أنور الجندي.. رحيل صامت في أوج العطاء الفني

المصطفى الصوفي

بملامح عربية أصيلة ونظرة ثاقبة مترعة بالمعاني ولغة فصيحة قوية وأزياء زاهية تنم عن جاه ووقار وشأن كبير، يترجل فارس القبيلة عن صهوة حصانه غير الحرون، فيكشط تلابيب قفاطينه المخملية، ثم يدخل الخيمة، بينما صهيل خيول الجوار يتردد في الصحراء التي تمتد حد الآفاق.

فارس القبيلة المغوار قوي الشكيمة رجل صلب كالصخر حطه السيل من عل، وشاعر لطيف حينما يعشق تذوب الكلمات في حلوق الأحبة عسلا، فيصنع من النظم والقصيد ملحمة حالمة موشومة على أعتاب الديار.

ذلك إذن بعض من مشاهد فيلم تاريخي غير مكتمل، شخص وقائعها الفنان المغربي أنور الجندي الذي رحل فجأة إلى دار البقاء يوم الثلاثاء الماضي، تاركا وراءه صهيل الخيل وعبق الخيام من وبرها، ونسيم الصحراء وقت الهزيع الأخير، وسحر ركح بأضواء حالمة.

الراحل أنور الجندي ابن بط عوام عرف كيف يسبح في بحيرة الفنون، فخبر أصول التشخيص منذ نعومة أظافره، ولم لا وهو ابن الراحل الممثل العربي الشهير محمد حسن الجندي صاحب أدوار تاريخية مع مخرجين عالميين، ومن أبرز تلك الأدوار “القادسية” لصلاح أبو سيف و”الرسالة” لمصطفى العقاد و”ظل فرعون” لسهيل بن بركة وغيرها.

 

ابن مراكش العتيقة.. غصن أخضر في شجرة فنية باسقة

تألق أنور الجندي في مسلسلات عربية شهيرة منها “صقر قريش” للمخرج حاتم علي، وقد لعب فيه دور الأمير يوسف الفهري أمير قرطبة، فضلا عن “آخر الفرسان” للمخرج نجدة إسماعيل أنزور و”الطارق” للمخرج أحمد صقر و”الخنساء” للمخرج صلاح أبو هنود وغير ذلك.

وتدرج أنور -وهو ابن الممثلة المقتدرة فاطمة بنمزيان- منذ صباه في سلم الحياة الفنية خاصة على مستوى المسرح، فظل لصيقا بالفن متأثرا بوالديه رحمهما الله وبأصدقائهما من الفنانين، مما جعل رصيده الفني يتطور بشكل ملفت بالدراسة والاحتكاك والممارسة.

ولعل انتماءه إلى مدينة مراكش أسهم هو الآخر في إثراء ذائقته الفنية الموهوبة على مستوى الكتابة والإخراج والإنتاج لما لهذه المدينة من مرجعية تاريخية وحضارية وفنية كبيرة، وقد تشبع في هذا الإطار بسحر الفنون الشعبية لمدينة مراكش، خاصة على مستوى ساحتها الشهيرة “جامع الفنا” التي اختارتها منظمة اليونسكو مؤخرا تراثا إنسانيا عالميا.

وتشتهر هذه الساحة -التي تشكل عصب الإبداع ومصدرا أساسيا في مختلف أعمال الراحل- بتنوع فنونها الفرجوية التي تعرض في الهواء الطلق، وعروضها المسرحية وحلقاتها وحكواتييها الذين يصنعون من قصصهم الواقعية والخيالية للجمهور تشويقا ليس له حدود.

كما تشتهر أيضا بصناع الفرجة الذين يحكون عن الأساطير وأشهر الحروب العربية والإسلامية، ومروضي القرود والأفاعي، ومربي الحمام الذين يبرعون بشكل خارق في فهم لغة الطيور، حيث يتحاورون معهم فيطيرون ويحلقون، ثم يدعونهم وهم في السماء فيرجعون.

