“بيير كاردان”.. عبقرية المصمم الذي ألبس العامة ثياب البرجوازيين

بدأ طفولته بالعمل بصناعة الملابس لدمى الوحوش المخيفة، ولم يتخيل أنها ستتحول إلى فساتين حقيقية، وعندما كان في المدرسة كانوا يسألونه: ماذا تريد أن تكون عندما تكبر؟ فكان يجيب مصمم أزياء، ولم يكن قد أدرك حينها معنى المصطلح.

وعندما دخل “بيير كاردان” عالم صناعة الأزياء، كان همه أن يكسر احتكار البرجوازيين للأزياء وتصاميمها، وينزل بها إلى متناول عامة الناس، ونجح في اشتراكية الأزياء -إن جاز التعبير-، ليصبح اسما يزاحم كبار العلامات التجارية، قبل أن يتوسع إلى قطاعات أخرى غير الملابس.

وأصبحت أفكاره من بدهيات عالم تصميم الأزياء، وعندما طبقها ثبت أنها أصيلة، وقد أحدثت ثورة، فهو “لم يستعن بكتب التاريخ في أعماله، وإنما ابتكر أسلوبا خاصا به”، إنه مصمم الأزياء الفرنسي العالمي ذو الأصول الإيطالية بيير كاردان.

رحلة صورية ومعرفية نقضيها مع دار كاردان، يحدثنا فيها صاحب الدار عن نفسه ونستمع لرفاقه ومعارفه عن تجربته الطويلة والناجحة في عالم تصميم الملابس، وذلك في فيلم طويل بثته قناة الجزيرة الوثائقية.

“من الصعب اختزاله في كلمة واحدة”.. شمس إيطالية تشرق في فرنسا

ولد “بيير كاردان” عام 1922 في سان دي بياجيووكالاتا الإيطالية، وأسس إمبراطورية عظيمة للأزياء حملت اسمه، كان رائدا في جعل الأزياء تتخذ طابعا عالميا، وكان أسلوبه على نحو عصري منظم ومبتكر ومستقبلي، ويتمتع برؤية ثاقبة امتدت 50 عاما ولا تزال. يقول المؤلف الموسيقي “دانييل مارتيني”: نحن الإيطاليون نعتز بأنه إيطالي الأصل، فروحه وإبداعه وشخصيته وطاقته كلها إيطالية.. أرى فيه شمس إيطاليا.

أحد عروض أزياء كاردان على سور الصين العظيم

عشق “كاردان” عمله، وكان شغوفا في مهنته ومحبا للفن والإبداع، يقول “جون باسكال” المسؤول عن مراسلاته: كان “كاردان” يحب الحديث عن نفسه لكنه كان متواضعا، فقد رفض كتابة سيرته الذاتية، أما “فانغ فانغ” وهي من فريق عمله بالصين، فكانت تقول إنه من الصعب اختزاله في كلمة واحدة، بينما تصفه المغنية “ديون وارويك” بالأنيق.

أراد “كاردان” التأثير على العالم، وتمتع برؤية شاملة وعالمية، وكان أول من زار الهند واليابان وروسيا، ونظم فيها عروض أزياء، حتى أنه نظم عرضا على سور الصين العظيم. تقول عنه الصحفية في صحيفة لوفيغارو “لورونس بيناعيم”: لقد وضع اسمه على أكثر من 800 منتج حول العالم، لقد كان رمزا من رموز فرنسا. وتصفه “رونيه تابونييه” من متحف كاردان بصاحب اليدين الذهبيتين، كما وصف أيضا بأوصاف مناقضة فهو رجل أعمال كذاب بغيض متناقض، رجل المسرح والسينما المهووس بالسيطرة.

“اضطررت أن أشق طريقي بنفسي”.. طفولة في ظل الحرب

لم تكن حياة “كاردان” محفوفة بالزهور في بداية مساره في عالم الأزياء، يقول عن نفسه: كان لوالديّ مخازن للجليد وكروم من العنب ووسائل للتنقل، لكنهما خسرا كل ذلك بعد الحرب العالمية الأولى، كانا كبيرين عندما ولدت، فكان أبي ذا 58 عاما، ووالدتي ذات 46 عاما.

