عدنان مندريس.. إعدام الشهيد الأول في تاريخ العسكر

61 عاما مرت منذ عُزل وأعدم عدنان مندريس أول رئيس وزراء منتخب في تاريخ تركيا، وأحد زعماء تركيا الحديثة التي تحتفظ لهم الأمة التركية بتماثيل وأنصاب تذكارية تعانق الهواء الطلق كل صباح.

استطاع مندريس أن يحفر لنفسه مكانة سامية في الذاكرة التركية، وخصوصا الأجيال التي لم تتعرف عليه بشكل مباشر، فقرأوا عنه في صفحات الذكرى وآمال المصالحة بين تركيا وتاريخها المشرقي وهويتها الإسلامية، في الوقت الذي تندمج فيه بعمق شديد مع المعسكر الغربي، ولأن الجمع حينها بين الخيارين كان صعبا جدا، فقد آل الأمر إلى الإخفاق، وانتهت رحلة مندريس في ظلام السجون وعلى حبال المشانق.

تتوازى الذكرى الـ61 لرحيل عدنان مندريس مع نهاية عمره الذي لم يزد على اثنتين وستين سنة، بدأت من العام 1899 وانتهت في العام 1961، وقد جعلته أحد أشهر الأسماء السياسية في تركيا بعد العثمانيين.

الحزب الديمقراطي.. ميلاد من رحم العلمانية

انتمى عدنان مندريس إلى حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه زعيم العلمانية التركي الأول مصطفى كمال أتاتورك، وظل أحد قياداته المرموقة، قبل أن يقرر مع ثلاثة آخرين عام 1945 إنشاء الحزب الديمقراطي الذي كلل مساره السياسي باكتساح البرلمان سنة 1950، وذلك بعد انشقاقه عن حزب الشعب الجمهوري -الحزب التاريخي لأتاتورك- الذي هيمن على الساحة السياسية في تركيا منذ العام 1923 (تاريخ سقوط الخلافة الإسلامية) وحتى هزيمته الساحقة أمام عدنان مندريس ورفاقه سنة 1950.

بعد الفوز الانتخابي الكبير مطلع خمسينيات القرن الماضي، استطاع مندريس تشكيل حكوماته والسيطرة على المشهد السياسي في تركيا طيلة عشر سنوات قبل أن ينتهي الحلم بانقلاب عسكري دموي وحكم بالإعدام.

صديق المساجد والأذان.. طبخ على نار هادئة

خاض مندريس حملته الانتخابية بشعارات معادية في كثير من مضامينها لعلمانية أتاتورك، حيث أعاد الأذان إلى اللغة العربية بعد أن جعلته الحكومات السابقة ومنها حكومة سلفه عصمت إينونو نداء بلغة تركية خالصة، كما أعاد افتتاح المدارس القرآنية، وسمح بإنشاء معهد ديني عال، بالتوازي مع مؤسسات التعليم العالي ذات التوجه العلماني الفاقع.

لم يعلن مندريس خلال ذلك أو قبله أي توجه فكري مناصر للإسلاميين، بل كان ينفذ قراراته تلك بكل صمت وهدوء، وبالتوازي مع اندماج وتناغم غير مسبوق مع الغرب وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية.

إطلاق قاطرة الاقتصاد.. كسب ثقة الشعب

استطاع مندريس أن يكسب خلال سنواته الخمس الأولى ثقة الشعب التركي من خلال إعادة الاعتبار للمؤسسات الدينية التي حاربها كمال أتاتورك وخليفته وحامي تراثه العلماني والسياسي عصمت إينونو.

أما المسار الثاني فقد كان إنعاش الاقتصاد التركي والدفع به إلى آفاق تنموية واسعة، حيث تحركت قاطرة الإنماء، فقد التحق بالتشغيل عدد كبير من أبناء الشعب التركي في مختلف المحافظات، إضافة إلى كثير من الإجراءات الأخرى التي سرّعت حركة التصنيع والإنشاءات العامة في تركيا.

غير أن هذه الإجراءات لم تصمد كثيرا، فانهار الاقتصاد تدريجيا مع منتصف الخمسينيات، وتعقدت الظروف السياسية والاقتصادية في البلاد، قبل أن يلتف حبل الأزمات على عنق مندريس، وينتهي به المطاف مشنوقا بحبال عسكر أتاتورك الذين اتهموه بخيانة الوطن.

مواجهة الشيوعية.. رجل الولايات المتحدة في الشرق

رأى مندريس في الولايات المتحدة الأمريكية صديقا وحليفا يمكن الاعتماد عليه لتثبيت أركان حكمه وترسيخ دائرة سلطانه، فبنى علاقة مع واشنطن وطورها، وتحول خلال عشرية حكمه إلى رجل الولايات المتحدة في المنطقة، والمعبر عن سياستها والمنفذ لرغباتها ومطامحها.

