مفيدة التلاتلي.. رحيل سيدة الشاشة التونسية وحارسة النسوية

أحمد القاسمي

رحلت المونتيرة والمخرجة السينمائية التونسية مفيدة التلاتلي عن عمر بلغ 73 عاما بعد مسيرة ثرية، خولّت لها أن تُهدي إلى السينما العربية أحد أقوى أفلامها على مدار تاريخها، وهو “صمت القصور” سنة 1994، وأن تكتسب سمعة تؤهلها لتوصف بسيدة الشاشة التونسية.

ولدت المخرجة مفيدة التلاتلي في الضاحية الشمالية للعاصمة التونسية سيدي بوسعيد سنة 1947، وحازت على دبلوم المونتاج بعد دراسات سينمائية عُليا في باريس. وعلى مدار نحو ثلاثين سنة تقريبا من العمل في السينما التونسية، وعلى مدار تجربتها الإخراجية؛ تبنت خط السينما المعاصرة التي تبحث عن اللغة السينمائية المتفرّدة، لتطرح من خلالها قضايا الإنسان المعاصر عامة، وقضايا المرأة على وجه أخصّ.

 

“في بلاد الطررني”.. أول خطوة إلى السينما التونسي

مثّل فيلم “في بلاد الطررنّي” الذي عرض للعموم سنة 1973 الخطوة الأولى لمفيدة التلاتلي في السينما التونسية، وهو مجموعة من الأفلام القصيرة المقتبسة عن ثلاثة أقاصيص من مجموعة “سهرت منه الليالي” للقاص علي الدوعاجي، وقد  أخرج حمودة بن حليمة جزء “المصباح المظلم”، ثم أخرج الهادي بن خليفة جزء “الزيارة”، بينما أخرج فريد بوغدير “نزهة رائقة”.

ثم عملت سنة 1974 في فيلم “سجنان” الذي أخرجه عبد اللطيف بن عمار، وتدور أحداثه ضمن المراحل الأخيرة من نضال الشعب التونسي لنيل استقلاله، حين صعّد المقاومون عملياتهم بداية من 1952 ضد المستعمر الفرنسي، وتواترت الإضرابات التي أربكته، فواجهها بإيقاف رموز النضال الوطني ومحاكمتهم.

وكان لها تعاون مع المخرج الجزائري مرزاق علواش سنة 1976، فقامت بمونتاج فيلمه “عمر قتلاتو الرجلة” الذي يعرض وضعية الشاب عُمر ذات المفارقات، فهو الموظف الحكومي المزهو برجولته، وهو الشاب المحروم الذي يعيش في شقة ضيقة مع أفراد عائلته، ويقضي أوقاته ضجرا عاجزا عن بناء علاقات طبيعية مع المرأة، فيجد عوضا في مشاهدة رياضة كرة القدم وجمع الأغاني الموسيقية.

وشارك الفيلم في مهرجان موسكو السينمائي الدولي العاشر، وفاز بالجائزة الفضية.

 

“مجنون ليلى”.. ألق في عصر السينما الذهبي

من الأفلام المهمة في تاريخ السينما التونسية التي تولت مفيدة التلاتلي مونتاجها فيلم “الهائمون” (1984)، وهو الفيلم المميز الذي يشكل بداية مسار مخرج السينما الشعرية الناصر خمير، فضلا عن فيلم “عرب” (1986) المقتبس من مسرحية بالعنوان نفسه، وهو من ﺇﺧﺮاﺝ الفاضل الجزيري والفاضل الجعايبي. وكذلك فيلم “مجنون ليلى” (1988) الذي يقتبس قصة عشق قيس بن الملوح لابنة عمه ليلى العامرية عن رواية الكاتب الفرنسي “أندريه ميكيل”.

كما صاحبت أغلب أفلام التسعينيات التي صنعت العصر الذهبي للسينما التونسية، مثل “عصفور سطح” لفريد بوغدير (1990)، و”الززوات” للنوري بوزيد (1992).

ويعرف المونتاج بالكتابة الثانية للأفلام بعد الكتابة الأولى، وغالبا ما ينتهي بصاحبه إلى الجلوس على كرسيّ الإخراج. كذلك شأن عظماء السينما العالمية من أمثال السوفياتيين “سيرغي أزينشتاين” و”أندريه تاركوفسكي”، وكبار السينما العربية أمثال صلاح أبو سيف وكمال الشيخ. وكذلك كان شأن مفيدة التلاتلي أيضا، فقد غيرت موقعها بعد نحو 22 سنة من الجلوس خلف طاولة المونتاج، إلى الجلوس على كرسي الإخراج، ومكنها ذلك من أن تنحت مسيرة معتبرة.

