صلاح الدين الأيوبي.. قاهر فرسان المعارك وملهم فرسان السينما
لَكَمْ تشبه قدسُ اليوم وهي في يد الغزاة، قدسَ القرن الثاني عشر ميلاديا، احتلال باسم الرّب وجرائم ترتكب وذهول يخيّم على العرب، ومن أين للأذن بصوت ابن سناء الملك يهنئ صلاح الدين الأيوبي محرّرها وقتئذ من الاحتلال الصليبي، فيقول:
ولابن أيوبَ دانت كل مملكة
بالصفح والصلح أو بالحرب والحَرَبِ
لم تبق لنا إلاّ أحلام اليقظة، ولم تبق للعين إلاّ صور يصنعها السينمائيون لصلاح الأمس، وقد تأخر صلاح اليوم كثيرا.
ولكثرة الحالمين تعددت الصور واختلفت بين فيلم وآخر أو بين نمط سينمائي وآخر، فنجدها في أفلام الكرتون والأفلام الوثائقية والروائية، أو اختلفت بين ثقافة وأخرى، فنجد صورا عربية وتركية وفارسية وغربية حتى بات صلاح الدين الأيوبي من أكثر الشخصيات التاريخية إلهاما للمخرجين. ومتى كان السينمائي مؤرّخا حتى نطالبه باحترام وقائع التاريخ وهو يشكل مادته؟
إنه صاحب رؤية فنية لا يسعنا إلا أن نناقشه في مدى انسجامها، وفي دلالاتها وأبعادها لا في مطابقتها للواقع أو التاريخ. هذا شأن ورقتنا التي تبحث في صورة صلاح الدين من منظور التاريخ، بقدر ما يسمح به هذا الحيّز الضيق طبعا، وتجعلها نقطة ارتكاز في فهم التحولات التي أرادها لها المخرجون وفهم أبعادها.
“الناصر”.. قامع الثورات الداخلية والغزو الخارجي
يرتبط ذكر صلاح الدين الأيوبي (1138-1193 م)، بالتصدي للحملات الصليبية التي قادتها البابوية تحت راية واحدة لغزو الشرق والسيطرة على أراضيه المقدسة لقرنين من الزمن تقريبا، امتدّا على الفترة الفاصلة بين 1096-1272 م. فقد بدأ فعله في التاريخ لمّا رافق عمه شيركوه إلى مصر الفاطمية وهو يقود جيوش نور الدين الزنكي، ليدعم الوزير شاور في عهد الخليفة العاضد لدين الله لترسيخ حكمه على منافسه الذي استعان بالصليبيين.
وبعد وفاة عمه اختاره العاضد آخر الخلفاء الفاطميين، لتولي الوزارة وقيادة الجيش، فواجه الفتن الداخلية والمؤامرات وحركات التمرد، وصدّ هجوم الصليبيين على دمياط، فمنحه الخليفة صاحب الحكم الصّوري، لقب “الناصر”.
ولمّا استتب له الأمر قطع خطبته، وخطب للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله، فأنهى خلافته سنة (1171م/ 567هـ)، وعلى أنقاض الدولة الفاطمية الشيعية أسس الدولة الأيوبية التي ستعمّر من 1174 م إلى 1252 م، ثم ستخلفها دولة المماليك.
لقد كان المسلمون في عصر صلاح الدين مشتتين بين خلافتين صوريتين، عباسية سنية في بغداد يسيطر عليها السلاجقة، وفاطمية شيعية في مصر يهيمن عليها الوزراء، وكان الشرق ممزقا بين ممالك وإمارات صغيرة في حلب وحماة وحمص ودمشق وبعلبك ونوى والموصل واليمن والحجاز، فتتنازع فيما بينها وتذود بالصليبيين وتحتمي بهم، ولا ودّ بلا سبب.. فوحّد أغلبها وضمها إلى دولته الوليدة الممتدة شرق المتوسط.
ولم يكن الصليبيون بأحسن حال من المسلمين وقتها، فقد توفي الطفل بلدوين الخامس الذي حكم مملكة بيت المقدس في 1186م إثر موت خاله بمرض الجذام. فكان سنه شرارة أوقدت الصراع بين أمراء متنافسيين لانتزاع عرش المملكة منه.
