مولانا وحيد الدين خان.. فارس الدعوة الهندي الذي سحق أفاعي الإلحاد
عن 96 سنة مضى وحيد الدين خان بعد أن اشتعل الرأس منه شيبا ووهن العظم، ورسمت تسعة عقود ونصف خارطة العمر على ذلك الوجه الأسمر النحيل، وفي عينيه رغم الشيخوخة والمرض، ظل يشع بريق الحب والذكاء، ووهج الدعوة الإسلامية التي نذر لها حياته، منذ طفولة يراعه وشباب مداده إلى أن غادر الدنيا على أجنحة السادسة والتسعين.
وبرحيل وحيد الدين خان تفقد شبه القارة الهندية وجهها الإسلامي الذي آمن بالحب والسلام، وسخر قلمه وجهاده المعرفي لحرب مضادة للتطرف وغارة شعواء على مصادر العنف.
في بلدة أعظم غاره (Azamgarh)، ولد وحيد الدين سنة 1925 من القرن الماضي، وقد فقد والده وهو ابن أربع حجج، فعاش حياته يتيما في أسرة ذات تقاليد إسلامية عريقة في التعليم والتربية والدعوة.
في شبيبته كان شبه القارة الهندية يمور بأحداث جسام، وتاريخ يتشكل من النضال ضد المستعمر الإنجليزي الظالم، كانت فلسفة عدم العنف التي بشر بها المهاتما غاندي قد ألهمت كثيرا من الأفكار الإيجابية في العالم، وقد وجد وحيد الدين خان أن فكر عدم العنف عميق جدا في الأصول والثقافة الإسلامية، فجعل من هذا المنحى الفكري أهم مشروع فكري في حياته، فكان يقف شامخا إلى جانب مشروع التصدي بالفكر الفلسفي لمنابع الإلحاد الفلسفية.
وحيد الدين.. ابن الجامعات العربية في الهند
أخذ وحيد الدين معارفه الإسلامية الأولى في جامعة الإصلاح العربية في الهند التي كانت مهدا إسلاميا لآلاف من الطلاب ممن تفرقت بهم شعب الحياة، لكن كان وحيد الدين خان أشهر من مر من هنالك، ومن مدرسة الإصلاح العربية، بدأت رحلة أخرى من رحلات البحث، كان قوامها المطالعة التي صادفت شغفا في نفس الرجل ونهما إلى المطالعة وذكاء مفرطا.
ساعدت الرجل في مسيرته معرفة إسلامية بالأصول والفروع والقيم الإسلامية، معرفة تمنحه رتبة عالية بين علماء الإسلام في الهند، وبموجبها حمل لقب مولانا الذي يحمله العلماء الأجلاء في تلك المنطقة من أرض الإسلام، ومما زاد تلك الثقافة عمقا تمكنه من ناصية اللغة الإنجليزية، ودراسته العميقة للفلسفة الغربية بمختلف مدراسها، وبين هذين المشربين سار الرجل يمده بحران معرفيان يزيح زبد أحدهما بدرر الآخر.
قبل هذا وذاك كان وحيد الدين أحد أبرز علماء الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية (باكستان والهند) التي أسسها الشيخ أبو الأعلى المودودي، وكانت لسان الدين ومحضن الهوية الإسلامية في بلاد تتعدد فيها الألسنة والأديان والنحل.
وقد عمل وحيد الدين خان في لجنة التأليف في الجماعة سنوات عديدة، قبل أن يلتحق أيضا بلجنة التأليف قلما مبهرا في المجمع الإسلامي التابع لجامعة ندوة العلماء في لكناو، ولم تكن ندوة العلماء مجرد اسم عابر في تاريخ الهند المسلمة المعاصرة، بل قيل عنها أكثر من مرة إنها المؤسسة الوحيدة التي تجتمع فيها جودة المناهج وموسوعية الأساتذة ونباهة الطلاب.
ولأن رحلة المداد والبحث والتنقيب كانت قدر وحيد الدين، فقد اختير أيضا رئيس تحرير لمجلة “الجمعية” الأسبوعية في دلهي منتصف الستينيات، وأمضى في تلك المهمة سبع سنوات، أنجزت فيها الجمعية، كتبا وبحوثا تأسيسية في تاريخ المعرفة الإسلامية المعاصرة، أو علم الكلام الجديد، أو الثورة الإسلامية على الإلحاد.
