إدوارد سعيد.. صرخة أكاديمية في وجه قرون الاستشراق

ولد إدوارد سعيد في مدينة القدس عام 1935، ثم انتقل إلى مصر بعد النكبة الفلسطينية، ثم هاجر إلى أمريكا واستقر فيها، وعمل هناك أستاذا جامعيا للنقد والأدب المقارن حتى آخر حياته. ويعد إدوارد سعيد من أبرز مفكري القرن العشرين وله عدد من المؤلفات أهمها على الإطلاق كتابه “الاستشراق” أو (Orientalism).

وقد ناقشت الجزيرة الوثائقية كتابه “الاستشراق” في حلقة من حلقات سلسلة “خارج النص”، وعرضت الجدل الواسع الذي أحدثه الكتاب بين مفكري العالم، حيث قدم فيه الكاتب نقدا عميقا لفكرة الاستشراق، وكشف دور المستشرقين في تكريس الصورة النمطية للمجتمع الشرقي خدمة للمشروع الاستعماري الغربي.

“العربي كما رسم”.. نواة الحرب على الاستشراق الحديث

عاش إدوارد سعيد في المجتمع الأمريكي الذي وصم آنذاك بالعنصرية ومحاباته الدائمة لإسرائيل ودعمها، ولكونه عانى من الهيمنة الغربية على منطقة الشرق الأوسط، فقد أجاد في وصف هذه الهيمنة الاستعمارية ببراعة وإبداع .

وكانت وسائل الإعلام الغربية تغطي الأحداث المهمة في الوطن العربي بطريقة مستفزة ومنحازة ضد العرب، مما دفع إدوارد للكتابة في موضوع الاستشراق.

كانت بداية  بحث إدوارد لموضوع الاستشراق في مقاله “العربي كما رسم” الذي نشر له عام 1969، ثم توسع في بحث الموضوع حتى أصدر كتابه الاستشراق عام 1978. وعن ذلك يقول: تجاربي الشخصية مع هذه القضايا هي ما دفعني جزئيا لكتابة هذا الكتاب، فحياة الفلسطيني العربي في الغرب -وبشكل خاص الولايات المتحدة- تبعث اليأس في النفس، إذ يوجد هنا إجماع كلي تقريبا أن الفلسطيني غير موجود سياسيا.

المستشرق البريطاني المنحاز “روبرت أورين”

أما جوزيف مسعد فيرى أن تحولا حدث في حياة إدوارد سعيد بعد حرب 1967، وذلك نتيجة ردة الفعل العدائية الأمريكية والتغطية الإعلامية العنصرية للعرب والمسلمين بعد النكسة، لذلك كان كتابه يمثل نقطة تحول في مسار الاستشراق الغربي، ومكاشفة واضحة وصريحة لحقيقة دور المستشرقين .

يقول إدوارد سعيد في كتابه: كان المستشرق الحديث في نظر نفسه بطلا ينقذ الشرق من مهاوي الغموض والعزلة والغرابة التي كان هو ذاته قد ميزها بشكل صحيح.

تحليل الاستشراق.. مرآة من الشرق تعكس الصورة للغرب

درس إدوارد سعيد الاستشراق بعقلية غربية متخصصة، فتبحر في علوم الثقافة الغربية وتشبع بمناهج التفكير والتحليل فيها، وهذا ما جعله مدركا لطبيعة النظرية الغربية في الحكم على الشرق من أرضية غربية محضة.

يقول البروفيسور “ويليام هارت”: قدم إدوارد سعيد إضافة ثورية لطريقة فهمنا للشرق، ولا أبالغ حين أقول إن فهمنا للاستشراق قبل إدوارد سعيد شيء وبعده شيء آخر، فقد قدم لنا مجموعة من المفاهيم والمصطلحات والتصنيفات التي قربت إلينا الرؤيا.

يرى مستشرقون بأن إدوارد سعيد كتب كتابه هذا بسبب بريطانيا التي استعمرت الشرق

وعلى النقيض من ذلك يرى المستشرق البريطاني “روبرت أورين” أن من الصعب وصف إدوارد سعيد بكلمات محددة، لأنه غير ثابت في مصطلحاته، فيقول تارة إن الشرق هو ابتداع غربي، ويعود ليقول إن المستشرق هو من ساعد المستعمر الإمبريالي للسيطرة على الشرق، وهذا تناقض جذري في طرحه.

انتقام الشريد للوطن.. ثغرات في موضوعية الكاتب

انطلق الكاتب من المقاربات الفلسفية الكبرى ليبين أن نظرة المستشرقين للشرق ماهي إلا صورة مزيفة ومشوهة، وقدم الأدلة من خلال شواهد لمجموعة من المستشرقين الذين كتبوا ودونوا، ثم عارض ذلك المنهج.