أنور الجندي رفقة شقيقته هاجر الجندي أثناء استقبالهما مؤخرا من قبل وزير الثقافة المغربي الأسبق الدكتور محمد الأعرج في مكتبه

 

“القضية”.. دخول فن المسرح من بوابة فلسطين

على المستوى المسرحي شخص الراحل أنور الجندي أدوارا قوية منذ صغره، لعل أبرزها مسرحية “القضية” التي أداها سنة 1974 وهو لم يتجاوز 13 سنة، وتتطرق المسرحية للقضية الفلسطينية، وقد أبان فيها عن حس فني واعد وتشخيص مفعم بالحماسة واكتشاف عالم الركح.

ظل مسرح الطفل راسخا في ذاكرة الجندي، حيث تنوع ارتباطه بهذا اللون الفني كمخرج وممثل من أجل إسعاد الأطفال، وذلك من خلال عدد من الأعمال من أبرزها مسلسل” شندل ومندل” و”معاهدة المحبة”، فضلا عن “عمي الزلط” و”ماما فلفلة” و”التضامن” و”نعمة الحياة”.

ودائما ضمن مسيرته المسرحية عرف عن أنور الجندي تأليفه الغزير للكثير من المسرحيات، وقد أخرجت بعضها أخته هاجر الجندي، ومنها “المليونير” و”سطار أكاذيبي” و”بنت الشعب” و”السلامة وستر مولانا” و”الله يطعمنا حلال” والدربوكة الطرونجي” و”واع ندو زهر”.

كما اشتهر الجندي بتنظيم جولات مسرحية خارج المغرب ضمن فرقة مسرح فنون التي أسستها والدته في الثمانينيات من القرن الماضي، خاصة بأوروبا وكندا وأفريقيا والولايات المتحدة للقاء الجمهور المغربي والعربي، وذلك من خلال مسرحياته التي تتطرق لمواضيع اجتماعية وعائلية آنية في قالب كوميدي هادف يروق الكبار والصغار.

“خالد بن الوليد”.. غوص فني في أعماق التراث

بالإضافة إلى التأليف والتمثيل فقد قام أنور الجندي بإخراج عدة أعمال مسرحية منها “صياد النعام” و”راجلي ولد مو”، إضافة إلى مسلسلات إذاعية غزيرة كممثل ومخرج ومنتج سلطت الضوء على العديد من رموز الفكر والثقافة والتراث والطب والحضارة.

وحظيت مسلسلاته الإذاعية بمتابعة مهمة من قبل المستمعين، ومن أبرزها “خالد بن الوليد” و”مالك ابن أنس” و”ابن رشد” و”ليلة القدر” و”إيليا أبو ماضي” و”باستور” و”أحمد شوقي” و”حسان بن ثابث” و”أبو الطيب المتنبي” وغيرها.

 

“الرحيل في إحدى الجزر”.. موطئ قدم في الساحة العربية والدولية

على مستوى السينما بصم الراحل أنور الجندي على تجربة محترمة من خلال عدة أفلام مغربية ودولية، ومنها الفيلم الإسباني “الرحيل في إحدى الجزر” و”طبول النار”، وهو إنتاج مشترك إيطالي مغربي، فضلا عن دوره المهم في الفيلم الفرنسي “ماري دون زارايت”، وكذا في العديد من الأفلام التلفزيونية.

كما لعب دورا أساسيا في الفيلم المغربي “عبدو في عهد الموحدين” لمخرجه سعيد الناصري من خلال تشخيص دور السلطان المغربي يعقوب المنصور الموحدي، وهو الفيلم الذي حقق إيرادات مهمة منذ طرحه في القاعات السينمائية سنة 2006.

وعلى المستوى العربي برز اسم أنور الجندي من خلال تألقه إلى جانب عدد من نجوم الدراما العربية مثل جمال سليمان والراحلة ثريا جبران ومحمد مفتاح ومي سكاف وتيم حسن ونسرين طافش في عدد من المسلسلات الدرامية، منها “ملوك الطوائف” و”ربيع قرطبة” للمخرج حاتم علي.

