أمل دنقل.. مسيرة شاعر حمل كفاح الأمة
هو شاعر قومي ومحارب شرس في سبيل الكلمة الحرة، وقف سدا منيعا أمام قوى الاستبداد والظلم في بلده مصر وكان نصيرا للضعفاء والبسطاء من عامة الناس، فسمي بشاعر الرفض الأول.
ولد أمل دنقل في صعيد مصر عام 1940، وورث العلم وحب الأدب والشعر عن والده العالم الأزهري، ثم انتقل إلى القاهرة مزودا بالثقافة الواسعة وتبوأ مكانة فيها، وقد بدأ حياته قوميا ناصريا إلا أنه في سنوات نضجه التي ترافقت مع بعض الظروف السياسية والاجتماعية في الوطن العربي، تشكلت لديه انطباعات رافضه لكل ما يدور حوله.
في القاهرة بدأ أمل دنقل يعمل على يسار الدولة، لكنه لم ينتمِ لأي حزب من الأحزاب، بل اتخذ منهجا منفردا رافضا لكل الشعارات الرنانة والأحلام القومية العربية التي رفعها جمال عبد الناصر ذلك الوقت.
يتحدث هذا الفيلم عن مسيرة كفاح هذا الشاعر الذي حمل هم الأمة العربية، لنتعرف على مسيرته الشعرية والنضالية.
“زرقاء اليمامة”.. إسقاط الرمزية التاريخية على الواقع
كان أمل دنقل يعيش بين العوام ويعرف همومهم وحياتهم عن كثب، لذا جاء شعره نابضا وصادقا، لقد سجل ما رآه على الضفة الأخرى من تكريس للاستبداد والدكتاتورية وقمع الحريات، وكان يحذر بشعره من انتكاسة الأمة جمعاء جراء السياسات الشمولية، وبالفعل جاءت حرب حزيران/يونيو 1967 لتثبت صدق توقعاته، وكتب بعد أيام معدودة من تلك النكسة قصيدته البكاء بين يدي زرقاء اليمامة:
أيتها العرافة المقدَّسةْ..
جئتُ إليك مثخناً بالطعنات والدماءْ
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة
منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاء..
أسأل يا زرقاءْ..
عن فمكِ الياقوتِ، عن نبوءة العذراء..
عن ساعدي المقطوع، وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكَّسة
عن صور الأطفال في الخوذات ملقاة على الصحراء
عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاصُ رأسَه في لحظة الملامسة!
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء!!
أسأل يا زرقاء..
يقول الناقد محمد البدوي إن توقع الهزيمة لم يكن مقتصرا على دنقل بل على الوعي الكامن بالعقل المصري المتنور والعربي بشكل عام، بعيدا عن الضجة والهتاف وصيحات الانتصار.
تعد قصيدة زرقاء اليمامة أهم قصائد ديوان أمل دنقل الأول، وهي التي وضعت اسمه على خارطة الشعر العربي، وقد أتت قصيدته كأول استجابة شعرية تتحدث عن حرب 67، كما يرى الكاتب عبد القادر ياسين أن القصيدة عميقة وفيها رؤيا بعيدة النظر.
لقد استدعى في قصيدته زرقاء اليمامة وهي العرافة والرائية، واستحضر أمامها عنترة الذي رغم شجاعته وبسالته كان يُعامل كعبد، وهو رمزية للشعب الذي يدعى للحرب ولا يُدعى حين يجلس الكبار على الموائد.
وضع دنقل تلك المفارقة في القصيدة كصرخة للشعب العربي كله الذي صدق حكامه، ثم ارتطم بالحقيقة التي أظهرت ضعف هؤلاء الحكام وعجزهم.
تقول زوجته الكاتبة عبلة الرويني إن معظم الشخصيات التي استدعاها أمل في قصائده مثل زرقاء اليمامة و”سبارتاكوس” كانت نماذج رافضة وواعية ومتمردة من التراث العربي والعالمي.
“أَشهِروا الأَسلِحهْ”.. وحي الكعكة الحجرية
رحل ناصر بهزيمته الساحقة وخلفه الرئيس أنور السادات وبقي الشارع المصري في حالة من الغليان مطالبا بحرب ترد للأمة كرامتها، وتمثل هذا في المظاهرات الطلابية التي اتخذت من ميدان التحرير مقرا لها عام 1972.
قامت السلطات بإجراءات أمنية مشددة واعتقلت كثيرين ونكلت بهم، وكان دنقل بين جماهير الطلبة يكتب قصيدته الكعكة الحجرية، وقد كانت مُجزأة وكتبت بيتا بيتا، ثم نسخت باليد ووزعت على المتظاهرين.
جاءت القصيدة تمجيدا لتلك الوقفة الشعبية وإدانة للسلطات، فتحدثت عن القوى الصغيرة التي تصد الرصاص بأناملها الضعيفة، وعرج على ذكر القوى الغاشمة والطبقات المترفة والطلاب الحالمين بمصر جديدة.
أيها الواقِفونَ على حافةِ المذبحهْ
أَشهِروا الأَسلِحهْ
سَقطَ الموتُ; وانفرطَ القلبُ كالمسبحَهْ
والدمُ انسابَ فوقَ الوِشاحْ
المنَازلُ أضرحَةٌ
والزنازن أضرحَة
والمُدى.. أضرِحه،
فارفَعوا الأسلِحهْ
واتبَعُوني!
يقول الشاعر أحمد عنتر التصق الطلاب بالكعكة الحجرية أي ميدان التحرير، فأخذ أمل دنقل يكتب قصيدته ولم تنشر إلا في وقت متأخر، لكنها نسخت على ورق كربون ووزعت في ميدان التحرير، وقد أصبح دنقل في ذلك الوقت مطاردا.