وفي السبعينيات أنشأ مولانا وحيد خان مجلة الرسالة التي غادرها مؤسسها وهي في عقدها الخامس، بعد أن أصبحت واحدة من أهم المجلات والمؤسسات العلمية في شبه القارة الهندية.
عالم الكتب.. “أجد متعة ولذة مع هذا التعب والضعف”
في مكتبة الراحل وحيد الدين خان أكثر من خمسين كتابا، في مختلف فنون المعرفة الإسلامية، وخصوصا حقلي الإسناد العقلي للإيمان بالله، وحقل التصدي للعنف والتطرف، وفتح آفاق الحياة أمام سكان الأرض ليعيشوا في سلام وإن اختلفت أديانهم ونحلهم الثقافية والفكرية.
وليست هذه الكتب الخمسون كل ما دوّن الراحل في مسيرته المعرفية التي أخذت من عمره أكثر من ستين سنة، فهنالك مئات المقالات والأبحاث والدراسات والمحاضرات والدروس العلمية التي شغلت الرجل، وجعلته رجل الإيمان ورفيق القلم الدائب.
أنفق الراحل كثيرا من وقته بين رفوف المكتبات قارئا ومنقبا وباحثا عن الحقيقة، ويروي في الصفحات الأولى من كتابه “خطأ في التفسير” جزءا من علاقته مع الكتب، وكيف كان يستعين ببعض المشاهد التخيلية في مناجاته للكتب ومؤلفيها على تحمل لأواء التعب والنصب والجوع والعطش في أروقة المكتبات، يقول: وأذكر هناك ما حدث لي في ۷ مارس ۱۹۹۳م، حيث كنت منشغلا في تلك الأيام بتحقيق الأدلة التي اعتمد عليها صاحب كتاب “المصطلحات الأربعة في القرآن”، كنت في القاعة الوسطى من المكتبة في “أعظم غاره”، وتحيط بي من كل جانب كتب التفسير والحديث والفقه والتاريخ وعلم الكلام واللغة، وكان الوقت وقت الظهيرة، حيث أغلقت أبواب المكتبة الخارجية، وانصرف الناس إلى منازلهم، وأنا في عزلة تامة مع الكتب، منهمك في المطالعة، حتى شعرت وكأنني بلا دم، وعندما قمت لأرد تفسير ابن جرير الطبري وأتناول كتابا آخر، أصابني دوار لشدة ضعفي، لا أدري من أين أخذت الكتاب، هذه الغرفة أعرفها تماما منذ زمن بعيد، ولكني بقيت قائما لا أدري أين مكان الكتاب، فلما ذهب الدوار عني عرفت أن الرف المطلوب هو في هذا الاتجاه. وبعد برهة من الزمن، وحين عاد لي وعيي شعرت أنني قد قطعت شوطا بعيدا أتبادل الآراء مع السلف في هذا الصدد، وأنني تعبت سيرا، ولكني أجد متعة ولذة مع هذا التعب والضعف، لقد عرفت رأيهم، والآن أنا في موقف يؤهلني للرد على هذا الاتهام الموجه إليهم بكل ثقة، وخيل إلى أن هذه الرفوف وما فيها من كتب هي أرواح السلف واقفة ورائي، وأنا أخوض غمار الدفاع عنها رغم ضعفي وقلة حيلتي. وبهذا المشهد التخيلي نسيت التعب والجوع والعطش. وعدت مرة ثانية إلى المطالعة، واستمر بي الوقت حتى المغرب.
انتقال الإسلام من الدفاع إلى التحدي.. سلاح التأليف
تظهر كتب مولانا وحيد الدين خان -سواء تلك التي ترجمت إلى اللغة العربية أو التي بقيت على حالها الأصلي بالأردية أو الإنجليزية- دائرة معارف إسلامية متعددة، ظلت مشغولة بهموم الدعوة الإسلامية، والانتقال بالإسلام من موقع الدفاع إلى منصات التحدي، ومن بين هذه الكتب:
1. الإسلام يتحدى.
2. الدين في مواجهة العلم.
3. حكمة الدين.
4. تجديد علوم الدين.
5. المسلمون بين الماضي والحاضر والمستقبل.
6. خواطر وعبر.
“الإسلام يتحدى”.. ضربة من الداخل تهز أركان الإلحاد
يعتبر كتاب “الإسلام يتحدى” أهم سفر معرفي ألفه الراحل وحيد الدين خان، لكنه أيضا أهم كتاب مترجم إلى العربية من تراثه، وقد ترك الكتاب صدى قويا في نفوس ملايين المسلمين الذين قرأوه بلغات متعددة، كما أعاد كثيرا من العقول الشاردة إلى منهل الإسلام بعد رحلة مع الإلحاد.