معركة حطين.. صورة الناصر الجاذبة للسينما
يرتبط مجد صلاح الدين الأيوبي في المخيال العربي اليوم بأحداث معركة حطين (1187 م/ 583 هـ) خاصة، فقد حقّق فيها نصرا باهرا صيفا، ودخل بعدها إلى بيت المقدس محرّرا خريفا بعد حصار قصير. وعلى خلاف ما يظن كثيرون، لم ينه صلاح الدين الوجود الصليبي في الشام وإنما كسر شوكتهم ورسم منعرجا في تاريخ وجودهم هناك، وافتتح مرحلة تراجعهم التي ستستمر لثمانين سنة بعد وفاته.
ومما يسجله له التاريخ ويشيد به الغربيين أنفسهم، سماحته ونجاحه في فرض صورة المسلم المتسامح الشهم في مواجهة الصليبي الهمجي، فقد ارتكب الصليبيون المجازر الفظيعة عند دخولهم بيت المقدس سنة 1099 م، فقتلوا كلّ من صادفهم ودمروا المساجد ضمن شريعتهم التي رسّخها البابا أوربان الثاني، وتقول إن قتل الكفار يمنح الغفران ويفتح السبيل إلى الجنة. وبالمقابل عفا صلاح الدين عن الغزاة وترك أهاليهم يغادرون المدينة بعد دفع فدية معتدلة، وافتدى من ماله الخاص من لا يملك مالا وسمح لليهود المهجّرين بالعودة إلى المدينة المقدسة.
لقد مثّل صلاح الدين الأيوبي على أيامه نموذجا للشرف والقيادة والحنكة، أما على أيامنا، فقد غدت حياته عنصر جذب للدراما الباحثة عن القصص الفاتنة والسير العظيمة لتشد إليها الجمهور، فيجد المتفرّج قائمة طويلة من الأعمال، منها المسلسلات وأفلام الكرتون، والأفلام الوثائقية والأفلام التخييلية. فآثرنا أن ندرس فيلمي “الناصر صلاح الدين” (1963) و”مملكة السماء” (2005)، فنقارن سمات صورته بين حضارتين وبيئتين ثقافيتين، وفي الذهن أعمال أخرى كثيرة نلمع إليها بين حين وآخر.
“الناصر صلاح الدين”.. معارك الانتقام لقوافل الحجاج
اقتصر فيلم “الناصر صلاح الدين” (1963) الذي أخرجه يوسف شاهين، وأدّى فيه أحمد مظهر دور صلاح الدين الأيوبي، وحمدي غيث دور ريتشارد قلب الأسد؛ على الحملتين الصليبيتين الثانية والثالثة. فقد قطع صلاح الدين الهدنة التي عقدها مع ملك بيت المقدس بسبب إغارة أمير طرابلس الفرنسي رينالد دي شاتيون الشهير بــ”ـرينو” على قوافل حجاج المسلمين، وقتل الكثيرين منهم، وانتقاما للقتلى حاصر صلاح الدين قلعة الكرك معقل الصليبيين، وتمكن من أسر المعتدي رفقة الملك غاي دي لوزينيان، فبارز الأول وأرداه قتيلا وأطلق سراح الثاني.
تعلن رغبة ريتشارد ملك إنجلترا في غزو الشرق بداية الحملة الثالثة، فيهجم تحالفه -الذي يشارك فيه فيليب أغسطس- على عكا ويحتل عسقلان، ثم يتشتت جمع الغزاة وتعصف بهم خلافات داخلية، فتنهزم جيوش ريتشارد أمام صلاح الدين عند أسوار بيت المقدس، فقد جهز سلاحا يحطم أبراج الغربيين، مما اضطر ريتشارد المهزوم لتوقع معاهدة الرملة (1192 م) التي تمنح سيادة بيت المقدس للمسلمين وتمنح المسيحيين حرية الحج للمدينة، وتعلن نهاية الحملة الصليبية الثالثة ونهاية الفيلم.
حسن العداء.. تسلل إلى مخيم العدو لعلاج الخصم
تتجسد صورة صلاح الدين في فيلم “الناصر صلاح الدين” من خلال عدة أبعاد، لعلّ حسن القيادة العسكرية تكون أوّلها، فعدالته تكفل تآلف القادة وتخلق الانسجام الضروري بينهم، وقيمه تجعلهم يؤمنون بأنّ القضية قضية وطن أولا مهما كان الدين أو العرق، لذلك ينخرط عيسى المسيحي في جيشه، ويسهم في الدفاع عن المدينة.