بعد الحرب، كان من المستحيل العيش بحياة كريمة في إيطاليا، لذا فرت العائلة إلى فرنسا عام 1924، وكان “بيير” وقتها أصغر إخوته، وهو يتذكر رحلته إلى فرنسا بوضوح، بكل معاناتها وتفاصيلها.

مصمم الأزياء الإيطالي بيير كاردان في حفل تكريم له وقد شارف على عمر المئة

وقال خلال مقابلة تلفزيونية: لم تكن طفولتي بائسة، لكن كانت أسرتنا فقيرة وبسيطة، واضطررت أن أشق طريقي بنفسي، وهذا شيء جيد، فقد جعلني أعيش حياة أكثر التزاما، وأتخذ فيها قراراتي وأتحلى بالشجاعة.

لحظة البداية.. رسالة الوسيط الروحي إلى عالم العمالقة

أما عن بداية عمله في الأزياء، فيقول: بدأت في طفولتي بالعمل في دمى الوحوش المخيفة، صنعت لها الملابس ولم أتخيل أنها ستتحول إلى فساتين حقيقية، وعندما كنت في المدرسة كانوا يسألونني: ماذا تريد أن تكون عندما تكبر؟ كنت أجيب مصمم أزياء، ولم أكن أدرك معنى المصطلح آنذاك.

عاش “بيير” مع أسرته حتى بلغ 16 عاما، وعمل مع الصليب الأحمر الفرنسي 4 سنوات، وأثناء وجوده في مدينة فيشي تعلم عند خياط أصول المهنة، وبعدها قرر دخول عالم الأزياء، وانتقل إلى باريس في شهر أكتوبر/تشرين أول 1945. يقول: شكل وصولي هناك ذروة نجاحي، ونصحني وسيط روحاني للذهاب إلى دار باكان التي كنت أجهلها.

في عام 1945 وصل كاردان إلى فرنسا باحثا عن فرصة عمل في دار باكان، بالقرب من مبنى علامة هيرميس بباريس

أعطاه الوسيط الروحي خطابا ليسلمه إلى رجل يدعى “والتنر”، ولكنه ضل طريقه في يوم أحد، وكان الجو باردا جدا. يقول: وصلت للشارع المهجور والتقيت برجل أمام هيرمز، وسألته عن الرقم 82 في شارع سانت أونري، نظر إلي وقال عن ماذا تبحث هناك؟ قلت لدي صديق هناك اسمه “والتنر”، فقال لي أنت تكذب، أنا “والتنر”، كان أول شخص أتحدث معه بعد الحرب في باريس، ولم أكن أعرف أحدا هناك، كان هو ذاته الشخص الذي أبحث عنه.

“المصممون الحقيقيون هم من يتقنون الخياطة”

يقول “كاردان”: ذهبت إلى باكان واشتغلت عاملا هناك، كان في الدار “جان كوكتو” و”كريستيان بيرار”، وكانا يعدان لفيلم الجميلة والوحش، شاهدوا حماسي وشغفي في عمل الملابس، وهكذا التقيت بأفراد متميزين، كانوا نخبة أهالي باريس، كانوا أساتذتي، والحقيقة أنا مدين لهم بوجودي وقد أصبت الهدف.

كان مجال الأزياء مختصرا على فئة صغيرة، مثل “كوكتو” و”بيرار” و”كريستيان ديور”، وفي العام 1946 انتقل “كاردان” للعمل مع “ديور”، وهناك بدأ المشاركة بما سمي بالإطلالة الجديدة، وكان الخياط الأول لديه، فقد أتقن فن صناعة الملابس من الألف إلى الياء، لقد تعلم ذلك بنفسه ولم يلتحق بمدرسة: تقول عارضة الأزياء “نعومي كامبل”: المصممون الحقيقيون هم من يتقنون الخياطة.

بعد الحرب العالمية الثانية واظب “كاردان” على حضور المناسبات الهامة، وقد ألبس “كريستيان ديور” ثوب الأسد في عام 1948 في حفل باستوغي التنكري الشهير، كما أنه صنع ثلاثين زيا تنكريا آخر، “في تلك الحفلة تحول قصر لابيا في البندقية إلى مسرح يعيد أمجاد القرن 18”.