 

“صمت القصور”.. انتهاك أجساد النساء في عصر البايات

لاقى أول أفلام مفيدة التلاتلي “صمت القصور” نجاحا باهرا، ففضلا عن الأثر الجيد الذي تركه في نفوس النقاد وترجمته كتاباتهم الغزيرة المشيدة به؛ فإنه حاز على جائزة الكاميرا الذهبية من مهرجان “كان” السينمائي الدولي عام 1994، وعلى التانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية في السنة ذاتها، واختيرت هند صبري كأفضل ممثلة، وكان بداية رحلتها في عالم النجومية السينمائية.

مثّلت المفارقة في العنوان بين الصمت والقصور مدخلا لاختراق عالم منيع يتكتم بين جدرانه الحصينة على أشد أنواع القهر الذي تتعرض له النساء، فاتخذت من خديجة الخادم التي لا تكاد تتذمر من طفولتها بين أسرتها التي قضت حياتها في أحد قصور البايات (حكام تونس من القرن السابع عشر حتى قيام الجمهورية سنة 1957)؛ نموذجا للانتهاك الجسدي الذي تعاني منه النساء اللواتي يعتبرن ملكا مشاعا لرجال القصر. فيُجبرن على معاشرة رجال القصر، ويجبرهن المجتمع -الحريص على أخلاق لا تأخذ معاناة المرأة بعين الاعتبار- لاحقا على تدبر أمورهن للتخلص من الأجنة التي تسكن أحشاءهن.

وكان لا بد أن تدفع خديجة ضريبة جمالها الذي يثير سيّد علي أحد أمراء القصر، ولأنها لا تريد لما في بطنها أن يعاود محنة ابنتها علياء فيعيش ذل اليتم والعار وافتقاد النسب؛ تجهض نفسها دون متابعة طبيّة فيذهب النزيف بروحها وتترك خلفها ابنتها علياء دون عائل سوى ما تجود به عائدات الحفلات التي تحييها لعذوبة في صوتها.

أمال الهذيلي بدور خديجة وهند صبري بدور علياء، وكلاهما شكلتا أنموذجا لمحنة المرأة التي تتكم عليها “جدران القصور”

 

علياء الحبلى.. هكذا يكرر التاريخ نفسه

وتلتقي علياء بالمعلم لطفي الملاحق من قبل المستعمر لعمله الوطني والمحتمي بدهاليز القصر بتدبير من أحد العمال، فيعلمها الكتابة والقراءة، وتتحول علاقتهما إلى عشق يخلّف جنينا يرفض لطفي الاعتراف به أو الزواج من أمه، وترفض علياء التخلص منه حتى لا تعيد مأساة أمها.

ولم ترد الأحداث على هذا الانتظام الذي يوحي به عرضنا، فقد جاء خطّ الزمن مهشما يحاكي حالة الضياع التي تعيشها علياء، ويجسد انكسارها. فيبدأ بها وهي تزور القصر للتعزية في موت سيد علي والدها في جلية الأمر الذي لم يجد الجرأة للاعتراف بها رغم حنوه عليها، ثم تهجم عليها الذكريات، وتأخذها جيئة وذهابا بين الماضي والحاضر كمساحة زجاج. فتوردها كاميرا مفيدة التلاتلي في حالة تيه وذهول فاقدة لسيطرتها على الأحداث، ولقدرتها على ردّ الفعل. ويغدو العالم من حولها غامضا ملتبسا يدعوها باستمرار إلى فك شفرته.

