ثريا جبران.. مغرب الشمس التي أضاءت عالم الفن المغربي

المصطفى الصوفي
في أدائها المسرحي الرزين وهي تتحرك على الركح كفراشة باحترافية عالية؛ تؤدي تلك الممثلة المفعمة بالأمل في زاوية مظلمة من الخشبة دور القديسة الرحيمة التي تمسح مبتسمة عن وجوه البسطاء والدراويش دموع البؤس وشظف العيش وغبش الضيق وحرقة الاغتراب.
وتحت ضوء القمر بوجهها الشاحب والوشاح الذي يحكي الكثير من الأحزان والندوب الممزقة، وزيها الأسود الفضفاض؛ ترنو الممثلة بعينيها الشاخصتين في الأفق متأملة ضراوة الزمن وقلة الحيلة وضياع أحلام الكثيرين.
إنه دور بسيط، لكنه مؤثر من بين كثير من الأدوار الطلائعية والجميلة التي تقيس نبض المجتمع والإنسان المقهور، وتعزف على وتره الحساس بجراح قديمة هنا وهناك، وقد لعبت الممثلة والفنانة الراحلة ثريا جبران في كثير من المحطات المسرحية الوطنية والعربية والدولية.
تلك إذن بعض من أطياف المبدعة ثريا جبران الفنانة المغربية ووزيرة الثقافة السابقة التي أسلمت الروح لخالقها يوم الاثنين الماضي بعد صراع طويل مع المرض.

السعدية اقريتيف.. بذرة فن في مسرح الحياة الواقعية
شكل رحيل الفنانة المخضرمة ثريا جبران صدمة كبيرة للكثير من أصدقائها وللساحة الفنية المغربية والعربية، وخسارة للمشهد الفني خاصة والمسرحي والسينمائي عامة لما قدمته من فيض أعمال راقية ارتبطت بعمق الإنسان والمجتمع والنضال والمقاومة.
وثريا جبران هو اسم اشتهرت به الممثلة الراحلة بينما اسمها الحقيقي هو السعدية اقريتيف، وقد ولدت بداية خمسينيات القرن الماضي في درب السلطان بمدينة الدار البيضاء، وهو الحي الشعبي الذي أنجب العديد من الفنانين والمثقفين والمبدعين.
تربت ثريا جبران في أسرة محافظة وفقيرة، فقد كانت والدتها رحمها الله تعمل كمربية في إحدى المؤسسات الخيرية والإحسانية بالدار البيضاء التي تُعنى بالأطفال المحتاجين والمعوزين.
تأثرت الراحلة في بداية مشوارها الفني بزوج أختها محمد جبران الذي حملت اسمه، وكان رغم تخصصه في مجال الطب والصحة العامة بتلك المؤسسة الخيرية فنانا وعاشقا للمسرح إلى جانب عدد من المسرحيين المغاربة أبرزهم عبد العظيم الشناوي.
كبرت بذرة الحس الفني والمسرحي وتفتقت لدى الراحلة في تلك المؤسسة الخيرية، وهي تدرك عميق المشاعر لنزلائها من الأطفال الأبرياء والمحتاجين، كما ترى في عيونهم ملامح الحياة البسيطة وهم يتوقون إلى مستقبل أفضل رغم قساوة اليتم وآفة الحاجة والإملاق.
ظل المسرح الهاجس الكبير لدى الراحلة ثريا جبران منذ طفولتها التي لعبت خلالها العديد من المسرحيات كهاوية، ثم انتقلت بعدها بعد تشجيع أسرتها وأقاربها وكل من رأى في حبها للتشخيص شعلة الموهبة المتقدة إلى عالم الاحتراف.

“مسرح اليوم”.. امتطاء الخشبة إلى آفاق السينما والتلفزيون
استفادت الراحلة ثريا جبران من الكثير من الورشات والتكوينات المدرسية لتطوير مسارها الفني وصقل تجربتها الفنية، كما التحقت بمعهد المسرح الوطني التابع لوزارة الثقافة بالعاصمة الرباط، وحصلت منه على شهادة التخصص في المسرح في نهاية الستينيات من القرن الماضي.