“كريستيان ديور”.. ظلال دعم كان يتمناه الجميع

يقول “كاردان”: الحقيقة أن “كريستيان ديور” هو من ساعدني على إنشاء دار الأزياء، ويشير إلى أن الحصول على دعم “ديور” في ذلك الوقت كان حلما يتمناه الجميع، “وقد اختارني أنا، ومنحني كل التشجيع”.

بدأ بصناعة المعطف المطوي، الذي كان إنتاجه صعبا بسبب سماكة النسيج، لكن بيعت منه 200 ألف قطعة في الولايات المتحدة وحدها، وكان هذا المعطف الأحمر سبب ثروته وباكورة أعماله.

اكتشف “كاردان” الأنماط الكلاسيكية وعمل على تفكيكها، وكانت لديه الرغبة بالانطلاق من قاعدة مغايرة للماضي، ودخول مجالات جديدة من الإبداع.

في العام 1946 انتقل كاردان للعمل مع كريستيان ديور

في محترفه يقوم “كاردان” بالعمل مع فريقه، يعرضون عليه أعمالهم فإما أن تعجبه أو لا، وقد يطلب منهم القيام ببعض التعديلات، أما الزبون فيقوم باختيار التصميم والقماش الذي يريده. تقول “ماريس غاسبار”: أنا مديرة التصاميم الأنيقة، بدأت كعارضة في عام 1966، عملت مع “كاردان” منذ كان عمري 18 عاما، ولم أكن قد عرضت أزياء من قبل، وكانت المرة الأولى التي أدخل فيها دار للأزياء الراقية، قال لي السيد “كاردان” سوف تأتين في الغد لكي تعرضي المجموعة، وبعد عشر سنوات انتقلت إلى علاقات العملاء.

يقول “كاردان”: أنا أعمل في الدار منذ أربعين عاما، وليس هناك دار ذات أنماط متعددة كدار كاردان، 14 طابقا من الملابس، حتى أننا لم نعد نعدها.

خدمة السواد الأعظم من الناس.. “لعل هذا الفشل منحني الشهرة”

في الخمسينيات وحتى عام 1963، كان العمل متشابها في جميع دور الأزياء، كل النساء ترتدين القفازات والقبعات، ترتدي المرأة معطفا في الصباح وفستانا على الغداء وآخر للحفلات، وفي المساء فستانا مسائيا، كان سياق الحياة مختلفا تماما. يقول “جون دولير” من فريق “كاردان”: كان المجتمع يستعد لتغييرات هائلة في الستينيات، وكان “كاردان” يتمتع برؤية ثاقبة، فالمبدأ الأساسي هو الانفتاح على الإبداع، والخروج من الدائرة الضيقة لصالونات الأزياء الراقية في باريس.

متجر كاردان للأزياء الراقية الجاهزة مكون من 14 طابقا

تقوم رؤية “كاردان” لتصميم الأزياء على إنتاج تصاميم مبدعة ومتقنة، فالجميع يبحث عن الإبداع، ويجب على الإبداع أن يخدم السواد الأعظم من الناس، وقد افتتح كاردان متجرا كبيرا للأزياء الراقية لتتمكن معظم النساء من الشراء، ويقول: إن النساء في باريس سيتمكنّ من شراء الثياب الشبيهة بالأزياء الراقية، وستحمل علامات تجارية مرموقة مثل “بيير كاردان” وأسماء أخرى، فالإبداع حق للجميع، فإن لم يرتدِ الناس ما نصممه فما الغاية منه.

نتيجة لهذه الرؤية، فعندما بدأ “كاردان” ببيع الملابس الجاهزة في متاجر فيرنتام عوقب بالطرد من جمعية مصممي الأزياء الراقية، واستمر في تصميم مجموعاته، لكنه لم يتمكن من إقامة عروض الأزياء لعدة سنوات، وكانت فكرة الملابس الجاهزة أكبر فشل تعرض له، ووقفت باريس كلها ضده، وقيل له إنه سينتهي خلال ثلاثة شهور، وهذا ما تحدثت عنه الصحف، لكنه يقول: لعل هذا الفشل منحني الشهرة التي أتمتع بها اليوم، فقد وقفوا ضدي وساهموا في نجاحي.