ومن مظاهر كفاءة صلاح الدين العسكرية إحكامه التخطيط للمعارك التي يحسمها بالحنكة أكثر مما يربحها بالعدة والعتاد، وما معركة عسقلان التي عمل فيها على استدراج العدو لتحقيق النصر العظيم على جيش ريتشارد وفرض الهدنة ومغادرة الملك الإنجليزي أرض الشام، إلا دليل على ذلك.
ويمثل المستوى السياسي البعد الثاني من هذه الصورة، فصلاح الدين يمارس الحكم ضمن أفق أخلاقي، فيدعو ريتشارد خصمه للحج، وحين يصاب ضيفه بسهم غادر يتسلل إلى مخيمات الصليبين متنكرا ويعالجه بنفسه، فيجعل الفيلم من سلوكه إزاء خصمه سبيلا للمقارنة بين حضارتين.
ولتكريس صورة صلاح الدين “الزعيم القائد” يطوّع الأحداث التاريخية ويقتبسها بهامش كبير من الحرية، فريتشارد لم يعقد الهدنة في العام 1192 م لانهيار جيشه كما في الفيلم، وإنما حرصا على إنقاذ عرشه بعد أن بلغه تحالف أخيه جون مع فيليب أغسطس ملك فرنسا الذي غادر بيت المقدس إلى بلاده، وعمله على الاستحواذ على الحكم.
واقع المحيط الإقليمي.. استثمار سياسي في التاريخ
لم يكن يوسف شاهين يشكل أحداث الماضي إلا وعيناه مركزتان على الزمن الحاضر، فيأخذ الداخل المصري بعين الاعتبار، فالأقباط كانوا يمثلون وقتها عشر سكان مصر تقريبا، ويمكن للبلاد أن تنخرط في حرب لتحرير القدس في كل حين. وضمن هذا الأفق نفهم لماذا يجعل عيسى مسيحيا ويجعل لويزا الإنجليزية تتخلى عن وطنها من أجله، والحال أنّ المراجع التاريخية تشير إلى أن عيسى العوام رجل مسلم مات وهو يدخل عكا المحاصرة عبر البحر سباحة، لتوفير الدعم لجيش صلاح الدين.
وفي الآن نفسه يأخذ يوسف شاهين المحيط الإقليمي بعين الاعتبار أيضا، فيجعل أمير عكا خائنا متواطئا، فيسلم المدينة إلى الصليبيين دون مقاومة، والحال أنّ المراجع تثبت أن والي عكا وقتها هو بهاء الدين الأسدي المعروف باسم قراقوش، وهو أحد وزراء صلاح الدين.
لقد كان الفيلم استثمارا سياسيا في التاريخ، يخدم رؤية جمال عبد الناصر للنهضة العربية وللتحرير فلسطين. فيكاد خطاب صلاح الدين يتناص مع خطاب جمال عبد الناصر، إذ يخطب في الملإ: “أيها العرب، إنها معركة الشرف”، أو يشير إلى صحبه “بالوحدة فقط بين بلدان العرب يمكننا أن نحرر المقدس”. ويجعل العروبة عنوانا لحروبه، فيقول عن الصليبيين “استعملوا المسيح قناعا”، أما هو فيمنّ بحرية العبادة ضمن أفق علماني فـ”الدين لله والأرض للجميع”.
“رفيق صلاح الدين هل لك عودة؟”.. إسقاطات القيادة
اختلف المؤرخون في نسب صلاح الدين، فبعضهم يجعله كرديا، وآخرون يجعلونه منحدرا من أذربيجان، ورغم ذلك فإن الفيلم يجعله عربيا، ويجعل جيشه مصريا، بل كثيرا ما جعل العلم المصري خلفية لبعض أحداثه.
كما خلق الفيلم تناظرا ما بين القائدين، وهو أمر يؤكده العنوان الذي يجمع بين اسميهما، فليس جمال عبد الناصر سوى امتداد لصلاح الدين الناصر، وتبشير بتحرير القدس على يدي الأول في الحاضر، كما حررها الثاني زمانا.