كما استطاع إدخال تركيا بقوة وحماس إلى حلف الشمال الأطلسي، لتكون جزءا من المنظومة الغربية في مواجهة المد الشيوعي العارم الذي كان يمثل حينها أبرز تحدّ عسكري وسياسي وأيديولوجي للولايات المتحدة ولعموم القوى الغربية.

رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس مع رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل

نفذ مندريس السياسة الأمريكية بوضوح في المنطقة، ووقف ضد القوميات العربية التي كانت ناشطة في تلك الفترة، خصوصا في مصر وسوريا، كما وقف أيضا ضد ثورة الجزائر، ورأت تركيا يومها ما يحدث في الجزائر شأنا فرنسيا داخليا.

في عهد مندريس أصبحت تركيا المتراس الأساسي للغرب في منطقة الشرق، وأصبح الجيش التركي جزءا أساسيا من كل التنسيقيات الدولية التي تؤسسها الولايات المتحدة الأمريكية، حيث شارك على سبيل المثال في الحرب الكورية جنبا إلى جنب مع الوحدات الأمريكية والغربية الداعمة لكوريا الجنوبية.

وفي مقابل ذلك استفادت تركيا بقوة من مشروع مارشال الأمريكي فتدفقت على خزائنها مساعدات أمريكية متعددة في مختلف مناحي الاقتصاد، ومع توقف خطة مارشال منتصف الخمسينيات بدأ الاقتصاد التركي في الانحدار، وبدأت الأزمات تأخذ بأجنحة نظام مندريس الذي دخل في تلك الأثناء مواجهة سياسية مفتوحة مع اليونان.

سفارة تل أبيب.. تعزيز العلاقات مع الغرب

ضمن مساعي تعزيز العلاقات مع المحور الغربي بدأ مندريس فور وصوله إلى السلطة في خطوات متسارعة لتقوية علاقاته بإسرائيل، وبعد أسابيع فقط من وصوله إلى الحكم سنة 1950 أرسل مندريس سفيرا تركيا إلى تل أبيب، وذلك بعد أن كانت تركيا أول دولة إسلامية تقيم علاقة مع إسرائيل سنة 1949.

وقد تعززت العلاقة بين الطرفين وتوسعت لتشمل إيران، وذلك ضمن اتفاق لإقامة حلف يكسر عزلة إسرائيل في الشرق الأوسط ويمكن من التصدي للثورة الناصرية التي اجتاح ألقها الشرق الأوسط يومئذ.

أول رئيس وزراء منتخب يقتاد بعد عزله من قبل العسكر إلى حبل المشنقة.. الشهيد عدنان مندريس

بيد أن تلك العلاقات التي شهدت تطورا استثنائيا بعد قدوم مندريس شهدت لاحقا انتكاسة كبيرة، إذ جرى تخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلى مستوى القائم بالأعمال في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1956، وذلك احتجاجا من تركيا على دخول القوات الإسرائيلية إلى الأراضي المصرية يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول إبان العدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر، بعد إعلان الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس.

لم تعد المياه بين تركيا وإسرائيل إلى مجاريها بسرعة، فقد استغرق الأمر سبع سنوات لعودة العلاقات إلى مستواها السابق.

فرم الطلاب في المفرمة.. حملات إعلامية تلهب الشارع

تلاحقت الأزمات وتراكمت فوق رأس نظام مندريس خلال السنوات الثلاث الأخيرة من خمسينيات القرن الماضي، إذ أن إجراءات مندريس الداخلية ومنها إعادة الأذان باللغة العربية وفتح مراكز التحفيظ القرآنية قد استفزت القوى العلمانية التي تمكنت من حشد قوى اجتماعية لا سيما داخل الجامعات والجيش لمعارضة سياسات الحكومة، فوقعت أحداث شغب ومظاهرات كبيرة في شوارع إسطنبول وأنقرة، وقام طلاب مدرسة القوات البرية بمسيرة صامتة إلى مجلس الشعب في أنقرة احتجاجا على سياسات مندريس.

وكانت احتجاجات ميدان كيزيلاي بوسط العاصمة أنقرة، في 19 أبريل/نيسان 1960 هي أكبر تلك الاحتجاجات وأقواها ضد حكومة مندريس.

وذكرت وكالة الأناضول أن عددا من الطلاب تجمعوا مجددا يوم 5 مايو/أيار 1960 في ميدان كيزيلاي، فقرر مندريس النزول إليهم بنفسه لاستقصاء أسباب الاحتجاج ونقاشهم بشأن المطالب، وبينما هو بين المحتجين بادر أحد الشباب بلف يديه حول عنقه محاولا خنقه، فسأله مندريس: “ماذا تريد؟” فأجابه الشاب “أريد حرية”، فرد مندريس: “أنت الآن تلف ذراعيك حول عنق رئيس للوزراء، هل توجد حرية أكثر من هذا”؟

ولكن الحملات الإعلامية والدعائية المسعورة التي كانت أطراف علمانية تشعل أوارها ضد حكم مندريس مستخدمة أخبارا كاذبة كانت قد فعلت فعلها في إلهاب مشاعر الطلبة والمحتجين؛ خصوصا بعد أن سرت شائعات بينهم كالنار في الهشيم بأن مندريس “جمع الطلاب وفرم لحمهم في مفرمة، وألقاها على قارعة الطريق”، ولم تكشف حقيقة تلك الشائعات الكاذبة إلا بعد الإطاحة بالرجل ووضع حد لحياته.