ويرى بعض المعارضين أن سعيد كتب كتابه بناء على معاناته الشخصية التي كان لها أثر محوري لاختيار الجغرافيا التي كتب عنها، فقد انحصرت في منطقتين، إحداهما مصر التي نشا فيها، والأخرى فلسطين وطنه، ورأوا أنه أراد الانتقام لما فعله البريطانيون وتسببوا به من أضرار فادحة، وكان هذا من أهم المآخذ على كتابه.

أفواج البرابرة المتربصين.. صورة الإسلام بعدسة المستشرقين

يرى إدوارد سعيد أن الاستشراق أداة لتكوين معلومات عن الشرق، ومن ثم وضعها في كتب أكاديمية جامعية علمية، بحيث يعرف الغرب من هم المشرقيون. واستنتج أنهم نقلوا صورة غير صحيحة، يعتريها التضليل والتشويه، وهذه النظرة جعلت الشرقيين في عيون الغرب شعوبا وضيعة تائهة، وجعلت الأوروبي ينظر إلى نفسه بفوقية واستعلاء.

وعن ذلك يقول: لم يصبح الإسلام رمزا للرعب وللدمار وأفواج ممقوتة من البرابرة الخبثاء بصورة اعتباطية، فبالنسبة لأوروبا كان الإسلام صدمة مأساوية دائمة، فحتى نهاية القرن 17 كان الخطر العثماني المتربص بأوروبا يمثل تهديدا بالنسبة للحضارة المسيحية كلها.

المستشرق الفرنسي “فرانسوا بورغا” ينتقد إدوارد سعيد لاتهامه المستشرقين بشيطنة العرب والدين

ومن جانبه يقول المستشرق الفرنسي “فرانسوا بورغا”: اعتبر إدوارد سعيد أن المغالاة في وصف خصوصيات المنطقة العربية أدى إلى خلق كائن عربي خيالي أكثر من كونه واقعيا، وأن المستشرقين قاموا بشيطنة اللغة العربية والدين الإسلامي والمقاومة الفلسطينية.

راعي الإبل وتاجر الرقيق الخسيس.. عرب السينما

ذكر إدوارد سعيد في كتابه ما نصه: في الأفلام والتلفاز، يرتبط العربي بالفسق والخديعة المتعطشة للدماء، ويظهر منحلا ذا طاقة جنسية مفرطة، وقادرا على المكيدة البارعة والمراوغة، لكنه في جوهره سادي خؤون ومنحط، تاجر رقيق أو راكب إبل أو متلاعب بالأموال أو وغد، متلون حسب الظروف. هذه بعض الأدوار التقليدية للعرب في السينما، وخلف جميع هذه الصور يتربص خطر الجهاد المهدد، والنتيجة هي الخوف من أن يحتل المسلمون أو العرب العالم.

العربي في نظر بعض المستشرقين سادي خؤون ومنحط، تاجر رقيق أو راكب إبل أو متلاعب بالأموال أو وغد

ويعتبر المستشرق “روبرت أورين” أن هذه العدائية لم تأت من المستشرقين، فلترجمة الطبري أو تاريخ المماليك دور في إيصال هذه الفكرة ، كما أن هذه الصورة تأتي من غير المتعلمين ومن السينما ومشجعي كرة القدم الهمجيين.

“الاستشراق أسلوب غربي للسيطرة على الشرق”

يعتقد إدوارد سعيد أن الغرب أصبح لا يرى الشرق إلا من خلال كتب المستشرقين، ولا يقبل معرفة غيرها.

وعن ذلك يقول في كتابه: يمكن للاستشراق أن يناقش أو يحلل، بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق وكيفية التعامل معه، وذلك بإصدار تقارير حوله وإجازة الآراء فيه وإقرارها، ووصفه، وتدريسه والاستقرار فيه، وحكمه.. بالمختصر، الاستشراق أسلوب غربي للسيطرة على الشرق وإعادة هيكلته وامتلاك السيادة عليه.

حياة الفلسطيني في أمركيا دفعت إدوراد سعيد أن يكتب كتابه الاستشراق

ويشرح إدوارد طبيعة التشابك بين المعرفة الأكاديمية تحت اسم الاستشراق، وبين السلطة الاستعمارية وإعطاء المستعمر الذريعة الأخلاقية والعقدية للسيطرة على الشرق وإنقاذه من براثن الجهل والغوغاء، مما يتيح لأوروبا التوسع عالميا ونشر الحضارة والثقافة في أفريقيا وآسيا.

بعثات “نابليون”.. جيش المعرفة في خدمة جيش الاستعمار

يرى معارضو إدوارد سعيد من أمثال المستشرق “روبرت أورين” أن تفكيره غير صحيح، فدراسة الأدب الفرنسي لا يعني محاولة السيطرة على فرنسا، وأن هناك مجموعة صغيرة من المستشرقين خدموا الاستعمار أمثال المستشرق “هرغونيه” و”ماسنيون” و”بروكلمان”، لكنهم كانوا قليلين ومتباعدين.