هكذا تنخرط هذه السينما في موجة السينما المعاصرة، فتتراجع منها المغامرة والحركة وتحيل على ما تعده السينما الكلاسيكية مبتذلا، وتخترق أحلام الشخصيات وهلوساتها، وتغرق في التأملات، فتمطّط اللقطة عبر الصمت والفراغ، وتنتج وضعيات بصريّة سمعيّة صرفة. فعلياء الرّاهن ما عادت قادرة على الغناء في الحفلات العامة، أو التواصل مع لطفي الذي يقاسمها حياتها دون أن يرتبط بها رسميا. وأحداث الفقد التي تطوقها بين ضرورةٍ ملحّة تدعوها للتخلّص من الجنين، وخبر ينعى الأمير سيدي علي تلقي بها في أتون ماضيها بشكل متواتر، فتظل ذاكرتها تعيدها إلى الموضوع نفسه، ثم تعيد الكرّة ليبدأ من جديد، وبعودتها يتداخل الذاتي بالموضوعي، والخيالي بالواقعي، والمادي بالذهني.

 

“موسم الرجال”.. صناديق العوالم المتداخلة

هل تستحضر مفيدة التلاتلي خبر الحجاج بن يوسف الثقفي وصندوقه الذي غنم عن كسرى؟ صندوق يُفتح، فإذا بداخله صندوق آخر ينفتح على صندوق جديد، حتى يصبح مثار فتنة كل يريد حيازته ليستأثر بما فيه، ويفتحه صاحب السبق، فإذا به ورق مكتوب عليه “من أراد أن تطول لحيته فليمشطها إلى الأسفل”.

هل يتعيّن على المتفرّج أن يستدعي هذا النص وهو في عالم آخر غير عالم الأخبار الأدبية؟ لم يستبدّ بي هذا الخبر كلّما شاهدت الفيلم؟ قد تكون الذاكرة وجدت في تلك العلاقات الانضمامية جامعا مشتركا بين الأثرين، بين صناديق يتكتّم بعضها على بعض في النصّ، وأمكنة ينغلق بعضها على بعض في “موسم الرجال”، لينغلق آخرها على أجساد أنثوية كاتما صداها متنكرا لصوت الأنوثة فيها .

جزيرة جربة.. صورة العزلة والوحدة

أول الصناديق جزيرة جربة، تلك القلعة المحاصرة بالمياه من كل صوب، أو هي -كما جاء على لسان يونس أحد شخصيات العمل- قارب صغير طافح فوق المياه، وهي مكان معزول عن محيطه تلتقطه كاميرا مفيدة التلاتلي بإستراتيجيتها الخاصة، فتغيّب عمدا ما نعرف عنها من وجه فلكلوري قوامه صناعة الفخار، أو الفنون الشعبية الساحرة التي تجعل الجزيرة مقصد طالبي الفتنة وسحر السياحة.

كل هذه العناصر تغيّب لتنوب عنها صورة الوحدة والعزلة.

وينفتح الصندوق الخارجي أمام عدسة الكاميرا فإذا المشاهد أمام صندوق جديد: المنزل، قلعة قائمة وعالم مستقل يسيّجه النخيل بقاماته المتشامخة، فيزيد من عزلته عن العالم الخارجي.

تسهم الكاميرا نفسها في إرساء هذه الغربة، فقليلا ما تتجه إلى الخارج، ونادرا ما تدرج لقطات عامة أو عريضة، وكثيرا ما تنصرف إلى الداخل مجسمة لقطات كبيرة تركّز على تفاصيل الوجوه الشاحبة المرهقة (عيشة، زينب..)، أو على نظرات الحماة الصارمة التي تتخلى عن البعد اللطيف لجنسها، لتتقمص دورا ذكوريا يُسلّط صنوفا من القهر على المرأة، ويحصي عليها حركاتها وسكناتها خوفا من خروج هذه الأجساد الخطيرة عن دائرة السيطرة ووقوع المحظور.

لقطة من فيلم “موسم الرجال”، حيث النساء يتواجدن في مياه جزيرة جربة التي تحيط القلعة من كل حدب وصوب

 

خطيئة الزواج.. زنزانة تحكم طوقها على النزلاء

ليس الداخل هذا غير جملة من الصناديق الفرعية، غرف ضيقة أو زنزانات تحكم الطوق على نزيلاتها، وليست النزيلات غير نسوة خطيئتهن الوحيدة أجسادهن الرخوة الناعمة، فزينب التي لا تعرف لزوجها وجها أعماها الخجل في الليلة الأولى للزفاف، وأعماها رحيله إلى الخارج في اليوم الثاني منه، وهي اليوم تختزل وجودها في انتظار موسم الرجال، علّه يقذف به بين أحضانها، لكن الموسم أتى ولم يأت الزوج.