 

“فتح الأندلس”.. إحياء حقبة مضيئة من التاريخ الإسلامي

أكد المخرج عبد الجليل أبو عنان رئيس فرقة النون والفنون في تصريح خاص أن الراحل أنور الجندي يعد رمزا من رموز الحركة المسرحية المعاصرة، مبرزا أسلوبه في تناول المواضيع من خلال كتابة مسرحية تعتمد البساطة والعمق والاقتراب من الجمهور، والابتعاد عن كل ما يخل بالحياء والإضحاك المجاني والزائف.

وأضاف أبو عنان أن الراحل أنور الجندي صوت إذاعي معروف قدم للمستمعين خلال أربعة عقود- تمثيليات تربوية مفيدة كرمت العديد من الهامات في سجل الثقافة منها تمثيلية الطبيب المسلم الشهير “ابن سينا” و”عائشة أم البنات” و”فاطمة الزهراء” والشاعرة الفارسة الخنساء.

واعتبر أبو عنان تمثيلية “فتح الأندلس” حدثا إذاعيا وتاريخيا وفق فيه الجندي إلى حد كبير، وذلك من خلال تسليط الضوء على حقبة مضيئة من التاريخ العربي والإسلامي الزاخر في جنوب القارة الأوروبية.

مشهد من مشاهد الراحل أنور الجندي في دور الباشا بسلسلة “زهر الباتول” للمخرج هشام الجباري

 

أعمال لم تكتمل.. رفوف نصف فارغة من مكتبة ثرية

أشارت الممثلة سارة شكري إلى أن رحيل الممثل والمؤلف والمخرج أنور الجندي شكل صدمة وخسارة للمشهد الفني المغربي، خاصة أن الراحل- وعمره 59 سنة- ما يزال في أوج عطائه الفني، وهو مقبل على الكثير من المشاريع الفنية خاصة في مجال السينما والمسرح، حيث كان يحضر لأعمال جديدة.

ولفتت سارة إلى أن الراحل يعتبر سليل عائلة فنية أعطت للمسرح والسينما والتلفزيون الشيء الكثير وطنيا وعربيا وعالميا، وذلك من خلال مشاركات والده محمد حسن الجندي الكبيرة التي من أبرزها دوره الكبير في فيلم “الرسالة” لمصطفى العقاد، حيث شخص ببراعة شخصية أبي جهل.

وعددت سارة محاسن وأخلاق أنور الجندي العالية، فقد كان رحمه الله دائم الإنصات للشباب مهتما بدعمهم ومساعدتهم وتوجيههم، فضلا عن دفاعه المستميت عن حقوق الفنانين والمسرحيين من خلال بعض المركزيات النقابية التي كان ينتمي إليها من أجل غد أفضل للفنان المغربي.

أنور الجندي يقبل يد والدته المرحومة فاطمة بنميزان مؤسسة فرقة مسرح فنون

 

سفير الفن المغربي.. جولات لإيصال صوت المسرح إلى العالم

أكد الممثل المسرحي يونس تفاحي أن الراحل أنور الجندي ساهم بشكل كبير في إيصال الفرجة المسرحية المغربية ومن خلالها العربية إلى الجمهور خارج الوطن، وذلك من خلال الكثير من الجولات التي كان ينظمها في عدد من الدول الغربية والأفريقية.

وأضاف تفاحي أن الجندي من خلال هذه المبادرة التي رسخت لمعاني الفن والهوية والاندماج في المجتمع الغربي والحوار الثقافي، وقيم التعايش والتسامح بين الشعوب؛ استحق لقب سفير المسرح المغربي بالخارج.