وفي الحقيقة هناك أدلة متنوعة من خلال التقارير العديدة للمستعمر، وهناك كتب وأفكار للآثار الاستشراقية في الروايات والصور المنتشرة في الفنون البصرية ودور العرض تثبت عكس ذلك.

مول “نابليون بونابرت” البعثات العلمية كي تدرس الشرق وتكتب البحوث التي ستساعد الفرنسيين في حملاتهم العسكرية

يذكر المحاضر بشير العبيدي على سبيل المثال ما خصصه “نابليون بونابرت” لتمويل البعثات العلمية كي تدرس الشرق وتكتب البحوث التي ستساعد الفرنسيين في حملاتهم العسكرية، وهو خير دليل على صدق ما جاء به كتاب إدوارد سعيد، إذ لا تزال آثاره واضحة على المنطقة العربية حتى هذا اليوم.

رؤية الآخر.. فرصة الدراسات الاستشراقية لمراجعة ذاتها

تنوعت وجهات نظر المتخصصين حول كتاب الاستشراق، خاصة بين الأكاديميين، فمنهم من اعتبره من أفضل المساهمات في تقديم الشرق ثقافة ومجتمعا وتراثا، ومنهم من اعتبره مبالغة.

ويرى بشير العبيدي أن من الغربيين من وجد في الكتاب فرصة لمراجعة الذات ومراجعة الأطروحات الغربية التي أنتجت هذه الصورة التمثيلية، ومنهم من عارضه بشدة وهاجمه في الصحافة واتهم منهجيته بأنها غير علمية، وأن عليه احترام الشروط الأكاديمية، وهو ما يبين مدى الألم الذي شعروا به نتيجة دحض أطروحاتهم.

كتّاب غربيون يستعرضون كتاب الاستشراق ويعلقون عليه

أما “ويليام هارت” فكان مأخذه على كتاب إدوارد سعيد أنه توسع كثيرا في تعريفه للاستشراق، لأنه يرجعه  للعصور القديمة البدائية، من خلال التفاعلات التي حدثت بين اليونان والفرس، ويراه تفكيرا عفى عليه الزمان، لأنه يستحضر الماضي في أمر ظهر في تاريخنا المعاصر.

مؤتمر دراسات الشرق الأوسط.. هزيمة النظرية الاستعمارية

من بين أهم منتقدي إدوارد سعيد المؤرخ الأمريكي “برنارد لويس” الذي عرف بكتاباته عن المشرق والعرب، وكان قد مُنح منصبا فخريا من جامعة برنستن، فهو يعتبر أن الكتاب يركز على الجانب السلبي للاستشراق، وأنه غض الطرف عن الجوانب الإيجابية.

المؤرخ الأمريكي “برنارد لويس” العنصري والإمبريالي والذي دحض إدوارد سعيد كل مقولاته

وعن ذلك يقول جوزيف مسعد: سجال كبير قام بين إدوارد و”لويس” في مؤتمر دراسات الشرق الأوسط الذي عُقد في الثمانينيات، وتفوق سعيد في هذه المناظرة بشهادة الجميع، وفيها هدم فيها كل مقولات “برنارد لويس” القائمة على العنصرية والإمبريالية، ولم تعد له أي سلطة داخل الأكاديميات إلا عند الساسة اليمينيين في الولايات المتحدة.

رؤية التفرقة بين المألوف والغريب.. هزة في عالم الاستشراق

يعتقد إدوارد سعيد أن “الاستشراق في نهاية المطاف رؤية سياسية للواقع، رؤية روجت بنيتها للتفرقة بين المألوف (أوروبا ،الغرب، نحن) وبين الغريب (الشرق، المشرق، هم) بمعنى أن هذه الرؤية خُلقت أولا، ثم خدمت بعد ذلك هذين العالمين، فقد عاش الشرقيون في عالمهم، وعشنا “نحن” في عالمنا.

ويقول “ويليام هارت”: كان الكتاب سببا في إعادة توجيه الدراسات الأكاديمية الغربية، وخاصة نحن الذين لدينا كثير من الانتقادات للسياسات الخارجية الأمريكية وكذلك الأوروبية، وأصبح لدينا بعض الأدوات الفكرية التصويرية لدعم انتقاداتنا تلك.

يعتقد إدوارد سعيد أن “الاستشراق رؤية سياسية روجت للتفرقة بين (أوروبا ،الغرب) وبين الغريب (الشرق، المشرق)

بينما يرى “روبرت أورين” أن الكتاب كان له الأثر الكارثي على الدراسات الاستشراقية الغربية، ويوصل إلى نهايات غير واضحة عن مفهوم الاستشراق.

ويرنو كل مشرقي حر إلى أن يتحول كتاب إدوارد سعيد إلى واقع يعيد للمعرفة قيمتها الحقيقية، ويعيد المعنى الحقيقي لقوله تعالى: “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”، وهذا التعارف يقوم على أطروحات العقلاء أمثال إدوارد سعيد.


إعلان