الشيخ رائد صلاح.. أكثر من 40 عاما بين المنابر والسجون

قسمت مسيرته منذ عقود طويلة شطرين بين نضال ورباط بالمسجد الأقصى، أو سجن يقضي فيه حكما بالاعتقال التعسفي، وغالبا ما تكون سجونه انفرادية، أما جهوده لحماية الأقصى والدفاع عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جعلته واحدا من أهم حراس الأقصى منذ أن واجه الغزو الصليبي قبل قرون ثم الإسرائيلي لاحقا.

ينتمي رائد صلاح إلى فلسطين أرضا وقيما وثقافة، ويحمل على عاتقه منذ أكثر من أربعين سنة همّ دحر الاحتلال وحماية مقدسات الأمة، وتحرير العقل والفعل الفلسطيني من أوهام الدعايات الإسرائيلية.

وتنحصر أسلحة رائد صلاح في عزيمة قوية وصبر لا يلين، مما جعله يسوي بين الموت والحياة في سبيل الأقصى، بل ويرى الموت في سبيل الأقصى هو أشرف أنواع الحياة.

من أم الفحم إلى العالمية.. رحلة نضال

ولد الشيخ رائد صلاح في قرية أم الفحم شمال فلسطين المحتلة سنة 1958، وبها ارتبط كثير من نضالاته والإقامات الجبرية التي فرضت عليه خلال الأربعين سنة الماضية، وفيها تلقى معارفه الأولى، وتعمقت أواصر الحب بينه وبين الأرض الفلسطينية ومنارات الأقصى ومحرابه وتاريخه الذي صافح السماء منذ أسري منه بالنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ويغوص في أعماق التاريخ منذ أن رفعت قواعده الأنبياء والصالحون، مثلما غاص في دم الغزاة ولهب المحتلين أكثر من مرة.

أكمل الشيخ رائد صلاح في أم الفحم تعليمه الابتدائي الأولي، قبل أن ينتقل إلى مدينة الخليل التي أكمل فيها شطرا من دراساته الجامعية في تخصص الشريعة الإسلامية التي استمد منها توجهاته الفكرية، ومن ألقها اكتسب نضاله وإيمانه الدائم بأن ليل الاحتلال إلى زوال، وأن رنين الأذان سوف يشق سماء الاحتلال، في رحلة مقاومة يقودها الإنسان ومن جنودها الأرض والشجر والحجر.

“أسرة الجهاد”.. تذكرة السجن الأولى

يعتبر الشيخ رائد صلاح من أهم وأشهر رواد العمل الإسلامي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقد كان الشيخ رائد صلاح من الجيل الأول من مؤسسي الحركة الإسلامية، وبموجب هذا الانتماء اختبر رائد صلاح أول تجربة له مع السجن سنة 1981 بتهمة الانتماء إلى تنظيم محظور وهو حركة “أسرة الجهاد”.

وباسم الحركة الإسلامية ترشح رائد صلاح لرئاسة بلدية أم الفحم التي فاز بها لثلاث دورات متوالية بنسب فاقت 70% من أصوات الناخبين منذ العام 1989 وحتى استقالته سنة 2001 ليفسح المجال لغيره من أبناء الحركة ليختبر قدرته في إدارة البلدية.

وقد انتخب الشيخ رائد صلاح رئيس للحركة الإسلامية سنة 1996 قبل أن يعاد انتخابه من جديد سنة 2011، مع رئاسته في تلك الفترة لمؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية، وهو المنصب الذي استمر فيه إلى سنة 2002.

انشق الشيخ رائد صلاح عن الحركة الإسلامية في العام 1996 على خلفية خلاف بشأن المشاركة في انتخابات الكنيست الإسرائيلي وقاد تيارا إسلاميا جديدا، وذلك قبل أن تقضي إسرائيل بحظر الحركة الإسلامية بشكل دائم سنة 2015.

اتفاق أوسلو.. ضربة ثقيلة للمسجد الأقصى

عرف الشيخ رائد صلاح بمواقفه الصارمة من التطبيع والتقارب بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، ورأى في اتفاق أوسلو، جريمة خطيرة وضربة ثقيلة للقدس والمسجد الأقصى، معتبرا أن هذا الاتفاق لم يكن أكثر من منحة فلسطينية إلى إسرائيل للاستمرار في تهويد المسجد الأقصى.

كما وقف الشيخ رائد صلاح بقوة ضد الاقتتال الفلسطيني، ودعا إلى لم الشمل والوحدة الوطنية، معتبرا أن هذا الاقتتال سيمهد الطريق أكثر للاحتلال الإسرائيلي كي يغرس مخالبه بشكل أعنف في جدران المسجد الأقصى وفي شرايين فلسطين.

