حاتم علي.. عبقرية المخرج الذي غير وجه الدراما العربية
غادر المخرج السوري حاتم علي الدنيا بعد إقامته فيها 58 سنة لا أكثر، كانت حلقات من مسلسلات النجاح والتميز الفني الطويل الذي رافق به حاتم سبحة الحياة، منذ أن دلف إليها من بوابة الأسى والغربة، عندما أبصر النور في أعالي جبال الجولان المحتلة، نازلا إلى سفوح المخيمات، قبل أن يرقى بعد ذلك إلى قمم التميز الفني، ويصبح مع الزمن وبتسارع الأيام أحد أهم الأسماء المؤثرة في الدراما السورية والعربية بشكل عام.
كان تميُّز علي حاتم هو سر شهرته، وكان إنتاجه يؤكد يوما بعد يوم أن سوق الأفكار والنجاحات لا يزال مفتوحا أمام العباقرة، وأن الجودة تصنع كل يوم أعمارا جديدة من التألق، ولكن سره الأبرز أنه اقتحم يوميات حياة الناس، وقدمها على طبق شامي مشكل من الإبداع والتميز والإنسانية وقصص النجاح.
ليس هذا فقط، بل إن حاتم علي اقتحم أسوار التاريخ، وخصوصا ذلك التاريخ الذي يرفرف في ضمائرنا وشغافنا ويذكرنا بآمالنا العربية المحطمة وخيباتنا المسافرة معنا عبر القرون، ذلك التاريخ الذي يذكرنا بأسيافنا التي أغمدها بعضنا في صدور البعض الآخر.
كان حاتم يدلف إلينا عبر كل عمل فني من ستار برقع فتاة شامية، أو على رنات الألحان الأندلسية ليؤكد لنا أن نقفو في يوميات حياتنا خُطا الأسلاف، نعمق ذات الحفر، نرقى ذات السلالم، نحمل ذات الصخرة السيزيفية، لكن حاتم أيضا كان يكبّر بقع الضوء المتناثرة في تاريخنا ليرفعها أمام أعيننا، لعلها تصرخ فينا بكل غضب وحماسة: هنالك ناجحون كثر في تاريخكم أسسوا دولا وحموا ممالك، زرعوا زعتر الفضيلة، وياسمين الإقلاع الحضاري والسياسي.
وفي كل تلك المجالات والرؤى جاءت مبهرة كل الأعمال الفنية التي أخرجها حاتم أو شارك فيها، كان نبضات قلب مسكون بالإبداع ومهموم بالجودة، وفجأة توقف ذلك القلب عن العمل، إثر أزمة مسافرة في أجنحة العمر والأضواء، وانطفأ القنديل، “أهو ده اللي صار”.
احتلال الجولان.. تغريبة حاتم الأولى
أفاق حاتم علي وهو يسبح في عامه الخامس على الأرتال الإسرائيلية، وهي تطرد عشرات الأسر الجولانية من قرية فيق النائمة منذ قرون في أحضان مرتفعات الجولان، وأقام المستوطنون الإسرائيليون في المساكن الغافية على ركام التاريخ الشامي الذي فتح عينيه على ميلاد الكون، ولا يزال يغسل وجهه كل صباح بدمه المسفوح ونسيمه المهاجر على أنغام الأبدية الخالدة.
غادر حاتم وهو يحمل من البيت الصغير دفاتر حزن مفعمة وأقلام رصاص تكتب صفحات الأيام، وكثيرا من الذكريات والأشواق، ثم نزلت عائلته في اليرموك الذي لم يكن يحمل اسمه يومها ولا الآن أكثر من ذكريات عابرة عن حمحمات خيل الفاتحين.