تفتقت موهبة الفنانة وبدأ نجمها يسطع من خلال تأسيس عدد من الفرق المسرحية والانتماء لها كفرقة مسرح الشعب ومسرح الفرجة وغيرهما، حيث قدمت الكثير من المسرحيات الممتعة التي لامست في نصوصها صفوف المناضلين وأحلام المحرومين والطبقة الكادحة التواقة إلى الحرية وتحسين أوضاعها الاجتماعية.
وشكلت فرقة مسرح اليوم -التي أشرفت على تأسيسها وإدارتها- نقلة نوعية في مسيرتها الفنية والمسرحية التي قدمت من خلالها عدة مسرحيات ناجحة عرضت داخل البلاد وخارجها، وحازت جوائز قيمة وتكريمات سامية.
كما خاضت تجربتها المسرحية كممثلة إلى جانب عدد من المسرحيين البارزين مخرجين ومؤلفين وممثلين كفريد بن امبارك وزوجها الدكتور عبد الواحد عوزري وعبد الكريم برشيد رائد المسرح الاحتفالي وعبد العظيم الشناوي، وكلهم أعطوا لأعمالها الكثير من الألق الفني، وهو ما قادها إلى عالم السينما والتلفزيون.
“ديوان سيدي عبد الرحمن المجدوب”.. تألق في سماء عمالقة الفن
ارتبط نجاح الراحلة على المستوى المسرحي بالخصوص بالرائد الطيب الصديقي، حيث تألقت معه في الكثير من الأعمال التي أخرجها منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وأبرزها “ألف حكاية وحكاية في سوق عكاظ”.
وبَصمت الراحلة على مشاركة متميزة خلال هذه المسرحية بأداء فرقة الممثلين العرب التي أسسها الطيب الصديقي، إلى جانب نخبة من النجوم المسرحين في الوطن العربي، ويمثلون بلدان سوريا وفلسطين والعراق والأردن وغيرها.
كما كانت مسرحيات “أبو نواس” و”ديوان سيدي عبد الرحمان المجدوب”، و”أبي حيان التوحيدي” للطيب الصديقي أيضا من بين المسرحيات التاريخية والأدبية الرائعة التي لقيت نجاحا كبيرا لما قدمته من فيض مقامات تراثية أصيلة ومأثورات شعبية، وجلسات شاعرية صوفية مخملية.
واعتبرت مسرحية “ديوان سيدي عبد الرحمن المجذوب” واحدة من المسرحيات الفرجوية التي تألقت فيها ثريا، وهي تنهل من معين رؤية إخراجية تتسم بخفة الدم والسخرية، وتعيد فيها المحكي الشعبي والتراثي لشخصية مغربية اشتهرت بشعرها الصوفي العامي ومأثوراتها الشعبية البدوية التي تحفل بقصص واقعية أحيانا وأسطورية أحايين أخرى.
“أربع ساعات في شاتيلا”.. انتصار لروح القضية الفلسطينية
تألقت الفنانة الراحلة في الكثير من الأعمال المسرحية المقتبسة من الأدب العربي والعالمي، وأبرزها مسرحية “الشمس تحتضر” للشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي، وقد حصلت خلالها على جائزة السلام الدولية ووسام الفنون والآداب من فرنسا.
كما قدمت أيضا واحدة من أعمالها الملتزمة الجميلة، ويتعلق الأمر بمسرحية “أربع ساعات في شاتيلا” عن نص للكاتب الفرنسي الشهير “جان جوني”، التي تنتصر فيها لروح القضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني الأعزل ضد الكيان الإسرائيلي الغاشم.
كما يستحضر الجمهور الكثير من الأعمال المسرحية للراحلة أبرزها “أيام العز” و”حكايات بلا حدود”، و”امرأة غاضبة” و”طير الليل والجنرال”، و”النمرود في هوليود” لعبد الكريم برشيد التي حصلت من خلال أدائها الملفت فيها على جائزة أحسن دور نسائي خلال مهرجان قرطاج عام 1991.

“ربيع قرطبة”.. بوابة نحو الفن الهادف
لعل تألق الفنانة ثريا جبران في المجال المسرحي الملتزم قادها لدخول عالم السينما والتلفزيون، فقد لعبت أدوارا مهمة في عدة أعمال تلفزيونية مغربية وعربية، وأبرزها مسلسل “ربيع قرطبة” و”صقر قريش” لمخرجه حاتم علي.
