زهور المعمري.. أفول أبرز رائدات المسرح والسينما المغربية

تبدو بطلّتها المتفائلة وبشاشتها المعهودة وابتسامتها الرقيقة التي لا تفارق مُحياها كزهرة الأقحوان في عِزّ الربيع بسيطة ومتواضعة، لكنها مكتنزة وناضجة وفنانة كبيرة ومثقفة، مما جعلها محط تقدير واحترام من قبل أهل الإبداع والفنون. إنها الممثلة زهور المعمري التي رحلت إلى دار البقاء يوم الثلاثاءيوم 26 يناير/كانون الثاني 2021 بالرباط، تاركة وراءها غيمة من الحزن في نفوس الجمهور المغربي.
برحيلها تتهاوى نجمة جديدة من سماء الفن والسينما، وذلك بعد رحيل قريب ومؤثر وصادم لكل من السينمائيين الكبيرين نور الدين الصايل وحميد بن مسعود، فالراحلة تُعتبر من أبرز شخصيات فن التشخيص الدرامي في المغرب، إلى جانب عدد من الأسماء النسائية اللامعة التي بصمت تجاربها بالتميز في العديد من الأعمال السينمائية والمسرحية والتلفزيونية، مثل فاطمة بن مزيان زوجة الراحل محمد حسن الجندي ووالدة الراحل أنور الجندي، والممثلتين القديرتين حبيبة المذكوري وأمينة رشيد الشهيرة بلقب “لالة حبي” في فيلمها “فيها الملح والسكر ومابغاتش تموت” لمخرجه عبد الرحمن التازي.
عاصرت الراحلة زهور فنانات وازنات مثل عائشة ساجد وعائشة ماه ماه وصفية الزياني ونعيمة المشرقي ونزهة الركراكي وغيرهن من الممثلات اللواتي وجدن في قسم التمثيل بالإذاعة والتلفزة الوطنية وتدريبات وزارة الشباب والرياضة؛ الفضاء الأرحب لانطلاقة فنية رائدة نحو النجومية.
ابنة مكناس.. ميلاد موهبة في مدينة التاريخ والفن
كان مولد الفنانة الراحلة زهور المعمري في بداية الأربعينيات بمدينة مكناس، وقد ظهرت مواهبها خلال شغفها الكبير بتقديم تمثيليات وسكيتشات بسيطة في مرحلة الطفولة والشباب، وهو ما حفزها على السير قدما في هذا المجال بحثا عن تحقيق حلم ساورها منذ الصغر.
تلقت زهور المعمري تعليمها الابتدائي بمدرسة لالة عودة بمكناس، ثم انتقلت إلى إعدادية لالة مريم، ثم ثانوية مولاي إسماعيل بالمدينة نفسها. وبعد حصولها على شهادة البكالوريوس التحقت بالمعهد العالي للفنون والمسرح بالعاصمة الرباط لاستكمال تكوينها الفني، وبعدها سنحت لها الفرصة للسفر إلى إيطاليا وفرنسا، ثم عادت من جديد إلى الوطن للعمل مع عدة فرق مسرحية، حيث لعبت أدوارا بارزة في أعمال تلفزيونية وسينمائية وطنية ودولية.

ولعل انتماء الراحلة إلى مكناس كمدينة تاريخية وحضارية أكسبها مرجعية ثقافية وفنية وإبداعية خصبة وقوية، وقد انجلى ذلك من خلال فيض من التظاهرات الفنية الدولية، لعل أبرزها مهرجان مكناس للدراما التلفزيونية العربية، والمهرجان الدولي لسينما التحريك، والمهرجان الدولي لسيدي عبد الرحمن المجدوب، ومهرجان وليلي الدولي، والمهرجان الدولي للفيلم العربي وغيرها.
كما أن مدينتها معروفة بحركتها الفنية والمسرحية والسينمائية، وقد أنجبت أسماء بارزة في المجال السينمائي والمسرحي منها الراحل نور الدين الصايل، والممثل إدريس الروخ مدير المهرجان الدولي للفيلم العربي، والناقد المسرحي حسن المنيعي، والمخرج السينمائي حميد بناني، والسيناريست عبد الإله الحمدوشي وغيرهم.