وبالفعل فقد نحج الفيلم في ترسيخ الربط بين الرجلين، فيرثي نزار قباني جمال عبد الناصر سنة 1971، في ذكرى ميلاده في قصيدته التي مطلعها:
زمانـك بستـانٌ، وعصـركَ أخضرُ
وذكـراكَ عصـفورٌ مـن القلب ينقرُ
فيقول في ثناياها:
رفيق صـلاح الدين هل لك عودةٌ
فإن جيـوش الـروم تنهى وتأمرُ
رفاقك في الأغــوار شـدّوا سُروجَهم
وجنـدك في حِطِّين صلّوا وكبّروا
رحلة الشرق لتطهير النفس من الخطيئة.. وجه الحرب الآخر
يجعل المخرج البريطانى “ريدلى سكوت” الفترة نفسها موضوعا لفيلمه الذي أخرجه عام 2005 “مملكة الفردوس” (Kingdom of Heaven). ومدار قصته على الحداد الفرنسي باليان الذي عُهد دوره إلى الممثل البريطاني “أورلاندو بلوم”. فقد سعى هذا المسيحي المخلص إلى نيل الغفران له ولزوجته، بعد أن ارتكب كلاهما خطيئة عظيمة لا تغتفر إلاّ بعمل إيماني أعظم، فزوجته انتحرت، أما هو فقد قتل أخاه لتمثيله بجثتها. وهل يوجد ما هو أعظم من السفر مع الجيوش الصليبية إلى الشرق للمشاركة في قتال المسلمين واسترجاع القدس منهم، ولتطهير نفسه من الخطيئة، ولإنقاذ زوجته من الجحيم؟
حينما يحلّ باليان بالقدس تتهيأ له الأسباب ليصبح قائدا مهيبا يثير حسد المنافسين ويتعرّض لمكائدهم، ولكنه يكتشف وجها آخر للحرب المقدسة التي جاء من أجلها، فالصليبيون الذين يخوضونها باسم الرب والمسيح ما جاؤوا إلى الشرق إلا ليرتكبوا أبشع الجرائم ولينهبوا خيراته، وأما الدفاع عن الكنائس وعن الحجاج المسيحيين فليس سوى ذريعة لتبرير الغزو وحشد المقاتلين. وبعد موت ملك بيت المقدس المصاب بالجذام والمحافظ على الهدنة مع صلاح الدين (الممثل السوري غسان مسعود)، يرفض الانخراط في مؤامرة تصفية خصمه غاي دي لوزينيان رغم معرفته بأنه يكيد له.
أما خصمه هذا فيتزوج شقيقة الملك الرّاحل سيبيل ويرث عرشه، وينخرط رفقة حليفه رينالد دي شاتيون في مغامرات عسكرية طائشة تغذي حقده الديني وشهوته لقتل المسلمين، فيخرق هدنتهم مع صلاح الدين الأيوبي، ويغير على قافلة للحجاج المسلمين، ويعمل السيف في رقاب الأبرياء العزّل.
صلاح الدين.. غضب القائد العادل يقلب الأحداث
بعد الغارة على قوافل الحجاج يواجه الحليفان غاي دي لوزينيان ورينالد دي شاتيون غضب صلاح الدين وينهزمان، أما باليان فيتولى الدفاع عن القدس رغم إدراكه لحتمية الهزيمة فيبلي في ذلك البلاء الحسن، حماية للمسيحيين وتحسينا لشروط التفاوض، ثم تسقط المدينة، لكن على خلاف الصليبيين الذي أمعنوا في الإجرام عند دخولها قبل قرن، يقابل صلاح الدين السيئة بالحسنة ويعفو عنهم ويطلق سراحهم.
ولا يظهر صلاح الدين إلا في منتصف الفيلم تقريبا ولا يمثل مركز الحكاية وبؤرتها، وهذا طبيعي فهو من منظور المخرج يمثل الآخر الذي تذكره الحكاية عرضا، فلا يحضر بطريقة مباشرة، ومع ذلك فإن الفيلم يسقط عددا من الأحداث التاريخية التي تبرز شهامة السلطان الأيوبي صلاح الدين، مثل دفعه الضريبة عمن عجز عن دفعها من المسيحيين، في حين تسلط كل الأضواء على الطرف الأوروبي وتصور وجهة نظره لهذه الحرب وللمسلمين.