يكشف الكتاب عمق المنهج الفكري لوحيد الدين خان، فقد صدره برأيه ورؤيته لعالم اليوم، حيث اعتبره عالم الماديات الذي يعيش أعتى ثورة للإلحاد.
وفي هذا الكتاب أعرب الرجل بوضوح عن عجز علم الكلام القديم عن مواجهة الإلحاديات المعاصرة التي تقدم نفسها في ثوب متماسك براق، جذاب للعقول التائهة التي لا تكلف نفسها الغوص في صميم المعرفة، ولا تشريح المقولات الفلسفية بالأدوات الكفيلة بتفكيكها بعمق معرفي.
وقد احتاج الراجل إلى قراءات هائلة في الفكر المادي الغربي، وخصوصا مؤلفات الصف الأمامي من مفكريه، قبل أن يكتب ناقدا ومتحديا له، كما قرأ بتمعن وتمكن مؤلفات “برتراند راسل” الذي يمثل أحد رؤوس الإلحاد الفلسفي في العصر الحديث.
قلب الطاولة.. إثبات الألوهية بحجج الإلحاد
في دائرة معارف متعددة بنى وحيد خان نظريته المعروفة التي اهتمت بإثبات وجود الله تعالى انطلاقا من المعارف المختلفة، ومن السبر العقلي الذي ينقض الحجة الإلحادية بنظر فلسفي لا يمكن للعقول السليمة ولا المنصفة أن تصدف عنه ذات يمين أو شمال.
وقد حدد وحيد الدين خان قضيته في مواجهة الإلحاد بوضوح في مقال كتبه في مجلته الأسبوعية “الجمعية” جاء فيه: إن المشكلات التي يواجهها الإسلام في هذا العصر منها ما هو علمي يوجه إليه بلغة العلم ومصطلحاته، ولذلك كان لزاما أن نضع إجاباتنا في مواجهة هذه الحملات المسعورة بنفس المصطلحات العقلية والعلمية التي يستخدمها المعارضون للدين. وما زال هذا الميدان منذ أمد طويل مجالا لنشاطي واهتمامي حتى كان آخر ما كتبت: “الإسلام يتحدى”.
ولقد أثنى على كتاب “الإسلام يتحدى” مفكرون متعددون، فاعتبره عبد الصبور شاهين -الذي تولى مراجعته وتقديمه نسخته العربية- دليلا صادقا على تفرد مولانا وحيد الدين خان، إذ يقول: وحسبنا أن نقرأ هذا الكتاب الجديد لندرك أنه يمثل عقلا وثقافة ومنهجا يختلف به مؤلفه عن جميع من عرفنا من الكتاب المعاصرين.
وقد أسس وحيد الدين خان في كتابه “الإسلام يتحدى” علم كلام جديد مناسب للعصر وفق ما يرى الدكتور محمد عمارة، وكانت من تميزه الفكري أنه استخدم الحجج والقضايا العقلية الإلحادية، ليكشف زيفها وتناقضها، ومن ثم يقلبها إلى قضايا عقلية شاهدة للإله الواحد بالخلق والتشريع.
نظرية الحاكمية.. حين افترقت طرق الشيخين
يصنف وحيد الدين خان ضمن المنصة الأولى في علماء الهند، وكثيرا ما يرد اسمه مقرونا بشيخي القارة الهندية المشهورين، وهما أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي، لكن وحيد الدين اختلف لاحقا -بعد عضوية استمرت نحو 15 عاما في الجماعة الإسلامية- مع بعض أطروحات وأفكار الرجلين، بل إنه وقف بقوة في وجه فكرة الحاكمية، معتبرا أنها فكرة جديدة لا دليل عليها من نصوص الشريعة الإسلامية.
لقد بلور وحيد الدين خطابا فكريا ناقدا للحاكمية، وخصوصا لدى أبي الأعلى المودودي، وسيد قطب، الذي ذهب في الحاكمية أبعد مما ذهب إليه مؤسسها المودودي، وفق ما يرى وحيد خان، وقوام نقده لفكرة الحاكمية أنها تمثل ردا سياسيا لا حضاريا على النكسات التي حلت بالمسلمين عبر تاريخهم، وتحديدا سقوط آخر كيان سياسي يجمع الأمة المسلمة (الخلافة الإسلامية العثمانية)، وأنها تمثل تفسيرا جديدا للإسلام يختصره في قالب السياسة، ويؤمن بأن تأسيس الدولة الإسلامية هو الغاية الأساسية من إنزال الوحي وإرسال الرسل، سعيا لتحقيق ما سماه المودودي الانقلاب الإسلامي.