“أن يضفي الثوب جمالا على صاحبته”.. أول اشتراكي في عالم الأزياء

اعتبر “كاردان” أول اشتراكي في تصميم الأزياء، وكان يعتبر نفسه سياسيا بصورة ما، ولديه آراء خاصة، لقد كان مستهجنا أن يقوم هو بتصميم ملابس للخادمات وملابس للدوقة “ونتسر” في ذات الوقت، كان هدفه تصميم أزياء لعامة الناس، وكان أول من أطلق مجموعة للملابس الراقية للرجال، وأول عارض للأزياء بعد الحرب، وكان ينظر للعارضين في ذلك الوقت كشواذ، فقد كانت هذه المهنة تثير نفورا كبيرا، ثم ذهب للجامعة واختار بعض الطلاب ليكونوا عارضي أزياء.

في المقابل، كانت عارضات الأزياء جميعهن من صاحبات البشرة البيضاء، لكنه كان يرى الأزياء شيئا عالميا، ولا بد من اختلاف الوجوه في داره، وكان يقول: لا يهمني عندما أصمم ثوبا أن ترتديه فتاة يابانية أو فرنسية طويلة أم قصيرة، كل ما يهمني أن يضفي الثوب جمالا على صاحبته.

عارضة الأزياء اليابانية القصيرة هيروكوما التي حققت الأثر الأكبر في عروض أزياء كاردان بباريس

أثبت “كاردان” أنه لا يمانع من توظيف اليابانيين أو ذوي البشرة السمراء، لأن لون البشرة على قائمة مبيعاته، وتقول العارضة “نعومي كامبل”: كان دوره مفصليا في توظيف عارضات من أعراق متنوعة، وأنا ممتنة له.

“بدأ عصر القمر”.. ثورة عصرية على أزياء العصر القديم

شهد عقد الستينيات تطورات فاصلة في عالم الأزياء، مع انهيار الطبقات الاجتماعية التي تشكلت قبل الحرب، وكان للحركة الشبابية دور كبير في تلك التطورات والانفصال عن الماضي، والامتناع عن ارتداء ملابس الأجداد، فكانت تصاميم “كاردان” نتاجا لروح الشباب الذين كانوا أكثر تقبلا لما يصنعه، لقد حرر جسد المرأة وجعلها تعيش وتتحرك بحرية تامة في ملابسها، كانت الأناقة عند “ديور” تتمثل في حشوات الكتفين والخصر الضيق، كان يعشق الكورسية، لكنها كانت تحد الحركة وتنتمي إلى العصر القديم.

ابتعدت تصاميم “كاردان” عن الشكل الفعلي لجسد المرأة، فعندما ترتدي المرأة فستانا على شكل حرف “إيه” تكون حركتها أسهل، فالملابس الفضفاضة نوع من التمكين بحد ذاته، وكان يؤمن بالفكر النسوي، وأدرك أن النساء بحاجة لمصمم، وهو أول من أنتج ملابس جميلة بأسعار معقولة، ومصنوعة من مواد عملية قابلة للغسل والتنظيف الجاف، كما أنه أجرى تغييرات على ملابس الرجال، بعدما كانت تقتصر على البدلات الرسمية، ورغب كثيرون في ارتداء ملابسه، لأنها حديثة ومناسبة للشباب.

كانت مجلات الأزياء تفتتح في “ديور” ثم “بالمان” و”نينا ريتشي” ثم “كاردان”، لقد كانت ملابسه مذهلة وعصرية، وكما يقول هو “بدأ عصر القمر، ويجب أن نفكر في المستقبل بأبعاد جديدة في الفكر والفن”، لقد كان متقدما على عصره في تقديم الملابس ذات النزعة المستقبلية.