كانت ذاكرة الطفل تختزن الأحداث والأيام والرموز والذكريات، وأخذ التاريخ وخصوصا تاريخ السفوح حيث تصعد الهمم العالية من حفر الفقر والفاقة إلى سموق النجاح، أو تنهار الأمم والشعوب والدول والعلاقات إلى حضيض الصراع والانهيار، وقد شكل كل ذلك جزءا كبيرا من اهتمام الشاب الذي درس الفنون الجميلة وعاش بعد ذلك يكتب الجمال بالصورة والصوت والإخراج المتميز.
“دائرة النار”.. بداية رحلة التحليق في فضاء الفن
بدأ حاتم علي رحلته مع الفن ممثلا في مسلسل “دائرة النار” (١٩٨٩) مع المخرج السوري هيثم حقي، ومن تلك الدائرة الفنية الملتهبة قفز إلى فضاءات فنية أوسع عبر مسار طويل جمع بين دراما الحياة البدوية، والأعمال الروائية، والسيرة التاريخية والمسلسلات الرومانسية، في مسار فني يمكن اعتباره الأضخم في تاريخ الدراما السورية والعربية بشكل عام.
وقد ظل حاتم مزاوجا بين التمثيل والإخراج الذي تألق فيه، فعمل ممثلا في أعمال فنية متعددة من بينها على سبيل المثال:
– “الكابوس” (1989).
– “هجرة القلوب إلى القلوب” (1990).
– “كهف المغاريب” (1991).
– “الخشخاش” (1992).
– “قصة حب عادية جدا” (1993).
– “أحلام مؤجلة” (1993).
– “العبابيد” (1996).
– “أمانة في أعناقكم” (1997).
– “التغريبة الفلسطينية” (2004).
يوصف حاتم علي بأنه “فنان كامل” عاش مع الكاميرا، أمامها ممثلا وفنانا مبدعا، ووراءها مصورا محترفا ومخرجا بالغ التميز، ومع منتصف التسعينيات توجه إلى الإخراج فقدم عددا كبيرا من الأفلام التلفزيونية الروائية الطويلة، وعددا من السلاسل الثلاثية والسباعية، واقتحم بوابة التاريخ بجدارة عبر مسلسلاته الشهيرة مثل الرباعية الأندلسية، وصلاح الدين الذي دُبلج باللغة التركية والمالاوية، وأعيد عرضه أكثر من مرة في تركيا وماليزيا ودول عديدة.
وطوال نحو ثلاثة عقود أو يزيد، كانت أعمال علي حاتم عنصرا دائما في مائدة الإبداع الفني العربي وفي خطوط الشاشة العربية الفنية، ومن أشهر تلك الأعمال التي أخرجها:
– “مسرح بلا جمهور” (1993).
– “قضية عائلية” (1993).
– “أحلام خارج الزمن” (1994).
– “حكايات عربية” (1994).
– “أمينة الصندوق” (1995).
– “الفصول الأربعة” (1999).
– “الزير سالم” (2000).
– “التغريبة الفلسطينية” (2004).
– “أحلام كبيرة” (2004).
– “ملوك الطوائف” (2005).
– “سقوط غرناطة” (2009).
– “أهو ده اللي صار” (2018).
ويعتبر مسلسله الأخير “أهو ده اللي صار” أحد أهم الأعمال الفنية العربية، ويعرض حاليا على منصة نتفليكس الرقمية، ويتصدر قائمة أعلى الأعمال الفنية مشاهدة في مصر، ويتربع أيضا على عرش المتابعة في العالم العربي، كما لا تزال بقية أعمال حاتم الأخرى تواصل حجز مكان لها في قوائم المشاهدة والتأثير، وخصوصا مسلسلاته الشامية والتاريخية.
“البارحة اليوم وغدا”.. رعاف قلم الكاتب المسرحي
لم يكن حاتم علي مجرد ممثل أو مخرج، فقد كان أيضا مؤلفا وروائيا ومسرحيا، وأدى أدوارا متعددة في مسرحيات لا تزال عالقة بذاكرة المشاهدين العرب، ومن بين مسرحياته التي كتب مسرحية “الحصار” و”حكاية مسعود” و”مات مسعود” و”البارحة اليوم وغدا” و”أهل الهوى”.