وبهذا فإن الراحلة المتشبعة بهذا الخليط الفني والتراثي والإبداعي المكناسي عملت كل ما في وسعها وناضلت للوصول إلى ما تصبو إليه، حيث التحقت وهي ابنة تسع سنوات بفرقة الكشفية الحسنية المسرحية، فقد عملت مع هذه الفرقة على صقل أولى خطواتها في المجال المسرحي من خلال أداء تمثيليات ومسرحيات اتسمت بالبساطة رغم العمق في طرحها ومواضيعها، وذلك بجانب عدد من الفنانين أبرزهم محمد فحاج وعلال الهاشمي الخياري والعلوي والباتول.
عالم المسرح.. تجاوز الصورة النمطية في التمثيل النسائي
بعد تجربتها المهمة في مسرح الكشفية الحسنية التحقت زهور في بداية الستينيات بفرقة محمد حسن الجندي بالرباط، وكانت تعتبر آنذاك من الفرق المسرحية الجادة والشهيرة، إذ قدمت هذه الفرقة أعمالا رائعة تجاوب معها الجمهور بشكل كبير، خاصة وأنها لامست الكثير من هموم الجمهور المتطلع إلى الحرية بعد فترة الاستعمار والحصول على الاستقلال سنة 1956، وتحقيق الذات مع الحفاظ على الهوية الوطنية في قالب فني وتراثي جميل لا يخلو من الفكاهة.
ويجمع الدارسون والباحثون على أن زهور المعمري قدمت خلال تلك المرحلة نموذجا جديدا للتمثيل النسائي المتحرر الذي تجاوز الصورة النمطية للمرأة المغربية في العهد الجديد بعد مرحلة الاستعمار، من خلالها التعامل مع الكثير من القضايا الاجتماعية والتطلع للمستقبل.
في سنة 1962 التحقت الراحلة بالفرقة المسرحية الوطنية التابعة لوزارة الشباب والرياضة، وتألقت معها في مسرحيات “الشرع عطانا أربعة”، تأليف محمد حسن البصري، و”هاملت” لـ”شكسبير” للمخرج عبد الصمد دينية.
وشكل ظهورها في مسرحية “مريض الوهم” لـ”موليير” حدثا فنيا مدهشا للجمهور بأدائها الممتع، رفقة عدد من النجوم آنذاك كمولاي عبد الله العمراني وأحمد الطيب العلج وفريد بنمبارك وعبد السلام العمراني، وأحمد العلوي وصفية الزياني ومليكة العمري.
كما شكل التحاق المعمري بهذه الفرقة اكتشافا جديدا لعالم المسرح بعد أن خبرت دروبه مع فرقة حسن الجندي الذي يعد أحد أعمدة المسرح المغربي، فقد تألق في كثير من الأعمال المسرحية والسينمائية العربية، لعل أبرزها “الرسالة” لمصطفى العقاد، و”القادسية” لصلاح أبو سيف، ومسلسلات تاريخية أخرى مثل “آخر الفرسان” و”صقر قريش” و”الخنساء” و”فارس بني مروان”.
تجربة مسرح الطيب الصديقي.. قفزة مسرحية
شكل التحاق الراحلة زهور المعمري بفرقة الجندي منعطفا إبداعيا مهما في مسيرتها الفنية، حيث ساعدها ذلك على الاحتكاك بتجربة الجندي في مجال الركح (المسرح)، وبعدد من النجوم الذين كانت تعمل معهم في تلك الفترة، وقدمت معهم عددا من الأعمال، لعل أبرزها مسرحية “أنا وشامة”.
شيئا فشيئا بدأ نجم المعمري يسطع، بعد أن تناولت تجربتها عددا من وسائل الإعلام المحلية التي تنبأت لها بمستقبل كبير، ولعبها أدوارا رائدة في فرق مسرحية كبيرة، وهو ما تأتى لها من خلال التحاقها بفرقة مسرح “الطيب الصديقي” سنة 1963، وكانت تعتبر من الفرق المسرحية الاحترافية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

وشكل انتقالها للعمل مع فرقة “مسرح الصديقي” -الذي أسس آنذاك العديد من الفرق المسرحية الاحترافية كفرقة “المسرح بالبلدي” بالدار البيضاء سنة 1960، وفرقة “المسرح العمالي” سنة 1957- قفزة مسرحية كبيرة للراحلة في المجال المسرحي، وذلك لما للصديقي من تجربة رائدة وشهرة، فهو المتشبع بروح مسرحية أوروبية جادة بعد دراسته الأكاديمية للمسرح سواء في فرنسا أو ألمانيا.