“ريدلي سكوت”.. صورة منصفة تمسك العصا من الوسط
لم يعد المخرج “ريدلى سكوت” القهقرى إلى الماضي البعيد ليناقش -عبر الإيحاء وإيهام القصّ- وضع القدس الراهن، فيدافع عن أطروحة جريئة مدارها على أنّ القدس احتُلت باسم الدين من قبل عصابات همجية مدفوعة بالجشع، وأنّ قداستها بالنسبة إلى مختلف الديانات لا تمنع التعايش السلمي، وأنّ لا حلّ للصراع الدائر فيها اليوم إلا عبر سلام يكفل خلاص الإنسان ويحرّره من تلاعب أدعياء التديّن.
وتحسب لهذا الفيلم الصورة الإيجابية التي يقدمها للمسلمين والعرب، رغم بعض المقالات النقدية العربية المتعسفة، فهو يدافع عن عروبة القدس ويقطع مع الصورة النمطية التي كرّستها السينما الهوليودية لهم باعتبارهم همجا إرهابيين مكبوتين جنسيا، حتى أنّ صحيفة نيويورك تايمز لم تخفِ تذمرها عند عرضه، وكتبت أن زمن عرض الفيلم غير مناسب بسبب المواجهات بين المسلمين والأجانب في القدس وفي غيرها من البلدان الإسلامية.
ويقتضي الإنصاف أن نقرّ بأنّ “ريدلى سكوت” شكّل صورة لصلاح الدين أكثر إشراقا وأكثر كبرياء من تلك التي اقترحها يوسف شاهين في “الناصر صلاح الدين”، وجعله بمقتضاها متوسلا للسلام من ريتشارد قلب الأسد لا فارضا له، فبدلا من ذلك التوسّل فإنه كان في “مملكة السماء” يفرض السلام ويقدم عفوه من موقع القوة والشهامة.
“صلاح الدين الأيوبي”.. مغامرات غرامية في السينما التركية
لقد تعددت صور صلاح الدين بتعدد الأفلام التي استلهمت قصّته، فكانت تعكس هواجس المصوِّرِ الواقف خلف الكاميرا أكثر مما تعكس صورة المصوَّر الماثل في التاريخ. ولنأخذ مثلا الفيلم التركي “صلاح الدين الأيوبي” (Selahattin Eyyubi) الذي أخرجه عام 1970 المخرج المصري تيسير عبود.
فمؤسس الدولة الأيوبية في الفيلم كان وسيما يفتن النساء ويفتك بالأشرار، وبدل أن يحرّر القدس ينشغل بتحرير خطيبة ريتشارد قلب الأسد من أسرها بعد أن وقعت في غرامه، فعكس رغبة صناع الفيلم في استدراج أكبر قدر من رواد التسلية السطحية إلى قاعات العرض لغايات تجارية خالية من رهانات المعرفة والثقافة. وللسينما التخييلية حرية تشكيل صورة صلاح الدين الأيوبي بما تراه، ولها أن يتحرّر من ضوابط الماضي، فما بات يعرف اليوم بالتخييل التاريخي -مسرحا أو رواية أو سينما- لا يلتزم بحرفية التاريخ، ويعتبر أحداثه محفّزة على الإبداع وتعلّة نستدعي من خلالها الماضي لنحيل على الراهن وعلى قضاياه، ولا مراء في ذلك.
أما من يريد التاريخ فعليه أن يطرق مباحثه، ولكن يجب أن تمارس هذه الحرية من منطق المسؤولية. فالمخرج يحاسب على رؤيته الفنية والفكرية. ومن يتجرأ على استلهام سيرة صلاح الدين، مطالب بعمل يضارع رمزية الرّجل في الوجدان العربي وفي الفكر الغربي أيضا.
لذلك يعتب مصطفى العقاد -الذي كان يجهّز فيلما حول صلاح الدين قبل أن ينال منه تفجير انتحاري- على يوسف شاهين، ويصرّح لجريدة الرياض قائلا: فيلم “صلاح الدين” رغم جودته يبقى فيلما محليا، وأنا عند مشاهدتي للفيلم تعاطفت مع ريتشارد قلب الأسد أكثر من تعاطفي مع صلاح الدّين الأيوبي.
وبالفعل، فالانطباع بأن الفيلم الذي يليق بصلاح الدين الأيوبي لم يُخرج بعدُ يظلّ قائما، ربما يكون الإرهاب قد فوّت علينا فرصة مهمّة، ولكن المستقبل سيمنحنا فرصا أخرى بكل تأكيد.