أرسل أمل دنقل قصيدته “أغنية الكعكة الحجرية” لمجلة الآداب اللبنانية لنشرها، فأرسل له مدير تحريرها الكاتب سهيل إدريس رسالة يقول في محتواها إذا كان الشاعر بهذه الجرأة ويكتب قصيدة بهذه الرؤيا والمستوى، فالناشر لن يقل عنه جرأة، وبالفعل قام بنشرها، وقد اعترضت السلطات المصرية على القصيدة، ومنع دنقل من الظهور الإعلامي في البرامج التلفزيونية، لكن السلطة تغيرت وبقي دنقل وشعره.
بسبب ذلك النقد اللاذع الذي جابه به دنقل الأنظمة العربية وخاصة جمال عبد الناصر، فإنه منع من الكتابة في الجرائد والمجلات المصرية، فتطوعت لبنان بطباعة أعماله وشاع بين الناس عربيا، وتبع ذلك تعتيم إعلامي رسمي في مصر.
كان أمل دنقل لا ينتمي إلا لشعره، إذ يقول الشاعر أسامة جاد إن هذا هو مصير الشاعر الحر، أن يقف على مسافة من البناء القمعي ومناقشته.
ويقول أمل دنقل رأيه في الشعر الناطق باسم النظام في مقابلة تلفزيونية له: كل الشعر الذي ظهر وتبنى شعارات زاعقة بشكل مباشر كنسته الأيام، كذلك الشعر الذي ينشر في كثير من الأحيان ونجده مجرد ترجمة لعناوين الصحف، كل العناوين التي تتحدث عن الديمقراطية والوطنية نجدها ساذجة.
“لا تصالح ولو منحوك الذهب”
بعد طول انتظار تحقق الانتصار على العدو الصهيوني في حرب 1973، وفي زمن السادات توجهت السلطات المصرية إلى التطبيع مع إسرائيل ضاربة بعرض الحائط تماما الآمال العريضة للشعوب العربية في تحرير فلسطين.
جابه أمل دنقل هذه الخطوة في قصيدته الشهيرة “لا تصالح”، إذ يقول فيها:
لا تصالحْ!
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى؟
هي أشياء لا تشترى..
هل يصير دمي -بين عينيك- ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ..
تلبس -فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!
لا تصالح،
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
إن عرشَك سيفٌ
وسيفك زيفٌ
إذا لم تزنْ بذؤابته لحظاتِ الشرف
واستطبت الترف
شعر دنقل شرارة لهيب في الثورات
لقد لامست قصيدته وترا حساسا في التكوين النفسي والثقافي للعرب المحدثين وهو الكفاح ضد مغتصب الأرض والحق الفلسطيني، لذا يرى دنقل أن الصلح لا يكون إلا بين ندّين حقيقيين، لكن عندما يكون طرف ما غازيا ومعتديا يصبح رفضه أولوية.
استدعى أمل دنقل في قصيدته تلك الزير سالم وحرب البسوس رافضا المصالحة مرددا كلمة لا تصالح على طول القصيدة.
يقول أسامة جاد إن أسلوب أمل دنقل سردي حيث أنه حاول أن يعمل مسرحه الشعري ولكن بشكل تراثي دراماتيكي وروائي، وهناك دراسات تتحدث عن السردية في شعره وهو أقرب لروائي يكتب الشعر سردا.
وتقول زوجته إن قصائده استخدمت في مظاهرات 25 يناير ضد نظام الرئيس حسني مبارك واستخدمها الإخوان وكذلك كتائب القسام في بياناتهم وتظاهرتهم.
وقد تتضاد السياقات بعضها ضد بعض، فعلى الجهة الأخرى استدعي دنقل من قبل منظمة التحرير ليلقي قصيدته في قلعة الشقيف في جنوب لبنان، وكرم من قبل ياسر عرفات آنذاك.
“أوراق الغرفة ثمانية”.. ضربة النهاية في السيمفونية
أصيب أمل دنقل بالسرطان وقضى سنواته الأخيرة نزيلا بالمعهد القومي للأمراض، وهناك كتب ديوانه الأخير “أوراق الغرفة ثمانية”، على اسم الغرفة التي تلقى فيها العلاج.
يقول في إحدى قصائد الديوان:
ومتى القلبُ في الخَفَقَانِ اطْمأَنْ؟!
بين لونين: أستقبِلُ الأَصدِقاء
الذينَ يرون سريريَ قبرا
وحياتيَ.. دهرا
وأرى في العيونِ العَميقةِ
لونَ الحقيقةِ
لونَ تُرابِ الوطنْ!
كان جلوسه تأمليا وكان يقول إن الموت هو الحقيقة الوحيدة في الحياة، وفي إحدى قصائده يقول:
هل كنت طفلا.. أو زهورا؟
كلُّ باقهْ..
بينَ إغماءة وإفاقهْ
تتنفسُ مِثلِىَ بالكادِ ثانيةً.. ثانيهْ
وعلى صدرِها حمَلتْ راضيهْ..
اسمَ قاتِلها في بطاقهْ!
لقد كان ديوانه الأخير من الدواوين التي تشبه ضربة النهاية في السيمفونية الموسيقية واللحظة الأخيرة التي يسدل فيها الستار على هذه المسرحية الدرامية الآتية من الجنوب المصري، ورغم أن الموت غيّبه ولم يمهله طويلا، فإن أعماله كانت غزيرة ومهمة، وقد أثرت الإنتاج الأدبي العربي بباقات شعره المتفرد، ورغم رحيله الطويل بقيت قصائده خالدة محملة بأحلام الشعوب وآمالها المستقبلية.