“أحاول إيجاد بيئة نتعايش فيها مع الأثاث”.. سر الجاذبية

يملك “كاردان” رؤية تجارية ثاقبة ونظرة شمولية للفن والأداء والعمارة والأزياء، وكلها تندرج ضمن المفهوم نفسه، فالأثاث أحد أشكال التصميم، وهو متوافق مع عمل مصمم الأزياء، كما يقول: لطالما أثار الأثاث اهتمامي، لأنني ترددت في طفولتي على مشاغل النجارة وبقيت شغوفا بها، أظن أن تصاميمي تتوافق مع البيئة، لأني أحاول إيجاد بيئة نتعايش فيها مع الأثاث.

كان كاردان أول من أنتج ملابس جميلة بأسعار معقولة ومن مواد عملية قابلة للغسل والتنظيف الجاف

يقول مؤرخ التصاميم “كريستوفر ماونت”: إن منحوتات “كاردان” في الأثاث لا تنطوي على الكثير من الجرأة، لقد صنعت في السبعينيات، وهي تعبر عن رؤيا مستقبلية، أعماله تتحدى الزمن، وهي أفضل طريقة لوصفه، يحب أن ينطبق ذلك على الأثاث والملابس من تصاميمه، وهذا سر جاذبيته.

فكر “فلورون جينيار” من معرض سنوبي للتصميم بعمل معرض لأعمال “بيير كاردان” الخاصة بالأثاث، كانت كل القطع من مجموعته الشخصية، وبعضها لم يعرض من قبل، وكان هناك أكثر من 100 قطعة عمل بها مع “رودريغو باسيليكاتي”، ولكن تعذر إحضارها.

علامة “بيير كاردان”.. زينة النظارات والسيارات والطائرات

قبل “كاردان” كانت النظارات الشمسية والطبية على حد سواء ذات ألوان كلاسيكية كالأسود والذهبي والأزرق. يقول اختصاصي طب العيون الدكتور “مارك تشونغ”: كان “كاردان” أحد رواد إضفاء الأناقة على النظارات، وقد نقلها إلى عالم الأزياء.

لم يكن “كاردان” أول من وضع العلامة التجارية على النظارات، لكنه هو من وضع الشعار على الجهة الخارحية، وأدرك أنه ليس مضطرا لإخفائه. تقول “آمبر بوتشارت”: ترويج العلامة التجارية أفضل وسيلة لإخبار الناس بأنك ملتزم بالمبادئ الجمالية لدى مصمم معين، وأنك من أصحاب الذوق الرفيع.

دخلت تصاميم “بيير كاردان” إلى كثير من الحقول، وتجاوزت الأزياء والأثاث إلى تصميم النظارات الشمسية والطبية، كما دخل عالم العطور بعلامته التجارية الشهيرة “عطر سيكس ديلوم” الذي اعتبره أعظم نجاح له في أمريكا، وقال عنه إنه كان عملا استثنائيا.

تركزت تصاميم كاردان في فترة الستينيات على الدوائر والأشكال اللولبية باعتبارها أساس الحركة الكونية

ولم يترك “كاردان” مجال السيارات والطائرات، فكانت سيارة جافلين كاردان إنجازا رائعا، وقدمت إضافات “كاردان” مميزات لم توفرها أي شركة صانعة أخرى، ولم يكتف بالعمل على الأرض، بل قدم علامته التجارية لطائرة نفاثة من إنتاج ويست وينت، كما عمل على تصميم فرش ومناشف خاصة بالسيارات والطائرات.

استهلاك العلامة التجارية.. إساءة الاستخدام وتوفير السيولة

اعتبر كثيرون أن “كاردان” يقلل من قدر علامته التجارية ويستهلكها وربما يخرج عن المسار، يقول “فيليب ستارك”: عندما يضع أحد المشاهير اسمه على أشياء متواضعة، فإنه يفتح الباب للعلامات التجارية الكبرى للقيام بالعمل نفسه.

لكن “جون باسكال” رد بقوله: تستطيع لومه على إساءة استخدام صورته بوضع اسمه على عدد من المنتجات، لكنه أتاح سيولة مالية أغنته عن الحاجة للآخرين.