وقد كان وحيد الدين خان أول من رد على المودودي في كتابه الذي صدر في ستينيات القرن المنصرم بعنوان “خطأ في التفسير”.
خصص وحيد الدين خان الباب الأول من كتابه “خطأ في التفسير” للحوارات والرسائل المتبادلة بينه وبين المودودي من جهة، وبينه وبين أبو الحسن الندوي من جهة أخرى، بشأن رؤيته لفكرة الحاكمية وملاحظاته بشكل عام على “تصور الدين عند المودودي”، وهي المخاطبات التي لم تصل إلى نتيجة، وقرر خان على ضوء ذلك نشر كتابه “خطأ في التفسير”، التي يبسط فيه اعتراضاته وملاحظاته التي سعى من خلالها لنقض فكرة الحاكمية.
وخصص الباب الثاني لنقاش مستفيض لأسس نظرية الحاكمية المبنية عليها التي فصلها المودودي في كتابه “المصطلحات الأربعة في القرآن” وغيره من كتبه ودراساته.
“مخلوق ذو روح وذو إرادة”.. حيثيات العلاقة بين الله والعبد
يتوقف خان عند قول المودودي: “إن الإسلام هو نظام الحياة الذي يربط جميع قضايا الحياة الفردية والاجتماعية وما بعد الطبيعية، وهو يعالج جميع تلك القضايا بما يطابق العقل والفطرة”.
ويعلق على ذلك بالقول: إنه ليس من الخطأ أن نقول إن الإسلام نظام للحياة، ولكن رفع النظام حتى يصبح هو الجامع بين كل أجزاء الدين، فذلك هو الخطأ بعينه. إن هذا الفكر يدرس الدين في ضوء الفكرة المسبقة القائلة إن الدين هو نظام للحياة. إن الفكرة الجامعة لدى أنصار هذا الفكر هي أن “النظام” هو أصل المجموعة الدينية.. بينما الأصل في الدين هو كونه عنوان العلاقة بين الرب وعبده، إن الدين ليس محض نظام دستوري قانوني وسياسي على غرار سائر الأنظمة الدنيوية، بل هو مظهر للعلاقة النفسية للعبد مع الله. إن الدين عند تنفيذه يشمل عناصر كثيرة يمكن أن يطلق على مجموعتها “نظام الحياة”. ولكن هذا مظهر من مظاهر الدين وحقيقة من حقائقه. إنها حيثية إضافية من حيثيات الدين، وليست هي الحيثية الأساسية.
ثم يربط بين هذه النظرية ونظرية القائلين باجتماعية الإنسان مع إهمال غيرها من سماته قائلا: إن الذين حاولوا دراسة الدين في ضوء فكرة النظام قد وقعوا في نفس الخطأ الذي وقع فيه الذين أقاموا لدراسة الإنسان النظرية القائلة: “إن الإنسان حيوان اجتماعي”، إنه مما لا شك فيه أن للإنسان وجوها اجتماعية في حياته العامة، ولكن هذه الحيثية ليست هي الحيثية الأساسية للإنسان، فكونه اجتماعيا مظهر واحد من المظاهر التي يكتمل بها الوجود الإنساني. إن الحيثية الأساسية للإنسان أنه مخلوق ذو روح وذو إرادة، أما الحيثيات الأخرى -من اجتماعية وغيرها- فكلها خارجة من بطن هذه الحيثية الأساسية.
تقسيم المهام.. عودة أجزاء الدين إلى مواقعها
اختلف وحيد الدين خان مع المودودي ونقض ما ذهب إليه في فكرة اعتبار نظام الحياة هو أصل المجموعة الدينية الجامع لها، ولكن ما هو الأثر المترتب على هذا التصور للدين الذي يعتبره خان خاطئا وقاصرا؟
يسهب الرجل عبر صفحات الكتاب -التي تقترب في عددها من 330 صفحة- في نقض عرى هذا التصور وتقديم ما يصفه بالبديل وبالتصور الحقيقي للإسلام، قائلا: إن جميع هذه الأخطاء قد وقع فيها التفسير الآنف الذكر للإسلام. لقد جعل هذا التفسير النظام محور التصور الديني وحكمته الجامعة، ولذلك أصبح النظام الحيثية الأولى للإسلام في هذا التفسير، فلم يعد بالإمكان فهم الإسلام إلا في ضوء النظام!!
