيه مجالسه قبل دور الإخوان، ومن ثم بعد حل الجماعة.
حضر البنا إلى مبنى جمعية الشبان في مساء ذلك اليوم، وأجرى مباحثات تبين أنها كانت عبثية ومضيعة للوقت، وليست ذات ثقل رسمي، فقد كان المحاور مجرد أحد أقرباء رئيس الحكومة ولم يحضر غيره، واستمرت المحادثة زهاء ثلاث ساعات، نزل بعدها المرشد ليجد أمرا غريبا، الشارع الحيوي الذي يقع فيه المبنى مطفأ تماما، ولا وجود لأي سيارة أو بشر يمشي هناك، وحتى خط الترام الرئيسي توقف على غير العادة.
حتى سيارة التاكسي التي استقلها لم تتحرك فورا، بل انتظر السائق عدة ثوان كأنه ينتظر شيئا ما، مما يعني أن الجريمة مرسومة بعناية ودقة متناهية، وفجأة ظهر اثنان من خلف الظلام وأطلقا النار بكثافة على البنا ومرافقه، وعلى الرغم من قرب مسافة إطلاق النار فإنه لم يمت فورا بل أمسك بالذي أطلق النار، ولم يفلت منه إلا بعد أوسعه لَكْما على وجهه، فسقط أرضا وهو ومرافقه لا يزالان حيين.
ولمّا كان أمر الجريمة مدبرا بليل، وبعلم أعلى السلطات، فإن المستشفى الذي وصل إليه الشيخ لم يتقدم فيه أحد لإسعافه ولا حتى لوقف النزيف، بل تركوه على أرض المستشفى ينزف لمدة ثلاث ساعات، حتى فارق الحياة في منتصف ليل ذلك اليوم.
دُفن البنا في ظروف حرجة، وتحت تشديدات أمنية غاية في التعقيد، حيث لم يسمح لأحد بالصلاة عليه أو مرافقة الجثمان للمقبرة، وتكفل والده فقط بتغسيله، بينما حمل نعشه من قبل نساء بيته، وأنزله الحرس إلى القبر.
احتفاء غربي.. حادث مقيد ضد مجهول
أرسلت السفارة البريطانية إلى لندن في الساعة الرابعة صباحا بمقتل البنا، ونشرتها جريدة التايم على صفحتها الأولى في نفس اليوم، ووصل الخبر في نفس الصباح إلى سجن الطور حيث أكثر الإخوان وأشقاء البنا الأربعة يقبعون هناك، وصدّرت جريدة المصري خبر اغتياله ورقم السيارة التي أقلت الجناة، ووصل منها 3000 عدد إلى أيدي المصريين قبل أن تصادَر الأعداد الباقية، بعد اكتشاف هفوة رقم السيارة السوداء.
بوشرت تحقيقات سريعة وصورية، تبين خلالها أن السيارة مملوكة لشاب مسيحي، وأنه قام بتأجيرها لوزارة الداخلية، حيث استخدمها ضباط مخابرات، وبعد خمسة أسابيع أُقفل ملف الحادث وقُيّدت القضية ضد مجهول، ويجدر بالذكر أن ملف التحقيق قد أعيد فتحه في حكومة حسين سري، وأقفل دون الوصول إلى جديد يذكر.
ويشير كثير من قدماء الإخوان الذين عايشوا البنا إلى أن قرار تصفيته اتخذ في أمريكا أولا على يد قوات الضغط الصهيونية هناك، ولا أدل على ذلك من الحفاوة والابتهاج الشديدين الذين لمسهما سيد قطب، وكان في أمريكا يومها عندما وصلهم خبر وفاة البنا، وكانت هذه قناعة طيف كبير من الشارع المصري المتعاطف مع الإخوان وإمامهم.
حتى أن الوثائق البريطانية التي أُفرِج بعد ذلك عنها كانت تشير بشكل واضح وصريح ولا يقبل التأويل، أنه من أجل القضاء على الجماعة برمتها فيجب القضاء أولا على مرشدها، وهو رجل استثنائي في القيادة والتوجيه والسيطرة على مريديه، وأن الجماعة بفقده لن تكون قادرة على إفراز بديل يسد مسد الإمام، ويوازي حجمه القيادي الهائل.
وتؤكد وثائق أخرى أن السفارة البريطانية، وضباطا من الإنجليز كانوا على علم واطلاع مسبق على خطة الجريمة التي قدمها ضباط المخابرات المصرية، بينما تحدثت وثائق عن الخطر الداهم التي تمثّله جماعة الإخوان المسلمين، والذي يهدد التعاون الأمني بين الإنجليز والمصريين.
البنا بين كفتين.. المستفيد من الجريمة
يرى بعض مراهقي السياسة وممثلي الأحزاب المؤدلجة، أن مقتل حسن البنا كان انتقاما وثأرا لاغتيال النقراشي باشا، أي أن الأمر في نظرهم لا يعدو كونه تصفية حسابات حزبية ضيقة. ويرد عليهم المفكر الإسلامي عبد الصبور شاهين: “إذا أردت أن تعرف من القاتل فانظر إلى المستفيد من الجريمة”، ولا شك أن رجلا بحجم البنا أكبر بكثير من أن يذهب مقابل رجل حزبي.
رحل البنا وترك وراءه جدلا شديدا، بين فريق رأى فيه الإمام والقائد والمخلِّص، وفريق كارهٍ رأى فيه المؤسس الأول لجذور الإرهاب الإسلامي في العالم، وربما كان التنظيم السّري الذي أنشأه هو الذي جلب عليه هجوم الخصوم من قوى استعمارية وأحزاب سياسية.