وضع كاردان علامته التجارية على أكثر من 800 منتج

لم يقبل “كاردان” أموالا من البداية، ولم يقترض من البنوك، وكان يتمتع بدهاء رجال الأعمال، فعلى سبيل المثال استطاعت بعض دور الأزياء تطوير نفسها بالاعتماد على فرق التسويق أو الاندماج مع غيرها من المؤسسات الكبرى، أما “كاردان” فكان ينتمي لنفسه وظهر على غلاف مجلة التايمز، وكان يحظى باحترام كبير بصفته أحد كبار مصممي الأزياء، ليس هذا فقط بل لأنه بنى إمبراطورية عظيمة.

مطعم مكسيم.. ثأر للكرامة بعد 20 عاما

يروي مصمم الأزياء الفرنسي الشهير “جون بول غوتييه” كيف استطاع “كاردان” أن يمتلك مطعم مكسيم الشهير في باريس، وهو يقول: كان “كاردان” قد أطلق التكسيدو مع الياقة العالية في ستينيات القرن الماضي، وكانت فكرة جديدة آنذاك، وقد حضر ذات مرة إلى المطعم لحضور حفل، ومنع من الدخول لأنه لم يكن يرتدي قميصا أو ربطة عنق، كان طرده فضيحة، لكنه بعد 20 عاما اشترى مطعم مكسيم برمته، إنه انتقام فريد من نوعه.

يقول “آلان ليمور”، وهو من مديري مطعم مكسيم: إن “كاردان” يمثل التاريخ، وتشبه قصته قصة المعلم الفرنسي الشهير “بلي بوك”، يرتبط كارادن بذهني في الطبق الرئيسي.

شهرة كاردان جعلته يظهر على غلاف مجلة تايم الأمريكية

لقد سمح “كاردان” بمنح حقوق امتياز مطعم مكسيم حول العالم في بكين وجينيف وموناكو، ويقول المصمم الشهير “بيير بيلغري”: مطعم مكسيم رمز من رموز باريس، وعندما نذكر باريس يخطر ببالنا برج إيفل ومطعم مكسيم، وحتى أن استخدامه للونين الأحمر والذهبي يشجع الناس على أن يحلموا.

رحلات الشرق والغرب.. صناعة فانتازيا عالمية مستقبلية

تبنى “كاردان” فكرة الفانتازيا بشأن ما سيبدو عليه العالم مستقبلا، وبدا ذا نزعة عالمية، عندما كان العالم يخلو من الأزياء اليابانية، وزار الصين عندما كانوا يرتدون زي ماو، وزار الاتحاد السوفياتي عندما كان خاليا من الأناقة. أراد أن ينتشر اسمه في العالم، وأن تصل فكرته لكل الأجناس دون تميز سياسي أو ديني، لذا عمل في كل البيئات دون التفريط بالجانب الإبداعي، وركز على الجانب الاجتماعي، وهذا عمله بكل بساطة، كما يقول.

بعد 20 عاما من منعه من دخول مطعم مكسيم وسط باريس، اشترى كاردان المطعم برمته

في عام 1958، تلقى “كاردان” دعوة من مدرسة بونك للتصميم في اليابان، وأقام عرضا للأزياء هناك، يقول مصمم الأزياء “كينزو تاكدا”: كان “كاردان” مصمما فرنسيا عالميا، وكان هذا أول عرض أشاهده في دراستي للأزياء، وقد كان تأثيره كبيرا، فقد سمعنا عن قدرته في التصميم، وأنه قادر على ابتكار تصميم جديد أمام عينيك خلال ثوان معدودة، لقد انتظرته، وكان شابا يتمتع بالجاذبية والوسامة، وترك لدينا انطباعا قويا.

وقد انتشرت علامته التجارية من طوكيو إلى نيويورك مرورا بأوروبا وأمريكا اللاتينية، وكان حدثا هائلا في الاتحاد السوفياتي الذي كان شعبه لا يملك ترف الأزياء، ولكنه حافظ على مصانعهم.

“كان الناس يكتفون بأن تكون ملابسهم نظيفة”.. اقتحام السوق الصينية

يقول عارض الأزياء السابق “هايبان غونغ”: كنا نجهل الثقافة الغربية، لكن البيئة السياسية والاقتصادية أخذت تتغير نتيجة الإصلاح التجاري، ولم يكن أحد يريد العمل معنا، وكانوا يخشون الشعب الصيني. فالصين حينها كانت معزولة عن العالم، وكانت تبدو دون ألوان، فكل شيء فيها رمادي. تقول “فانغ فانغ”: كان الناس يكتفون بأن تكون ملابسهم نظيفة ومرتبة.