تألقت الراحلة ساعتها مع الصديقي في مسرحية “البخيل” التي أخرجها وهي من تأليف بن جونسون، رفقة نخبة من الممثلين المقتدرين كمحمد الحبشي وزوجها الراحل عبد الله العمراني والشعيبية العذراوي والممثل البشير السكيرج الذي توفي نهاية شهر يناير 2021 بالولايات المتحدة الأمريكية بعد صراع مرير مع المرض.
“الوفاء المراكشية”.. أعمال تنهل من التراث المغربي
لمع نجم زهور المعمري مع فرقة “الوفاء المراكشية” التي تعد من الفرق المسرحية المغربية العريقة، رفقة فنانين وكوميديين كبار أمثال المجيد الحياوي ومحمد الفطواكي ومحمد بلقاس وعبد الجبار الوزير وأمين الرشيش وأحمد شحيمة.
وقدمت الراحلة مع هذه الفرقة عددا من الأعمال الكوميدية الجادة التي كانت تنهل من التراث المغربي الأصيل والموروث الشعبي والإسقاطات المراكشية الساخرة، ومنها مسرحية “البير” من تأليف أحمد الطيب العلج وتشخيص عبد الجبار الوزير ومحمد الأزدي وكبور الركيك وغيرهم.
وقد شكل انتماؤها لفرقة المعمورة -التي ضمت أبرز رواد المسرح المغربي- نبراسا مضيئا في مسيرتها الفنية عموما والمسرحية خصوصا، على اعتبار أن تلك الفرقة تعد أول مؤسسة مسرحية احترافية صنعت الفرجة للجمهور وفق معايير مهنية اكتسبتها من الرؤية الفنية الأجنبية، خاصة الفرنسية منها.
“النجوم المسرحية”.. تأسيس لتجربة مسرحية متألقة
نقشت الراحلة زهور المعمري مسيرتها المسرحية بمداد التميز إلى جانب محمد حسن الجندي والطيب الصديقي، ومع مخرجين مسرحيين آخرين من بينهم أنور الجندي وعبد الصمد دنيا وعزيز موهوب وغيرهم.
وبعد تألقها في عدد من المسرحيات، قررت الراحلة سنة 1980 تأسيس فرقة أطلقت عليها اسم “النجوم المسرحية”، وقد قدمت فيها عددا من الأعمال، وشاركت فيها كمنتجة وممثلة، ومن أبرز المسرحيات التي قدمتها عبر جولات فنية مسرحية “الطنجية” من اقتباس وإخراج عبد الصمد دينيا، ومسرحية “راجلي ولد مو” للمخرج أنور الجندي وتأليف العربي بنتركة، و”الزواق يطير” للمخرج عبد الله العمراني وتأليف العربي باطما.
ويستحضر الجمهور بكثير من التقدير أعمالا مسرحية أخرى سطع فيها نجم الراحلة، منها “الشاوش فالمريخ” لجواد العدلي ومحمد الطاوجني، و”كارت سيجور” لحسن سامي ومحمد مجد، و”لعبة الحب والصدفة” لشكيب بنعمر، و”سوء التفاهم” من تأليف “ألبير كامو” وإخراج حميد بنشريفة، و”عبور في الرباط” لمحمد التازي.
كما شاركت أيضا في مسرحية “ما وراء الأفق” لعبد السلام الشرايبي وشكيب بنعمر، ومسرحية “الرباط المقدس” من اقتباس العربي بلشهب وإخراج عبد الله العمراني محمد الزياني، ومسرحية “الزوجة الموظفة” لمحمد الخلفي، ومسرحية “شكون هي” لإدريس الروخ ابن مدينتها مكناس.
“طريق المجهول”.. أعمال مشرقة في التلفزيون
لا تخلو أعمال الراحلة زهور المعمري في المجال التلفزيوني من تشويق وأداء لافت، فقد خطفت الأنظار في كثير من الأعمال التي لعبت فيها دور البطولة، سواء في الأفلام أو المسلسلات، ومن أبرز تلك المسلسلات نذكر”عينك ميزانك” و”القطار والناس” و”من دار لدار” و”لابريكاد” و”شريكتي مشكلتي” و”عيشة قنديشة” و”الخواتات” و”الأرض” و”الخيمة” و”النكافة” و”جيران الحومة” و”مداومة”، وهي سلسلة تُعنى بقضايا الأحداث والمحاكم.