كما اهتم أيضا بالسينما عبر فيلميه المشهورين “العشاق” و”شغف” الصادرين في 2005.
وقد عاجله الموت قبل أن يكمل بعض أعماله الفنية الهامة، ومن بينها تحقيق حلمه بإخراج فيلم سينمائي طويل عن محمد علي باشا.
جائزة أفضل مخرج.. حصاد التميز وأوسمة النجاح
حصد حاتم علي طيلة مسيرته الفنية عددا كبيرا من الجوائز والأوسمة، وكان النجاح الفني يرافقه في طريقه التي كتبت خطواته الصور والأضواء ومن تلك الجوائز والأوسمة:
– أفضل مخرج من مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون عن فيلم آخر الليل (1996).
– أفضل مخرج من مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون عن مسلسل سفر (1997).
– شهادة تقدير من نقابة الفنانين السوريين عن مسلسل الزير سالم (2000).
– ذهبية مهرجان القاهرة للإعلام العربي لأفضل مسلسل عن عمله “الملك فاروق” (2007)، وأفضل مخرج عن المسلسل نفسه.
– تنويه خاص عن فيلمه “الليل الطويل” من مهرجان روتردام للفيلم العربي عام (2009).
أركان الشهرة.. أعمال خالدة في الذاكرة العربية
كانت أعمال حاتم علي دائما ما تعلق بذاكرة المشاهد العربي، لكن خمسة من بين هذه الأعمال كانت سلالم الشهرة الأكثر إثارة وتميزا ومن بينها:
“التغريبة الفلسطينية”.. إطلالة على مواجع الأرض المقدسة
كان مسلسل “التغريبة الفلسطينية” رسول حاتم علي إلى قلوب أبناء الضفاف الصادمة، واستطاع هذا المسلسل أن يكون ظهيرا للمقاومة، ومن أجل ذلك رأت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في رحيل حاتم نهاية لصوت وقلم وصورة كانت في خدمة القضية الفلسطينية، ونقلت صورة الشتات وألم التهجير إلى عيون العالم.
فالتغريبة تحفر في ثنايا الأجيال الفلسطينية على اختلافها، إذ تصاحب جيل الثورة سنة 1936، ثم أجيال النكبة سنة 19٤٨، وقد استمر المسلسل في ثلاثيته (الثورة والاشتباك، النكبة والهزيمة، المخيم والشتات) التي أرّخت لرحلة الدم والدموع، ورافقت المفتاح الفلسطيني الذي ظل صامدا بيد لم تدفعها السنوات والغدر إلى الارتعاش.
ثلاثيّة الأندلس.. رحلة في تاريخ الغرب الإسلامي
توزعت هذه الثلاثية عبر عناوين متكاملة، بدءا بـ”صقر قريش” إلى “ربيع قرطبة” ثم “ملوك الطوائف”، راسمة رحلة العز الأندلسية منذ وصول الأمير عبد الرحمن بن معاوية الداخل مهاجرا بسيفه وطموحاته الملكية إلى الأندلس، وفي الجزء الثاني مع “ربيع قرطبة” يركز على شخصية الوزير محمد بن أبي عامر الذي أعاد رسم ملامح الحياة السياسية والعلمية في الأندلس، قبل أن ينتقل إلى الجزء الثالث وهو “ملوك الطوائف”، مستعيدا حالة التشابه بين أولئك الملوك وعالمنا الواقعي.
“أحلام كبيرة”.. مآسي الأب تصنع قصص نجاح الأبناء
جاء هذا المسلسل الرائع في 29 حلقة، وشارك في تجسيد أحداثه ومشاهده عدد من كبار الفنانين السوريين مثل باسل خياط ورامي حنا وبسام كوسا وقصي خولي وغيرهم.
يقدم المسلسل قصة نجاح أربعة أشقاء أصيب والدهم فجأة بجلطة دماغية ألزمته فراش البيت، وتوزع الأبناء في دروب الحياة، ليحقق كل واحد منهم قصة نجاح متميزة.