تصميم أزياء العروض المسرحية في الصين بالتعاون بين مصممة الأزياء “غوباي ماريس غاسبار” ودار كاردان ببكين

امتلكت الصين تاريخا عريقا في إنتاج الحرير، لكنها كانت تفتقر إلى المال، وأخذ “كاردان” يصمم الملابس الحريرية في الصين ويصدرها إلى أوروبا، وقد كان أول من زار الصين من المصممين.

يقول “كاردان”: قد تبدو مهنة تصميم الأزياء عبثية، لكنها ليست سهلة كما يظن البعض، فمصمم الأزياء أكثر عمقا ولديه مسؤليات هائلة، فالأزياء قابلة للتعديل، وعلى المصمم صناعة أزياء تتحدى العالم في الابتكار، فهذه المهنة تنطوي على إمكانيات متعددة، وهي شكل من أشكال التواصل لمن يجيدون استخدامه.

فالأزياء تتيح للإنسان تخطي الحواجز -كما تقول مصممة الأزياء “غوباي ماريس غاسبار”-، فعندما يتحدث الناس عنها عليهم أن لا يقولوا هذا فرنسي وهذا صيني، فالأزياء متاحة للجميع دون استثناء.

غطى “كاردان” السوق الصينية، حتى بدا أن الجميع هناك يعرفونه، فقد دأب على إقامة عروض هناك ذات تنوع كبير تكرس قوة الروابط الثقافية، وقد جمع في أعماله بين البيئة والإنسان والطبيعة والبيئة المحلية، ومن الطريف أنه عندما سُئل أطفال صينيون في اختبار عن اسم الرئيس الفرنسي أجاب معظمهم “بيير كاردان”.

“هذا ليس مسرحا بل مقبرة”.. فضاء كاردان

يعمل “كاردان” في 63 دولة حول العالم، ولديه نحو 90 ألف موظف وعشرات آلاف نقاط البيع، وحين بلغ 48 عاما اشترى مسرحا لتحقيق حلمه كممثل، ودعم الفنانين، وتحول مسرح السفراء سابقا إلى فضاء “كاردان”. يقول: أنا شغوف في التعبير عن نفسي، وإلا لم أكن لآتي إلى المسرح، إنها بيئة يمكن حدوث أي شيء فيها، وهو فرصة للانفتاح والتعرف على الوجهات الفنية.

اهتم كاردان بالمسرح فاشترى مسرحا لتحقيق حلمه كممثل، ودعم الفنانين، وتحول مسرح السفراء سابقا إلى فضاء كاردان

لم يبد الجمهور رضاه عن كل الأعمال التي عرضت في فضاء مسرح كاردان، لكنه أعطاهم الفرصة دون شروط، فقد كان يرى أنه لا بد أن تعطى الفرصة للكتاب والممثلين المغمورين في الأعمال الدرامية والكلاسيكية أو المعاصرة.

كما أنه طلب من بعض المشاهير زيارة مسرحه، فمثلا عرض على “مارلين مونرو” أن تعمل في مسرحه، فقد كان معجبا بها، وكانت عازمة على العمل معه بجد، لكنها عندما زارت المسرح قالت: هذا ليس مسرحا بل مقبرة، فقد كان الاستقبال غريبا، وشعرت هي بالإحراج.

“جين مورو”.. ممثلة خطفت قلب مصمم أزيائها

كان “كاردان” يحب صحبة الفنانين ويعتبرهم جزءا من أسرته، وقد عمل مع كثير من الممثلات، وكان يحترمهن ويصمم لهن الملابس. تقول “شارون ستون”: عندما التقيت به قال لي إنني أشبه الوردة البيضاء، شعرت بالخجل لكني سعدت لأنه لاحظ وجودي، فجملته جعلتني أفكر بأن كل امرأة تتمتع بجمال معين كالزهور، ظلت كلماته محفورة في ذاكرتي وتعني لي الكثير.