وتألقت الراحلة بشكل كبير في مسلسل” طريق المجهول” الذي لعبت فيه دور البطولة إلى جانب نخبة نجوم الدراما المغربية، لعل أبرزهم عائشة ساجد ومحمد الخياري وصفية الزياني والعربي رياض وعائد موهوب ومحمد مفتاح ونعيمة المشرقي واحمد الناجي ومحمد الخلفي رحمه الله.
وعلى مستوى الأفلام التلفزيونية شاركت الراحلة في العديد من الأفلام التي اتسمت بالتشويق، ومعالجة مواضيع إنسانية قريبة من الناس والبسطاء، ولعل أبرزها فيلم “امرأة في دوامة الحياة” للمخرجة إيمان المصباحي، ونالت عن مشاركتها اللافتة في هذا العمل جائزة مهرجان الإذاعة والتلفزيون في تونس كأحسن ممثلة.
“أيام شهرزاد الجميلة”.. من السينما المغربية إلى العالمية
قدمت زهور المعمري على مستوى الأعمال السينمائية المغربية مشاركة متميزة في مجموعة من الأفلام، أبرزها “أيام شهرزاد الجميلة” للمخرج مصطفى الدرقاوي، وفيلم “أنا الفنان” لعبد الله الزروالي، وقد أبانت في فيلم “أيام شهرزاد الجميلة” عن عُلوّ كعبها في مجال التشخيص، وإتقانها للدور الذي أُسند لها إلى جانب عدد من النجوم، كالممثلة المصرية المقتدرة مريم فخر الدين، والممثل والموسيقار المغربي عبد الوهاب الدكالي.
كما تألقت الراحلة -التي كرمت في العديد من المناسبات الوطنية الدولية تقديرا لحسها الفني الرفيع، ومساهمتها في تطوير التشخيص الدرامي منذ عهد الاستقلال- رفقة عدد من نجوم السينما مثل ثريا جبران والعربي الدغمي وبدعية ريان ومحمد الحبشي وصلاح الدين بن موسى في فيلم “بامو” لإدريس المريني، وهو فيلم تاريخي رومانسي تدور أحداثه خلال فترة الاستعمار الفرنسي للمغرب.
ووقعت أيضا على مشاركة وازنة في العديد من الأفلام التلفزيونية، منها “الأصيل للأصيل” لمحمد قصاب، و”المنزل المطلوب” لفريدة بورقية، و”منديل صفية” لمحمد العليوي، و”المسيرة” و”الدمية” لشكيب بنعمر، و”الطاحونة” لعلي قروي ورضوان القاسمي، و”الرخامة ” لمصطفى فاكر وغيرها.
وقد شاركت كذلك في عدد من الأفلام العالمية، ومنها الجزء الثاني من الفيلم الأمريكي “كعب أسود” للمخرج الأمريكي “فرانسيس فورد كوبولا”، و”الرسالة” لمصطفى العقاد، والفيلم الإسباني “بوركا بور أمور” لمخرجه “منويل استودايبو”، و”الأخوين” للمخرج الفرنسي “كزافي بوفوا”، وفيلم إيطالي حول المقاومة الليبية للاستعمار الإيطالي لمخرجه “نيلو ريتزي” سنة 1969.
رحيل المرأة الحديدية.. تساقط أوراق شجرة الفن المغربي
أمام هذا الزخم الفني والعطاء الإبداعي في المجال المسرحي والتلفزيوني والسينمائي، تكون الراحلة زهور المعمري قد حققت لذاتها وللجمهور نوعا من الإشباع الجميل، وذلك بتقمصها أدوارا مختلفة ومركبة زاوجت فيها بين الحِسّ الأنثوي والرقيق والمرأة الحديدية التي لا تقهر.
وبرحيل زهرة الأقحوان تكون الساحة الفنية المغربية والعربية قد فقدت إحدى أيقوناتها التي برعت بكل تلقائية واحترافية عالية في صناعة الفرجة المشتهاة للجمهور بلا تصنع ولا مساحيق.
وبرحيلها تسقط ورقة أخرى من شجرة الفنون المغربية، تاركة وراءها سيمفونية صامتة لرحيل حزين في عز الشتاء، والكثير من هسيس الشجر وهمس الظلال والخضرة والأوشام والابتسامات التي كانت توزعها الراحلة هنا وهناك كعربون محبة صادقة من قلب كبير وهب للحركة الفنية المغربية فيضا من محاكاة الواقع والخيال والحلم والأمنيات.