يقول المستشار طارق البشري: كانت هنالك قناعة لدى أطياف عديدة من الشعب المصري أن المحتل الإنجليزي لن يخرج من مصر بالمفاوضات، ولا بد من قوة تردعه وتدفعه إلى الخارج دفعا، فكانت القوة من أولويات الشيخ البنا في دفع الاحتلال. ولم يدُر في خلد البنا أن أعضاء الجهاز السري سوف تكون لهم اجتهادات تبيح لهم إراقة الدم المصري، بينما يرى المناوئون له أنه اتخذ القوة لأغراض سياسية، من أجل دحر الأحزاب الأخرى من طريقه.
خيبات نظام الحكم العربي.. الانقلاب هو الحل
لا شك أن البنا قد اختمرت لديه فكرة قلب نظام الحكم بعدما رأى انصياع النظام الملكي وحكوماته المتعاقبة للاحتلال الإنجليزي، وكان لاحتلال فلسطين الأثر الكبير في تغذية هذا التوجه، فالإنجليز يدعمون الحركة الصهيونية بدون تحفّظ أو ميزان، والأنظمة العربية كان لها تجربة مُخزية في فلسطين، فكان الجهاز الخاص على تواصل وثيق مع بعض ضباط الجيش المصري، الذين سيظهرون لاحقا تحت لافتة الضباط الأحرار.
في 23 يوليو 1952 قام الضباط الأحرار بالثورة والانقلاب على الملك، وبعد سبعة أيام فقط أعيد فتح ملف اغتيال حسن البنا للمرة الرابعة، وتولّى الملف البوليس الحربي بأمر من محمد نجيب، وأُسندت التهمة إلى تسعة حكم عليهم بالإعدام، وآخرين تفاوتت أحكامهم بين الأشغال الشاقة المؤبدة والمؤقتة.
وكان واضحا من سير التحقيق أن القرار بتصفية حسن البنا قد اتخذ في مكتب إبراهيم عبد الهادي رئيس الوزارة، مما يعني أنه كان قرارا رسميا بتوجيه من السفارات الأجنبية، وليس مجرد كيد حزبي، على أنه لم يثبت في التحقيق أن القصر كان متورطا أو على علم مسبق بالجريمة، ولأن الملك كان على طاولة القمار، وابتسم ابتسامة صفراء عندما وصله النبأ، فقد اعتبرت هذه على أنها مصادفة محضة.
كما تبيّن أن مجريات التحقيق السابقة للثورة، كان هدفها طمس الحقائق وإخفاء الأدلة، وعلى رأسها رقم السيارة التي تبين فيما بعد أنها تعود لضابط كبير من ضباط الداخلية، ولا أدل على ذلك من التهديد والتشتيت الذي كان يتعرض له محمد الليثي سكرتير دار الشبان المسلمين، من ضباط التحقيق والمخابرات. وفي الصعيد كان أحمد حسين جاد الذي اغتال الشيخ البنا يتباهى بأنه زار زوجة النقراشي بعد العملية، وأنها أثنت عليه وأهدته ثيابا ومالا.
أحمد السندي.. الاستقلال عن القيادة الأم
شخصية أحمد السندي رئيس الجهاز الخاص كانت هي الأخرى مثار جدل واهتمام شديدين من المؤيدين والخصوم على حد سواء، فقد أجمع الفريقان على أنه شاب قوي الشخصية غامض النظرات يحيط نفسه بطقوس أمنية كثيفة، ويوحي لمن يجلس إليه أنه لا يأتي بأمر إلا بتوجيه مباشر من البنا، لكنهم يأخذون عليه أن مؤهله العلمي والأكاديمي ما كان ليؤهله لهذا المركز الشديد الحساسية.
وبينما يؤمن الخصوم أنه يتلقى كل التوجيهات من البنا، ويشددون على ذلك، فإن الباحث الإسلامي أحمد رائف له نظرة أخرى إذ يقول: في كل الحركات والجماعات التي تلجأ للتغيير والثورة ويكون لها ذراع عسكري إلى جانب الذراع السياسي، فمن المؤكد أن يحصل الخلاف بينهما، وتجد الجانب العسكري أخذ في الاستقلال والابتعاد شيئا فشيئا عن القيادة الأم، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى.
حادث المنشية.. الطلاق البائن
بعد إغلاق ملف الاغتيال بشهور قليلة، شهدت العلاقة بين الإخوان وضباط الثورة توترا شديدا، كانت له تداعيات خطيرة على الإخوان فيما بعد، ففي أكتوبر من عام 1954 تعرض جمال عبد الناصر لإطلاق نار وهو يخطب في المنشية بالإسكندرية، وقد ألصقت التهمة بشاب من الإخوان، وأيا كانت الدوافع لهذا الشاب، وما إذا كان من الإخوان، أو أنها تمثيلية من صنع عبد الناصر نفسه، فقد كانت بمثابة الطلاق البائن من غير رجعة بين النظام والإخوان، وصبّ الإعلام جام غضبه على الجماعة، واتهمها بالإرهاب تزلفا للضباط.
ولأن الأيام تعيد نفسها، ففي خلال شهر فقط من حادثة المنشية، حُكم على مجموعة كبيرة من الإخوان بالإعدام، في محاكمة هزلية، كانت الحكومة فيها الخصم والحكَم، والطريف أن ذلك تزامن مع الإفراج عن جميع المدانين في قضية اغتيال حسن البنا.
وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع البنا وجماعته، فالمؤكد أن الرجل كان يملك شخصية استثنائية، وقدرة خارقة على الإقناع والتجميع، وعلما شرعيا أهّله أن يكون قائدا ربانيا، وتربية شفافة صوفية جعلت من خشية الله وتقواه منارة هذا الرجل وقبلته.