تتداخل فنيات النص الروائي وتشابك الأحداث مع فنيات التصوير والإخراج، لتنتج بتكامل قصة الوصول إلى القمم عبر رحلة من السفوح استطاعت تحويل أشواك وحجارة الطريق إلى سلالم للصعود.
“الفصول الأربعة”.. ملامح عالم الشباب في التسعينيات
يقدم مسلسل “الفصول الأربعة” قصة بنات الثري الشامي مالك الذي صنعته الكاتبتان ريم حنا ودلع الرحبني، جاعلتين من قصته قراءة متقنة في دروب الحياة التي تفتحها أمام البنات الشاميات في عقد التسعينيات.
يجمع سقف البيت الواحد الأخوات فاتن وليلى وماجدة وشادية ونادية، لكن دروب الحياة تتفرق بهن، مختارات عبر مشاعر البنات وطموحات الحب أن يحظين بحياة أقل نعمة ورفاهية مما كان يغدق عليهن والدهن.
يعرض الفيلم المشكلات الشبابية المتعددة التي كان يمور بها المجتمع السوري في تلك الحقبة، وبنفَس شعبي أخاذ استطاع هذا المسلسل أن يكون صوت الشباب في تسعينيات القرن الماضي.
“الزير سالم”.. أشرس الحروب العربية في العصر الجاهلي
كان مسلسل “الزير سالم” أحد أكثر المسلسلات التي حركت الساحة الدرامية العربية، فقد أعاد حاتم رفقة كاتب السيناريو ممدوح عدوان قراءة تاريخ البسوس، وتجول مع الكاميرا في مضارب قبيلتي بكر وتغلب، ناقلا معاركهما التي استمرت طيلة أربعين سنة، وانتهت بعد قتل الجرو بن كليب لجساس بن مرة، منتقما بذلك لوالده كليب.
وقد استمر مسلسل الزير سالم طيلة أربعين حلقة، مثلما استمرت الحرب أربعين سنة، ودخل بقوة إلى ذاكرة المسلسلات الخالدة في التاريخ العربي.
“عمر”.. إبحار في سيرة أميرة المؤمنين
كان مسلسل “عمر” الأكثر إثارة للجدل بين أعمال حاتم علي الفنية، ويتطرق لسيرة ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والدور الاستثنائي الذي لعبه في تاريخ الدعوة وتأسيس دولة الإسلام.
أنتج المسلسل بتكلفة ضخمة وصلت 200 مليون ريال سعودي (حوالي 53 مليون دولار)، وتشاركت شبكة قنوات “إم بي سي” في إنتاجه مع مؤسسة قطر للإعلام.
وفي مواجهة اللغط الكبير الذي أثاره المسلسل، ومطالبة الكثيرين بمنع عرضه لتجسيده عددا من شخصيات الصحابة؛ حرص حاتم علي على التأكيد على أن لجنة من كبار العلماء تولت الإشراف على مراجعة النص التاريخي للمسلسل، ووافقت على عرضه، وهم يوسف القرضاوي وعبد الوهاب الطريري وعلي الصلابي وسعد مطر العتيبي وسلمان العودة وأكرم ضياء العمري، وذلك كما جاء في مقدمة المسلسل.
أشواك الربيع العربي.. أفول من سماء اتحاد الفنانين السوريين
لم يعلن حاتم علي موقفا نهائيا وواضحا من الثورة السورية، لكنه فقد بسببها عضويته في اتحاد الفنانين السوريين، ولم ينجز حاتم أي عمل فني عن الثورة، معتبرا أنها حدث كبير ولا يزال مستمرا، وليس من الطبيعي أن ننجز عملا فنيا عن وقائع لا تزال تكتب نفسها بلهب المأساة.
برحيل حاتم علي لا يرحل مخرج وفنان فقط، بل ترحل يد محترفة، وقلب مبدع، وفن نبيل.