وأبرز القيمة الفنية الكبيرة للجندي من خلال ثراء عطائه الإبداعي وتنوعه الذي توزع بين التأليف والتمثيل والإخراج والإنتاج في المسرح والسينما والتلفزيون والإذاعة لما يقارب أربعين سنة، مما جعله وجها فنيا بارزا يحظى بكثير من الاحترام والتقدير في الوسط الفني.

الراحل أنور الجندي برع في تشخيص الأدوار التاريخية والملحمية

 

حماية الذائقة الفنية.. مكافأة التضحيات بالإهمال

شدد يونس تفاحي على أن الراحل -رغم الخدمات الجليلة التي قدمها للفن الوطني- لم يحظ للأسف في السنوات الأخيرة بالاهتمام من قبل المخرجين السينمائيين؛ مما جعله يعكف على مشاريع مسرحية وإذاعية وتلفزيونية خاصة، فمنها ما خرج إلى الوجود ومنها ما بقي حبيس الرفوف، ومن ذلك ملحمة العلامة “المختار السوسي”.

وأوضح تفاحي أن الجندي كان لا يقبل إلا بالمشاركة في الأعمال القوية التي تضيف إلى تجربته شيئا بدل المشاركة بحثا عن المال، مبرزا دوره الكبير في كثير من المناسبات والحوارات في التصدي للأعمال المبتذلة والرديئة التي تفسد المجال الفني.

مشهد يجمع أنور الجندي في دور الباشا مع الممثلة سلمى رشيد بطلة سلسة “زهر الباتول”

 

رموز الأدب والثقافة العربية.. توثيق فني ممتع

أكد الأستاذ مجاهد جير -وهو مخرج أفلام سينمائية وثائقية- أن اشتغال الراحل الجندي على رموز الأدب والثقافة العربية في الإذاعة شكل مساهمة قوية -من قبل مخرج ومؤلف وباحث في التراث والثقافة الشعبية والفكر العربي- في توثيق الكثير من المحطات الثقافية والأزمنة والأمكنة للتاريخ العربي والإسلامي المضيء.

وقال إن اشتغال الجندي مثلا على شخصية ابن رشد والخنساء وأحمد شوقي وأبي الطيب المتنبي وحسان بن ثابت وخالد بن الوليد وألف ليلة ولية وغيرهم بكثير من الدقة في المعلومات وإعادة تقديمها إلى الجمهور على شكل مسرحيات يعد ضربا إبداعيا جميلا، وملمحا توثيقيا مسموعا غاية في الإمتاع والتربية والمعرفة والإبداع.

 

“كفاح ملك وشعب”.. يقولون مرّ وهذا الأثر

اعتبر المخرج مجاهد جير أن اشتغال الجندي على الكثير من الملاحم الوطنية الضخمة شكل هو الآخر عبرة للأجيال المقبلة، ومحطات فنية ممتعة لتوثيق الذاكرة الوطنية والإنسانية، وذلك بالنظر إلى حمولتها الثرية التي تزخر بقيم الهوية والمواطنة والأمجاد ونخوة الأجداد والتاريخ والمجتمع.

وذكّر مجاهد بإنجازه للملحمة التاريخية “كفاح ملك وشعب”، فضلا عن عدة مشاركات قوية للراحل في كثير من الملاحم، لعل أبرزها “كلنا فلسطينيون” لمصطفى بغداد و”رصيد الأصالة” للمسرحي جمال الدين الدخيسي المدير السابق للمسرح الوطني محمد الخامس بالرباط ومنها أيضا “نفحات من ذاكرة مراكش” و”ساحة الحب” لمحمد حسن الجندي.

وها هو ذا فارسنا بعد أن أفاض كأس الشعر بقصيدة ملحمية تحت خيمة الحياة يخرج مزهوا بنخوة القبيلة، فيمتطي صهوة الحصان بخفة الشجعان، فيلوي رأس رفيق المسافات برفق ليودع الديار، ويكر في اتجاه الأفق في صورة يتلقفها الحلم والسراب تاركا وراءه أوشاما وذكريات.


إعلان