بين زنازين السجون وفوهات المدافع.. خيار المواجهة

عرفت منابر أم الفحم ومدن أخرى الشيخ رائد صلاح خطيبا فصيحا يهز القلوب ويحرك فورة النضال في النفوس، وقد كانت كلماته المدوية وشعاراته الإسلامية والوطنية ورؤاه في بناء ما سماه المجتمع العصامي ركنا أساسيا في بناء وتعزيز الهوية الإسلامية والعربية لفلسطينيي الداخل الذين يواجهون أكثر من حصار وأكثر من وسيلة ضغط وتخويف، ومحاولات لتجريف الهوية والأرض والتاريخ والمقدسات.

ما يكاد يخرج من السجن حتى يعود إليه.. الشيخ رائد صلاح عملاق فلسطين الحر

عرف رائد صلاح السجون باكرا، حيث دخل المعتقل سنة 1981 بتهمة الارتباط بمنظمة أسرة الجهاد، وبعد خروجه من السجن وضعه الاحتلال تحت إقامة جبرية تفرض عليه عدم مغادرة أم الفحم نهارا، وعدم الخروج من بيته ليلا، مع الالتزام بإثبات وجوده يوميا لدى مصالح الأمن الإسرائيلي.

في العام 1998 قاد الشيخ رائد صلاح ما عرف لاحقا بأحداث الروحة التي اقتحمت خلالها الشرطة الإسرائيلية مدينة أم الفحم، وشنت عملية دهم واعتداء مروع أصيب أثناءها أكثر من 600 فلسطيني بجراح متفاوتة.

وفي سنة 2000 حاول القناصون الإسرائيليون اغتيال رائد صلاح بإطلاق الرصاص على رأسه مباشرة، لكنه نجا من الموت الذي لم يرهبه أبدا ولم يتخذ دونه حاجزا.

سياسة المنع من السفر.. تحويل الوطن إلى سجن كبير

في سنة 2002 قررت إسرائيل انتهاج سياسة جديدة مع الشيخ رائد صلاح بعد أن استطاع نقل قضية الأقصى إلى آفاق دولية أرحب، وتفعيل مؤسسات إعمار المقدسات، فقررت وزارة الداخلية منعه من السفر خارج البلاد، وذلك بناء على ما اعتبرته معلومات أمنية من جهاز الأمن العام الشاباك.

خطابه الحماسي لطالما ألهب جماهير المسجد الأقصى في مهرجان نصرة الأقصى السنوي الذي منعته سلطات الاحتلال

ولم يكن مفاجئا أن المحكمة العليا الإسرائيلية تناغمت مع شاباكها، ورفضت الالتماس الذي تقدم به الشيخ رائد صلاح لتمكينه من حق السفر.

ومع منع رائد صلاح من السفر، حاولت الداخلية الإسرائيلية أيضا منع صوته الإعلامي والثقافي، فأصدرت في نفس السنة أمرا بإغلاق جريدة صوت الحق والحرية الصادرة عن الحركة الإسلامية لمدة سنتين، وذلك بناء على طلب من الشاباك وبتنسيق وتكامل مع رئيس الحكومة الإسرائيلية.

التعاطف مع حماس.. طريق أخرى نحو السجن

واصل الإعلام والمخابرات الإسرائيلية التحريض على الشيخ رائد صلاح وتصويره على أنه الخطر الماحق الذي يهدد إسرائيل بالزوال، فاعتقل في 2003 ثم أفرج عنه بعد سنتين من الحبس التحكمي سنة 2005، وكانت التهم خلال تلك المرة هي تبييض الأموال لصالح حركة حماس.

زغاريد السجون كتاب ألفه الشيخ رائد صلاح في معتقله الانفرادي المتكرر في سجون الاحتلال

ولم تطل فترة الحرية والنضال خارج السجن حتى عاد الاحتلال من جديد إلى اعتقال رائد صلاح سنة 2007 أثناء قيادته لاعتصام فلسطيني ضد الحفريات الإسرائيلية على طريق باب المغاربة في القدس الشريف.

“زغاريد السجون”.. سلسلة اعتقالات داخل فلسطين وخارجها

وفي 2009 اعتقل رائد صلاح، ثم أفرج عنه مع منعه من دخول المسجد الأقصى أو الاقتراب منه، وكان ذلك أقسى عقاب يناله الشيخ الذي عرف الأقصى، وشغفته قبابه ومحرابه ومناراته الفارعة.