قطار التمرد.. رحلة الديمقراطية إلى المشنقة

تفاقمت الأزمات السياسية والاقتصادية في البلاد، وزاد من حدة الصراع تأسيس مندريس للجنة تحقيق مع المعارضين مكونة من نواب حزبه فقط، وأعطاها صلاحيات واسعة للادعاء وإصدار الأحكام.

كما تلاقى غضب التيار العلماني مع انهيار الاقتصاد، ليمثلا معا حجة للجيش الذي تسيطر عليه القوى العلمانية، فانقض بقوة على نظام مندريس، منهيا عهد أول رئيس وزراء منتخب، ليكتب اسمه في ذاكرة التاريخ التركي باعتباره أول ضحايا المؤسسة العسكرية من القادة السياسيين بتركيا في العهد الكمالي.

في 27 يونيو/حزيران 1960، كان قطار التمرد على سلطة مندريس يوشك أن يصل محطته الأخيرة بتنفيذ أول انقلاب عسكري في تاريخ الجمهورية التركية، فقد سيطر الجنرال جمال كورسل على الحكم، واعتقل رئيس الوزراء عدنان مندريس ورئيس الجمهورية جلال بايار مع عدد من الوزراء، ورمى بالجميع في سجن بجزيرة ياسّي أدا.

وأعقب الجنرال كورسي ذلك بعملية تصفية واسعة داخل المؤسسات العسكرية والمدنية، حيث أحال أكثر من 230 جنرالا وخمسة آلاف ضابط إلى التقاعد، وألقى القبض على عدد من كبار شخصيات الحزب الديمقراطي الذي أسسه وترأسه عدنان مندريس.

بعد نحو خمسة أشهر من الإطاحة به عقدت محاكمة صورية بدأت في 14 أكتوبر/تشرين الأول 1960، وانتهت في 15 سبتمبر/أيلول 1961، بأحكام قاسية وسريعة قضت بإعدام عدنان مندريس واثنين من رفاقه، وهما وزير خارجيته فطين رشدي زورلو ووزير ماليته حسن بولات قان، وكانت التهمة هي سعي الثلاثي لقلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية، وهي التهمة التي ظلت مشجبا يعلق عليه الجيش كل ضحاياه طيلة أربعة عقود لاحقة.

في اليوم الموالي لإصدار الحكم اقتيد مندريس إلى حبل المشنقة، وبعد أيام نفذ حكم الإعدام بوزيريه، ودفنت جثامين الثلاثة في الجزيرة ذاتها حتى بداية التسعينيات، حينما صادق البرلمان التركي في 11 أبريل/نيسان 1990 على قانون أعاد فيه الاعتبار إلى عدنان مندريس ووزرائه الذي أعدموا معه.

وبموجب هذا القانون نُقل رفات مندريس وبولات قان وزورلو من جزيرة إمرالي في بحر مرمرة، ودفنوا بمراسم رسمية في شارع الوطن بإسطنبول يوم 17 سبتمبر/ أيلول 1990.

“جزيرة الديمقراطية والحريات”.. رد اعتبار بعد عقود

بعد مرور أزيد من ستة عقود على إعدام الثلاثي وثلاثة عقود على صدور قانون رد الاعتبار إليهم، وفي خطوة تكريمية أخرى لمندريس ورفاقه، افتتح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 27 مايو/أيار 2020 جزيرة “ياسّي أدا” في بحر مرمرة، وأطلق عليها اسما جديدا هو “جزيرة الديمقراطية والحريات”.

وقال أردوغان في كلمته في الافتتاح: إن تركيا تعرضت في مثل ذلك اليوم (27 مايو/أيار) لأسوأ انقلاب في تاريخها.

أردوغان يفتتح “جزيرة الديمقراطية والحرية “ياسّي أدا” في بحر مرمرة بمناسبة الذكرى الـ60 (2021سنة) لإعدام عدنان مندريس وتكريما له

وأكد في تصريح لاحق: إنه كان من الاستحالة تجنب مواجهة مصير رئيس الوزراء الأسبق عدنان مندريس، لو أبدينا خنوعا للهجمات الموجهة من داخل البلاد وخارجها.

ورغم مرور 61 سنة على رحيل مندريس فإن روحه المتصالحة مع القيم الإسلامية لتركيا، وسعيه الحثيث للاندماج في المنظومة الاقتصادية الغربية ما تزال جزءا أساسيا من هوية تركيا الحاضرة، وما يزال مندريس رغم الجدل السياسي الشديد حول حقبته، يحتل رتبة “الشهيد الأول” في مواجهة جنرالات الجيش الكمالي الانقلابيين.


إعلان