تألقت ثريا في هذين العملين إلى جانب عدد من النجوم العرب كجمال سليمان ومحمد مفتاح وسلاف فواخرجي ومي سكاف ونسرين طافش وغيرهم من النجوم الذين أماطوا اللثام من خلال تلك الأعمال عن تاريخ الأندلس والخلافة الأموية مند نشأتها وسقوط غرناطة وملوك الطوائف.
وعلى المستوى السينمائي وتماشيا مع التزامها الفني الراسخ يستحضر الجمهور بكثير من التقدير الدور الذي لعبته الراحلة في الفيلم السينمائي الضخم “عمر المختار” لمخرجه مصطفى العقاد، وبطولة “أنتونيو كوين”، إلى جانب نجوم عالميين مثل “إيرين باباس” وعيشة حسين و”راف فالون”.
كما تألقت في الكثير من الأعمال السينمائية المغربية أيضا منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي مع مخرجين مشهود لهم بنضالهم الفني، وتقديمهم لسينما ملتزمة تنهل من الواقع والهامش، وتدافع عن أحلام البؤساء والمستضعفين، ومن أبرز تلك الأعمال السينمائية نذكر “بامو” لإدريس المريني، و”الزفت” للطيب الصديقي، و”شفاه الصمت” لحسن بن جلون، فضلا عن “جنة الفقراء” لإيمان المصباحي.
كما شاركت أيضا بتميز في أعمال أخرى لاقت استحسانا من قبل الجمهور والنقاد منها فيلم “رحيل البحر” لفريدة بليزيد، و”عطش”، و”جوهرة بنت الحبس” لسعد الشرايبي، ويعالج قصة طفلة ولدت داخل السجن، مما يكرس حس الالتزام للراحلة في المشاركة في أفلام تقيس نبض المجتمع بالدرجة الأولى بكثير من المعاناة.

وزيرة في ثوب فنانة.. تتويجات وأوسمة مستحقة
لعبت ثريا جبران -التي تقلدت منصب وزيرة الثقافة سنة 2007 كأول منصب حكومي عربي- أيضا دورا أساسيا في الدفع بمطالب الفنانين الاجتماعية للخروج إلى حيز الوجود، ومن بينها تعميم التغطية الصحية على الفنانين وتمكينهم من بطاقة للفنان وإخراج قانون الفنان.
وتقديرا لدورها الطلائعي الكبير في حمل المشعل المسرحي والسينمائي توجت الراحلة بالعديد من الجوائز في مهرجانات عربية ودولية عدة، كما حصلت على أوسمة استحقاق مغربية وعالمية.
كما كُرمت في كثير من المحطات الدولية والمهرجانات، ومنها مهرجان المسرح العربي بالقاهرة سنة 2008 ومهرجان قرطاج الدولي للعام 2019، فضلا عن تكريمها من قبل الهيئة العربية للمسرح بالعاصمة الرباط سنة 2015، وجامعة جورجيا الأمريكية سنة 2017، ومنظمة الأمم المتحدة سنة 2018.
كسر الهيمنة الذكورية المطلقة.. شهادات في حق الراحلة
شكل رحيل الفنانة ثريا جبران خسارة كبيرة للمشهد الفني المغربي خاصة والعربي عامة، حيث أجمع عدد من الفنانين ممن عاصروها على الدور الكبير الذي لعبته الراحلة في ترسيخ فن مسرحي وسينمائي ملتزم بقضايا الناس، ومعبر عن الكثير من الإحباطات والأحلام والتطلعات للمستقبل.
كما أبرز الفنانون الأهمية القصوى التي لعبتها المرأة كفنانة في القطاع الفني والسينمائي، وقيمتها الأدائية إلى جانب الرجل في إنجاح مختلف الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية.
وأضاف الفنانون أيضا أن المرأة الفنانة -من خلال ثريا جبران- كسرت تلك الهيمنة الذكورية المطلقة في المجال الفني والثقافي، وأبرزت قدرة الجنس اللطيف على المنافسة والأداء البارع والنضال المستميت والانتصار لقضايا الكادحين ولصوت الحق والعدالة والديمقراطية.
محبوبة الجماهير.. وفاء لأحلام ورهانات المواطن
أكد الأستاذ مراد بتيل المخرج والممثل في تصريح للجزيرة الوثائقية بالمناسبة أن الراحلة تميزت بموهبة فنية كبيرة جعلتها محط إعجاب المتتبعين ومحبوبة الجماهير منذ مطلع الثمانينيات والسبعينيات من القرن الماضي، خاصة على مستوى المسرح والسينما.