وكانت النتيجة أن جميع أجزاء الدين قد ابتعدت عن أماكنها الحقيقية رغم وجودها في هذا التفسير الجامع. إن جميع أركان الإسلام أجزاء هذا التفسير، ولكنها أجزاء تابعة للنظام؛ فالعقائد جزء من هذا التفسير لأنها “الأسس الفكرية” لنظام الحياة هذا. والعبادات جزء من هذا التفسير لأنها “منهاج التربية” لإعداد رجال هذا النظام. والأحكام الإسلامية حول السلوك الاجتماعي جزء من هذا التفسير، لأنها “القوانين الأخلاقية” التي يراعيها رجال هذا النظام في حياتهم الاجتماعية. والحدود والقوانين جزء من هذا التفسير لأنها “الأساس الحضاري التمدني” لهذا النظام. والخلافة والإمارة جزء من هذا التفسير لأنها تعطي النظام صفة الإدارة القاهرة الرادعة وتمكنه من تنفيذ القوانين. وكانت النتيجة الطبيعية لهذا التفسير أن تغير المطلوب الحقيقي. لقد برز الدين -بوصفه نظاما- بروزا عظيما في خريطة هذا التفسير، وأصبح جانبه الحقيقي -عبادة الله ومراقبته- في غاية الضعف والإهمال.
ولاحقا سيأخذ أبو الحسن الندوي نفس الطريق، ردا على فكرة الحاكمية التي نادى بها وبشر بها المودودي، حيث يقول في كتابه “التفسير السياسي للإسلام”: نستعرض ما تدلّ عليه دراسة كتاب الأستاذ المودودي “المصطلحات الأربعة في القرآن”، والشيء الكثير من كتاباته، من أنّ الصلة بين الله والإنسان، والعبد والرب، هي في الواقع صلة بين الحاكم والمحكوم، وصلة الرعية والملِك، وأنّ صفة السّلطة العليا والحاكميّة المطلقة هي الأصل من بين أسماء الله الحسنى وصفاته السامية الكثيرة، وكأن الدعوة إلى الإيمان بحاكمية الإله والإذعان لسلطته العليا وصوغ الحياة في قالب متطلباتها، كان هدف النبوة الأساسي، ومقصد بعثة الأنبياء وأساس دعوتهم، وغاية نزول الكتب والصحف السماوية لها.
ويتابع: ومهما كان ذلك نتيجة لازمة للإيمان بالله والدخول في حظيرة الإسلام، ومهما كانت طبيعة الإسلام تقتضيه اقتضاء طبيعيا، فإنه جزء صغير بالنسبة إلى صفات الله وذاته، وصلته بعباده وصلة عباده بنفسه، وليس هو كل شيء كما يظنه هؤلاء السادة.
مظاهرات السلام.. صناعة الشعبية بين النخب السياسية
احتلت أفكار وحيد الدين خان مساحة كبيرة من دائرة النقاش والتأثير، وخصوصا فكرة عدم العنف أو التصدي للتطرف، أو فكرة حب البشر جميعا، وقد استطاعت هذه الفكرة أن تجذب عددا كبيرا من الشباب الهندوسي إلى الإسلام.
كما استطاع وحيد الدين خان أن يعزز العلاقة مع مختلف الرموز الدينية في المجتمع الهندي، وعندما هدم متطرفون هندوسيون المسجد البابري الأثير في تاريخ الإسلام في الهند، وارتفعت حدة الاقتتال والتوتر بين المسلمين والهندوس، عمل وحيد الدين خان إلى جانب رموز دينية من مختلف الديانات على إطلاق مظاهرات وطنية تشمل مختلف الطوائف من أجل السلام.
يرى وحيد الدين خان أن عدم العنف أصل أصيل في الدين الإسلامي، وباستنباط حسابي يرى أن المعارك القتالية للنبي الكريم ﷺ استغرقت 36 ساعة لا أكثر من عمر الرسالة التي استمرت 23 سنة.
وقد أكسبت دعوة عدم العنف وحيد الدين خان إجماعا في النخبة السياسية الهندية، فكانت تنظر إليه بتقدير، ولذلك تقاطرت التعازي في وفاته من مختلف منصات الحكم والسلطات المركزية في الهند، ومن مختلف الهيئات العلمية في العالم الإسلامي، حتى أن أولئك الذين اختلفوا معه لم يملكوا بدا من الترحم عليه وتوديعه بإكبار.