أما عيشة التي يتركها زوجها سعيد لتختنق في قبرها ويرحل إلى العاصمة، فإن خطيئتها تتحول إلى خطايا، وتتسع دائرة الدمل، وتسفر عن جسدين رخوين هما ابنتاها مريم وآمنة، وتصدم رغبتها في التحرر من هذا السجن بضرورة التكفير عن ذنبها بإنجاب الذكر، حينها فقط يمكنها أن تغادر القلعة وتلتحق بزوجها في العاصمة.

هجر الأنوثة.. عبودية عرفية تحت عين الرقيب

لقد كان فضاء الأحداث في “موسم الرجال” جملة من الحلقات تضيق شيئا فشيئا، من الجزيرة إلى المنزل إلى الغرف؛ بؤرة الطوق الذي يضربه الرجل على المرأة، فيحاصر وجودها بأن يصادر حقها في الرغبة أولا، ويجعل وجودها حكرا على تلبية رغباته هو، فتُرغم كرها على هجر أنوثتها واستقالتها منها طيلة السنة، ثم تتصالح معها شهرا حين ترميها الرياح في موسم الرجال بفحول صادية. وأن يصادر حقها في ملكية جسدها ثانيا، فتكون الملاءة صيفا شتاء حجابا لفتنته، وتُسلط الحماة رقيبا يعاين حركات النسوة في صمت ويوزع أوامره ونواهيه في ثقة وهدوء.

وكان لا بد للمرأة أن تسعى إلى كسر الطوق وتحقيق رغبتها في التحرر من هذا السجن، أليس حلم عيشة أن تخرج من جربة؟ غير أن للحرية ثمنها وكان لا بد لها أن تستوفي شرط التحرر بأن تهب لزوجها الولد الذكر. حينها فقط يمكنها أن تخرج من المتاهة، وأن تتخلص من ظل الحماة الثقيل الجاثم على صدرها، وشاءت الأقضية أن يكون المولود ذكرا، وكان الانعتاق الأول سفرا إلى العاصمة، إلى عالم الحرية، ذلك الفردوس المفقود.

لكنّ عملية التحرر هذه كانت في واقع الأمر وهما من صُنع خيالات عيشة، وتكريسا لعبوديتها وتزكية لدونية المرأة مقارنة بالرجل، وكأن عليها أن تتحمل تبعات وهمها، فكان جناحها الذي حلّقت به كسيرا، وبدل أن يحلق بها في سماء الحرية خذلها ليتركها تقع إلى الحضيض، ابن معاق ذهنيا يسبب لها الإيلام أكثر مما يغذي فيها الشعور بغريزة الأمومة، وأسرة مفككة، وزوج كاره لمنزله مغادرا له، وكان الارتداد عودة إلى المعزل من جديد في انتظار عملية تحرر حقيقي.

مفيدة التلاتلي تؤدي اليمين الدستورية بعد تعيينها وزيرة للثقافة التونسية عام 2011

 

كفاح الاستعمار واستعمار المرأة.. خلخلة نقدية للعقلية الذكورية

لقد وهبت مفيدة التلاتلي شاشتها لقضايا المرأة، فعرضت وجوها من معاناتها كثيرا ما تخفى عنا نحن الرجال في زخم الحياة اليومية، فتميزت معالجتها بحسّها المرهف في الدفاع عن حياة المرأة الخاصة، ونقدها الشديد للتصورات التقليدية الذكورية التي تجعلها عنصرا ملحقا بالرجل يقتصر وجوده على الاستجابة لنزواته، فكانت قضيتا خديجة وابنتها علياء بحجم قضية الوطن مسلوب الحرية.

ويلتقي الخطان عندما تُدعى علياء لتصعد من دهاليز الخدم المعتمة إلى قاعة الحفلات في القصر لتحيِي حفل زفاف سارة صديقتها التي تعيش في العالم العلوي؛ عالم الأنوار والبهجة والثراء. وعلى خلاف ما يقتضي السياق تترك أغاني أم كلثوم التي تجيدها بطريقة باهرة، لتطلق حنجرتها بأغنية وطنية تنشد الحرية، وتسبب إحراجا بالغا للطبقة السياسية الخانعة للمستعمر حينها.