في 2010 كان للشيخ رائد صلاح موعد آخر مع السجن، من خلال حكم قضائي بسجنه تسعة أشهر، وفي السنة ذاتها كان أيضا على موعد مع محاولة اغتيال أخرى، إثر اقتحام قوات إسرائيلية لأسطول الحرية، فقد كان الشيخ من ضمن ركابه الذين تجمعوا من دول عديدة حاملين أشواق السلام وترانيم الحرية من أجل كسر الحصار الجائر على غزة.

في 2011 اعتقل الأمن البريطاني الشيخ رائد صلاح بناء على شكاوى من منظمات مؤيدة لإسرائيل في بريطانيا، ثم أفرج عنه منتصف العام ذاته، بعد أن أمضى عدة أشهر في سجن الدولة التي أطلقت مأساة فلسطين عبر وعد بلفور.

حياة شيخ الأقصى مكرسة للدفاع عنه فهو يدخل السجن ويخرج منه فداء له

وفي 2013 صدر عليه حكم بالسجن لثمانية أشهر بتهمة التحريض على العنف والكراهية، وهو الحكم الذي جاء دون ما سعى إليه الادعاء الإسرائيلي الذي طالب بسجنه أربعين شهرا.

في 2017 بدأت قصة أخرى من قصص رائد صلاح مع السجون، حيث اعتقلته السلطات الإسرائيلية لمدة 11 شهرا من السجن والعزل الانفرادي، ثم أفرج عنه وفرض عليه سجن منزلي طويل المدى.

ثم نال بعد ذلك حكما آخر بالسجن 28 شهرا، وقد بدأت عمليا في 16 أغسطس/آب الجاري، وذلك بعد أن رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية كل الاستئنافات التي تقدم بها شيخ المقادسة.

لم تثن السجون من عزيمة الشيخ رائد صلاح، ومن بين لهبها وقيودها ألف كتابه “زغاريد السجون” في تغريبة جديدة من ترانيم الألم والنضال، وأهازيج الشهادة والصمود الفلسطيني.

ساحات الأقصى.. قامة فارعة وصوت جهوري في وجه الجرافات

بذل الشيخ رائد صلاح وقته وماله وآماله من أجل المسجد الأقصى وقضية فلسطين، وطاف العالم معرّفا بقصة المسجد ومعرّيا لجرائم الاحتلال، يقف في ساحة الأقصى يحاور السائحين، ليشرح لهم بأنهم يقفون على أرض فلسطينية لم يبعها ولن يتنازل عنها أبناؤها، يحدثهم عن جرائم الاحتلال وعن فظائع المستوطنين وعن قدسية الأقصى.

يقف بقامته الفارعة وبصوته المقدسي الجهوري في وجه جرافات الاحتلال، وهي تحاول تجريف مداخل الأقصى وحفر هيكلها المزعوم تحت أسس البيت المعمور.

“إضاءات على ميلاد الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا”

يتحدث رائد صلاح في كتابه “إضاءات على ميلاد الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا” عن شذرات متعددة من تاريخ فلسطين، ومسارات الجهاد والنضال الوطني في مواجهة الاحتلال، وعن مواقف ومسارات من الضغوط العربية من أجل إسقاط راية المقاومة، وإحناء الرأس الفلسطيني الذي أدمن الشموخ وعرف الرفض والمقاومة سبيلا وحيدا للتعامل مع الاحتلال الغاضب.

رائد صلاح: “همتي همة الملوك.. ونفسي نفس حر.. ترى المذلة كفرا”

ويورد الشيخ رائد صلاح في مذكراته جانبا من الضغوط المصرية عليه وعلى المقادسة من أجل دعم حزب العمل الإسرائيلي، مستعرضا على سبيل المثال قصة رجل أعمال فلسطيني مقرب من الرئيس المصري حسني مبارك حاول مرة إقناع الشيخ رائد صلاح بالتقارب مع حزب العمل، وعند مغادرته مكتب رائد ترك ظرفا يحتوي 40 ألف شيكل، وعندما عجز رائد عن إعادة المبلغ إلى “الوسيط المتصهين” اشترى منه جرافا لصالح المسجد الأقصى ليؤدي دوره هو الآخر في حماية البيت المقدس.

الكهل الستيني.. سفير الأقصى ومحامي الزيتون

يزداد الكهل الستيني مع كل لحظة عزيمة وإصرارا، ومع كل رحلة سجن تورق أشواقه إلى الأقصى ويضج رفيف الزيتون في فؤاده المفعم بالحب والنضال والصمود.

ورغم اقتيات المرض والسجون منذ سنوات من جسده، ورغم سجونه الانفرادية، فإنه ما يزال فتيّ العزم قوي ساعد الصمود، وما يزال رغم كل المحاولات الإسرائيلية حارس الأقصى ومحامي الزيتون.


إعلان