يقول كاردان “العواطف هي المشاعر، وهي الحب بالمطلق، فقد كانت الممثلة “جين مورو” رفيقة دربي لمدة طويلة، كانت امرأة استثنائية وذكية، وقد غادرتنا مبكرا.

الممثلة جين مورو حبيبة بيير كاردان ورفيقة دربه لمدة طويلة

ويقول صانع الأفلام “خوسيه ديان”: حققت أزياء فيلم “خليج الملائكة” (La Baie des Anges) نجاحا باهرا، لأنها تلائمت مع شخصية “جين مورو” بالفيلم.

لقد أرسلت “كوكو شانيل” إلى “بيير كاردان” من أجل تصميم ملابس “جين مورو”، لأنها عجزت عن ذلك، وقالت لها إنه شاب موهوب. يقول “خوسيه ديان”: كان “كاردان” وسيما ووقعت في حبه، أظن أن “جين” تحب التحديات وحاولت أن تستميله.

يقول “كاردان”: أعشقها حتى الهيام، وتشكل الأنوثة التي أحبها، أحببنا بعضنا من أول نظرة، وتبادلنا الحب لزمن طويل، الحب المتبادل هو الاحترام المتبادل في المقام الأول. كانت “جين” ممثلة عظيمة، وكنت مصمما عظيما، لذا لم نتزوج.

ألقى “كاردان” خطابا في أكاديمية الفنون للترحيب بها، فقال: هل تذكرين في البندقية في الغرفة الكبيرة في الفندق والتي عاش فيها “جورج ساند” و”موسيه”، أحببنا بعضنا وتعانقنا. ويقول: كنا نذهب في نهاية الأسبوع إلى الجنوب الفرنسي أو تونس أو إيطاليا، نذهب إلى الريف، أما في باريس فلم نغادر المنزل معا.

“أكثر شيء ممكن أن يناله المرء في فرنسا”.. أسطورة عالم التصميم

يرى كاردان أن العمل يجعل الإنسان نبيلا، وأنه بالعمل الجاد يصل المرء إلى أعلى المراتب، ويقول: خلال 100 عام تحدث أشياء كثيرة، لقد بنيت عملي في 20 عاما، لكني لن أكون هنا بعد 100 عام.

يقول “رودريغو باسيليكاتي كاردان” عن عمه: من الجميل أن نرى أحدا في سنه، وهو لا يزال واعيا بكل ما يحدث، نحن محظوظون لأن معنا شخصا واحدا يدير دفة القيادة، وهذا أفضل.

يشيد معظم المتحدثين في الفيلم بمسيرة “كاردان”، فقد كان من أصحاب الرؤية المستقبلية، وتعلم منه المقربون أنه يمكن أن يعمل الإنسان ما يريد، لقد كانت أعماله خالدة، وتشكل نوعا من الفانتازيا والجنون.

يعمل كاردان في 63 دولة حول العالم، ولديه نحو 90 ألف موظف وعشرات آلاف نقاط البيع

انضم “بيير كاردان” للأكاديمية الفرنسية، وهو أكثر شيء تشرف به، حسب ما يقول، “فهو أكثر شيء ممكن أن يناله المرء في فرنسا”.

ولطالما تمتع كاردان بصحة جيدة بالرغم من عمره المتقدم، فقد واظب على العمل، وكان ذهنه متقدا. تقول “رونيه تابونييه”: كنت أقول إنه عندما يحين أجله سيكون ممسكا بمقصه وقطعة قماش، أنا على يقين أنه سيستمر في التصميم حتى النهاية.

خط “كاردان” أسطورته في عالم التصميم، وكان أسلوبه ثوريا حداثيا وحالما، وخرج عن المألوف والتقليدي، لقد تمتع بالكثير من الحرية ولم يوقفه شيء، كان وسيبقى حاضرا في أذهان عشاق الإبداع، وستظل أعماله ملهمة وخالدة للأجيال، وتخليدا له في اليابان، فإن جامعة يونكا للأزياء في طوكيو تعرف طلاب السنة الأولى بأعماله.


إعلان