ثم تعرض بإبداع مواطن الخلل التي تجعل الاستقلال منقوصا، فلطفي الثوري ضد الاستعمار والقهر يستبيح جسد علياء، ثم يرفض الاقتران بها لكونها مجهولة السبب، فيكون تقليبا آخر للعقلية الذكورية التي ميزت فترة الاستعمار، وأمارة على أنّ التحديث في أوطاننا اقتصر على القشرة الخارجية، أما اللب فيظل هو نفسه.

المخرجة التونسية مفيدة التلاتلي تحصل على جائزة فخرية خلال حفل افتتاح مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر الأبيض المتوسط عام 2010

 

موت الرجل.. لحظة الولادة الحقيقية للمرأة

في “موسم الرجال” تحافظ مفيدة التلاتلي على تميّز لغتها السينمائية، لتؤكد ما طال فيلمها “صمت القصور” من صيت، وتُسهم في طرح موضوع عُزلة المرأة عن جسدها بفعل عوامل اجتماعية ثقافية بجلاء وعمق، ويكون للكاميرا من المرونة ما يمكنها من إيراد حادثين مفارقين في ذات اللحظة تقريبا، وبالصوت نفسه، بحيث يتغير الإطار في نهاية الفيلم ولا يتغير صوت الزغاريد.

أما الزغاريد الأولى فعلامة على فرح موهوم لولادة الحرية للأم عيشة مع ولادة عزيز، لكن سريعا ما نكتشف أن ولادة الحرية هذه ولادة مشوهة تكبل الأم بإعاقة ولدها أكثر مما تطلقها.

تتغير الصورة في الإطار ويتغير الزمن ولا يتغير من الصوت سوى دلالته على الفرح الحقيقي، والولادة السوية هذه المرة مع شفاء مريم من أعصابها، ومن خوفها المرضي من الجماع، واستعادتها لعافيتها جسدا أنثويا قادرا على التواصل مع محيطه وعلى الشعور باللذة، وتكون هذه اللحظة هي الولادة الحقيقية للمرأة، فتتخلص من عُقد الماضي، لكن ولادة الأنوثة في “موسم الرجال” لا تكون إلا بموت الرجل وتكبيله، فحولته حاضرا وماضيا حتى يعيش الذل التي كانت تعيشه المرأة في ظل ثقافة ذكورية حاضرا مع عزيز المعاق الذي ينبري خلف آلة النسج التقليدية، ليبني سجنه كما كانت أمه تفعل زمنا ماضيا مع عم علي الشيخ الخرف المقعد الذي لا طاقة له على الفعل أو الحراك سوى النظر بشهوانية إلى كنائنه.

 

أفلام التلاتلي.. تنظير سينمائي للفكر النسوي

على هذا النحو الذي سبق تكون سينما مفيدة التلاتلي امتدادا للفكر النسوي الذي يرى في الرجل عدوا للمرأة، وعائقا دون طموحاتها، وهي النزعة التي ميّزت عددا من دراسات النوع الاجتماعي (الدراسات الجندرية) التي تطرقت إلى طرح قضايا المرأة، فلم تر في الرجل غير عائق يحد من طموحها، وذلك بسبب رغبته المرضية في تملكها.

يتأكد هذا الاتجاه أكثر في فيلمها “نادية وسارة”، فتنقل من الوطن الفاقد للحرية بفعل الاستعمار إلى المرأة سجينة التقاليد إلى المرأة سجينة جسدها وتحولاته الفيزيولوجية. للأسف فبهذا الانتقال يأخذ الأفق في أفلامها في الانحسار شيئا فشيئا، فقضاياها ما انفكت تتجه أكثر نحو الفردي الخاص، والقيمة الفنية  لأفلامها ما انفكت تتراجع.

وبعد أن اختيرت رائعتها “صمت القصور” من قبل النقاد ضمن أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما العربية؛ قوبل فيلم “موسم الرجال” ببرود، ثم تجاهل النقاد فيلمها الأخير “نادية وسارة” الذي يعرض محنة نادية أستاذة الفرنسية وهي تعيش سن اليأس (انقطاع الحيض)، وتعاني مخلفات نفسية عميقة بسبب شعورها بعطالة جسدها وقلة جدواه. فكان الأفق في هذه السينما يضيق ثم يتلاشى، لتصمت سينمائيا منذ 2004، لكن حسبها أن صخب “صمت القصور” سيبقى مدوّيا يجعل النقد يلهج باسمها.


إعلان