“الطاهر الزاوي”.. الشيخ الليبي الذي واجه الاستعمار والملكية والجماهيرية
تلعب النخب دورا هاما في الحفاظ على الهوية الوطنية والقومية من خلال أنشطتها الثقافية والسياسية وحتى الثورية، ويناضل الصفوة في المجتمع من أجل تحرير المواطن من مهالك التبعية والفقر والجهل، مقدمين في سبيل ذلك أسمى التضحيات، متحدّين كافة الصعاب، منطلقين نحو الحرية والانعتاق.
كثير من النخب في بلاد المغرب العربي نشأوا من رحم الزوايا، وهي الأماكن التي تقدم العلم والمعرفة للطلبة في سن مبكرة، فتعلمهم القرآن الكريم وعلوم النحو والصرف، وتحمل في ثناياها أبعادا ثقافية وعَقدية تشتمل على المكتبات والمخطوطات التي تضيف إلى المتعلم آفاقا معرفية ونموا حضاريا جديدا.
بين أيدينا أحد أفلام الجزيرة الوثائقية المعنون بـ”الطاهر الزاوي.. تاريخ الوطن والفقيه”، ويسلط الضوء على شخصية الطاهر الذي ولد عام 1890 في مدينة الزاوية الغربية في ليبيا، حيث تعلم القرآن الكريم في الكُتّاب، ثم تنقل بين الزوايا ناهلا من العلم والثقافة والمعرفة.
مواجهة الاستعمار الإيطالي.. جهاد البندقية والقلم
في بداية القرن العشرين كانت ليبيا ولاية عثمانية يحاول شعبها منذ 300 عام الاستقلال عن سلطة الدولة العثمانية التركية، ويقول المؤرخ إبراهيم الأصبعي إن تلك الحقبة الزمنية “أثرت على جيل الشباب بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية والأمنية الصعبة التي أحاطت الدولة في تلك المرحلة”.
أعلنت إيطاليا حربها على الدولة العثمانية، ولم يستطع العثمانيون رد العدوان، فالحامية التي تركوها في ليبيا كان قوامها 2000 عسكري مزودين بأسلحة بسيطة، وقد أدى ذلك لوقوع ليبيا تحت الاستعمار، فهب الشعب مواجها عدوه بما امتلك من سلاح بسيط وعتاد قليل، واندلعت المعارك.
كان الشيخ الزاوي من أوائل المشاركين في تلك المعارك التي وقعت في 26 تشرين أول/أكتوبر عام 1911، وأطلق عليها اسم “الهاني”، وكان المجاهدون يشجع بعضهم بعضا للتقدم بشجاعة وحماس لعلهم يدحرون الاستعمار ويعيدون ليبيا لسيادة أهلها الشرعيين.
لم يكتفِ الزاوي بنضاله العسكري بل مارس كذلك التدوين، فكتب عن تلك المعارك مدونات للتاريخ اعتبرها عز الدين البكوش أستاذ التاريخ الليبي المعاصر بمثابة مرجعية لكل من سيبحث في التاريخ الليبي المعاصر.
في عام 1912 سلمت تركيا طرابلس الغرب لإيطاليا وفق معاهدة “أوشي-لوزان”، فشكّل هذا الحدث ضربة قاسية للمقاومة، وقد غادر الزاوي بإثر ذلك إلى مصر، والتحق برواق المغاربة في الأزهر الشريف كي يكمل دراسته.
تعبئة الرأي العام.. نضال سياسي ودبلوماسي من المنفى
لم يكن متاحا أمام الزاوي في مصر سوى النضال الدبلوماسي والسياسي والصحفي، فبنى صداقات مع قيادات مصرية مثل عبد الرحمن عزام -أول أمين عام لجامعة الدولة العربية التي تأسست عام 1945-، وكان دوره هاما في مناصرة القضية الليبية على الصعيد الدولي، وكذلك مصطفى نحاس أحد أبرز السياسيين المصريين في القرن العشرين.
اهتم الزاوي بتعبئة الرأي العام ضد الاستعمار، ومن ذلك قوله عن الإيطاليين: “كانوا يتركون قتلانا في الشوارع حتى تتعفن أجسامهم، ويتركون جرحانا يئنّون على مرأى ومسمع من الصليب الأحمر حتى الموت”. هكذا أراد الزاوي ان يرسم صورة الإيطاليين في عقول وأفئدة الليبيين، كي يستمروا في النضال ضد من استعمر أرضهم واستولى على ديارهم.
“عمر المختار”.. كفاح على ثغر مطبعة الحلبي
عمل الزاوي في مطبعة الحلبي كمصحح لغوي، وألف عشرات الكتب ككتاب “عمر المختار” الذي كان اغتياله ضربة جديدة للثورة الليبية، وقد وجه الزاوي اتهاما للملك إدريس السنوسي بمنع توحيد المقاومة في شطريها الشرقي والغربي من ليبيا، وفي عام 1938 حصل على الشهادة العالمية من جامع الأزهر.