وأضاف أن ثريا جبران -التي كوفئت باختيارها كوزيرة للثقافة سنة 2007- ساهمت في سطوع نجم عدة فرق مسرحية عملت معها منذ انطلاقها، خاصة فرقة القناع الصغير والشهاب والمعمورة، ثم مسرح الطيب الصديقي الذي كان يتسم بالغوص في المواضيع ذات الصلة بالتراث والتاريخ والأحاجي والمكيات القديمة.
بدوره أثنى المخرج السينمائي محمد عنق رئيس مهرجان هواة السينما القروية على التجربة المسرحية والسينمائية للراحلة، معتبرا تجربتها واحدة من التجارب العربية التي ظلت وفية لأحلام ورهانات المواطن البسيط ومنصة لهمومه وأوجاعه وأحزانه، وذلك من خلال أدائها لأدوار متعددة تنتقد فيها الطبقة المخملية، وتدعو إلى الدفاع عن الطبقة المغلوبة على أمرها وحمايتها.
وأكد أن أدوارها في الفيلم الملحمي “عمر المختار” لمصطفى العقاد، و”قصر السوق” لإدريس شويكة، و”عود الريح” لحسن زينون، و”أركانة” لحسن غنجة، و”غراميات” للطيف لحلو ظلت راسخة في أذهان المتفرجين لما لها من سحر وتأثير، ولما يشكل ظهورها في كل عمل من بشارة نجاح.

رمز الحقيقة والجمال.. بصمة خالدة في الفن المغربي
أعرب الممثل والمخرج السينمائي إدريس الروخ عن حزنه لرحيل فنانة من طينة ثريا جبران، وقد وصفها بالوزيرة الفنانة المتواضعة التي ظلت فنانة قريبة من الشعب ومن هموم الفنان مدافعة عن حقوقه وقضاياه المشروعة.
واعتبر الروخ الراحلة شخصية فنية استثنائية ورمزا من رموز الحقيقة والجمال والفن الأصيل، وصوتا مسرحيا رسخ في قلوب الأجيال، وأسعد الملايين في الكثير من الأعمال المسرحية والسينمائية الخالدة.
أما الممثل المسرحي عبد الرزاق عامر فقد اعتبر الراحلة واحدة من الفنانات الرائعات والمتواضعات التي تكون وتأثر بها جيل بكامله من الفنانين المسرحيين والسينمائيين، فكانت نعم الفنانة والمناضلة والأخت الكبيرة التي لا تدخر جهدا في قول الحقيقة والتوعية وتقديم الفن النبيل والسامي المعبر عن قيم الحياة والمجتمع والإنسان.
وأضاف عامر أن الراحلة أعادت الاعتبار للفنان المغربي خلال توليها حقيبة وزيرة الثقافة، وذلك من خلال إخراجها للعديد من المشاريع التي خدمت القطاع الفني خاصة منها القانونية والاجتماعية، وبذلك اعتبرت بصمة خير على جبين المشهد الفني والثقافي المغربي.
إحياء سحر الحكاية القديمة.. تنوع المضامين وثبات المبادئ
وصف الناقد المسرحي عبد القادر مكيات الراحلة بالفنانة المقاومة والمبدعة المناضلة، والإنسانة الطيبة والممثلة الملتزمة بقضايا الشعب والبساطة والإنسانية.
كما أكد على أهمية الأدوار القوية التي قدمتها سواء في السينما مع المخرج الملتزم سعد الشرايبي، أو الأدوار الفرجوية العميقة خاصة مع رائد المسرح المغربي الطيب الصديقي، وهي أدوار أحيت فيها من جديد سحر الحكايات القديمة والشعر العامي القريب من المواطنين، والموروث الشعبي المليء بالخرافات والأساطير والحقائق التي وراءها الكثير من الرموز.
واعتبر الراحلة فنانة عبقرية وفارسة في المسرح المغربي ظلت وفية لعالمها البسيط وأدوارها الخلاقة القريبة من المواطنين العاديين والتعبير عن أحاسيسهم، مؤكدا أنها بأعمالها الفنية المتنوعة ستبقى منارة فنية مضيئة، وذاكرة إبداعية موشومة بقيم الحرية والطيبة والإنسانية.