وإبان الحرب العالمية الثانية انسحبت بريطانيا من مصر، وقررت التحاور مع العرب، ففي عام 1943 استحدثت اللجنة الطرابلسية، وهي هيئة سياسية مكونة من المهاجرين الليبين في مصر هدفها الكفاح من أجل استقلال ليبيا ووحدتها، ثم انضمامها إلى جامعة الدول العربية.
بين سندان الملكية ومطرقة الثورة.. مفتي الديار الليبية
أعلن الملك إدريس الاستقلال، لكن الزاوي لم يرضَ أن يُقام في ليبيا نظام ملكي، بل أراد للشعب بعد الاستقلال أن يختار حاكمه بالطريقة التي يرضاها، وإلى جانب ذلك اتهم الزاوي الملك بفتح ليبيا أمام الوجود البريطاني من خلال قاعدة العدم العسكرية الواقعة قرب الحدود المصرية، والوجود الأمريكي بقاعدة “ويلوس” (WHEELUS) العسكرية.
وبسبب تلك الاتهامات سحبت من الزاوي جنسيته الليبية بأمر من الملك، لكن ذلك لم يستمر طويلا، فبعد انتصار ثورة الفاتح من سبتمبر/ أيلول من العام 1969 عاد الزاوي إلى ليبيا، واختاره زعيم الثورة العقيد معمر القذافي مفتيا للديار الليبية.
“البيت لساكنه والأرض ليست ملكا لأحد”.. مواجهة القذافي الحتمية
كان الطاهر الزاوي دوما منحازا للحق، ولم تثنه المناصب عن النضال، بل إن الهوة بين الشيخ الزاوي والقذافي توسعت بسبب المقولات الجائرة عليه، كمقولة “البيت لساكنه والأرض ليست ملكا لأحد”، إلى جانب رفضه للقبلية التي كان النظام يغذّيها ويشجع عليها، وهو ما كان الزاوي يرفضه جملة وتفصيلا، إضافة إلى قضايا خلافية أخرى.
ينقل حفيد الزاوي عن جده أنه كان يعارض القذافي قائلا: “عندما جئت بنا قلنا لك سنعينك بما يرضي الله”. ولم يكن يخضع يوما للأهواء السياسية، ولأن النظام لم يكن قادرا على اغتياله بسبب قوته والتفاف الناس من حوله، فقد اتجه نحو شتمه من خلال الصحف واتهامه بالسذاجة، ولما استيقن الزاوي عجزه عن القيام بتغيير الواقع قدم استقالته.
جنازة مهيبة تكسر قبضة نظام الحكم العسكري
كانت للطاهر الزاوي مواقف مهيبة وكثيرة، إذ يقول سالم رمضان: بعد مشاركة الشيخ الزاوي في إحدى الاحتفالات جنوب مدينة الزاوية رفض الصلاة على أرض سلبتها الحكومة من أهلها، وصلى في الطريق.
ذلك الموقف وغيره جعل بعض المثقفين والمتنفذين أمثال عمار جحيدر يقول: كان للشيخ حضور خاص عند المثقفين والعلماء كمؤرخ ولغوي وفقيه، وحضور عام عند جمهور الناس لمواقفه النضالية والدينية الصادقة.
فاضت روح الشيخ إلى العلياء في الخامس من مارس/آذار 1986، وخرج الليبيون في اليوم التالي لتشييع جثمانه الطاهر في جنازة مهيبة رغم قبضة نظام القذافي العسكرية.
إرث الفخر بالوطن.. يقولون مرّ وهذا الأثر
نُقل عن الشيخ الزاوي الفخر بالوطن والمناضلين من خلال كتاباته، وذلك حيث يقول: سيجد المواطنون في هذه الصحائف أساسا لبناء المجد الذي اكتسبه الطرابلسيون في جهادهم، كما سيجد العرب في هذا الجهاد مثلا للبطولة النادرة من أعمال هذا الشعب الأبيّ تعلي من شأنهم يوم تجتمع كل الأمم للتفاخر فيما بينها لما قدمتْه للوطن.
تلك حكاية رجل آمن بما كتبه في صحائفه، وناضل من أجل تلك المبادئ والقيم، اختار العزلة في آخر حياته على الانخراط في مجاملة باطل الغير، خالف الملك واستقال رافضا لسياسات العقيد معمر القذافي، واختار الصواب على مائدة السلطان، واختار الجلوس في البيت على امتطاء صهوة الجاه والمال والنفوذ، وهذا هو دأب العلماء المجاهدين، فرحمه الله رحمة واسعة.