“لارس فون ترير”.. قول ما لا يمكن قوله في ثلاثيات بصرية

خالد عبد العزيز

أثناء فعاليات الدورة الرابعة والستين من مهرجان كان السينمائي الدولي عام 2011، أطلق المخرج الدانماركي “لارس فون ترير” تصريحه المثير للجدل الذي يشي بتعاطفه مع الزعيم النازي “هتلر”، ووقوفه ضد إسرائيل قائلا “إنها تثير الإزعاج والمتاعب”، وعلى إثر هذا قررت إدارة المهرجان العريق طرده من المهرجان، لتظل حالة العداء تلك بين المخرج المخضرم والمهرجان الأهم لسنوات، إلى أن تم كسرها بعرض فيلمه “المنزل الذي بناه جاك” عام 2018 في الدورة الـ71 من المهرجان ذاته.

المُتابع لمسيرة لارس فون ترير يرى أن أغلب أفلامه لا تأتي فُرادى، بل يُقدمها ويبلورها من خلال ثلاثية سينمائية متصلة منفصلة في آن واحد، يُعبر فيها عن أفكاره ورؤاه بشكل كامل، كل ثلاثية ترصد بعض الأفكار وتطلقها بشكل حر، حتى وإن كان هو نفسه لا يصنع الأفلام بغرض جعلها متصلة في حلقات مترابطة معا، وإنما بغرض تكاملها برفقة بعضها البعض ليُكسبها مع مرور الوقت صفة الأجزاء الملحمية، حيث تصبح كل مجموعة منها مُعبرة عن همّ ما ورؤية فلسفية تنازع صانعها وتقلقه.

 

“عنصر الجريمة”.. جزء من ثلاثية أوروبا التي لا نحب

بدأت انطلاقة لارس فون ترير نحو السينما العالمية عبر ثلاثة أفلام يطرح من خلالها صورة بانورامية لأوروبا في الماضي والحاضر والمستقبل. ففي فيلم “عنصر الجريمة” (The Element Of Crime) إنتاج 1984، والذي يُعد الجزء الأول من ثلاثية أوروبا؛ تدور الأحداث في قالب يحكمه الغموض والإثارة، حيث تبدو المشاهد وكأنها تدور في المنطقة الفاصلة بين الواقع والمُتخيَّل، فالضابط “فيشر” (مايكل إليفك) يعود إلى أوروبا بعد فترة قضاها في مصر، حيث يتم استدعاؤه للتحقيق في سلسلة جرائم قتل تستهدف فتيات بائعات اليانصيب، وذلك في إشارة رمزية إلى انتهاك البراءة في صورتها المُجردة، وكأن أوروبا أصبحت أرضا خارجة من رحم العفو والرحمة الإنسانية.

يقدم فون ترير رؤية مُنقبضة لأوروبا في نهايات القرن العشرين، ونظرة لا تخلو من النقد اللاذع نحو واقع غريب لا يعرفه، ويشعر تجاهه بالغربة، فالأحداث تجري في دولة ما في أوروبا يكتنفها ويحيط بها واقع غريب، يكاد لا يمُت للواقع الحقيقي بصلة، وكأن أوروبا انتقلت إلى العصور الوسطى عبر رؤية نافذة للعمق، والتي تقدم بشكل أو بآخر تشريحا للنفس الإنسانية، كل ذلك بأسلوب رمزي يتسم بالتشاؤمية أحيانا.

تلك هي النظرة التي ستغلف العديد من أفلام فون ترير بعد ذلك، وقد دعّم هذا الإحساس الصورة التي تتميز بلونها الأصفر الكابي الممزوج بالأسود، هذه الدرجة اللونية التي لم تختلف على مدار الأحداث تدعيما للحالة العامة للفيلم، والتي ستُمسك بالمتفرج مثلما استولت على شخصياته.

 

“وباء”.. رؤية لأوروبا تحت كبت الوباء

يستكمل لارس فون ترير تقديم رؤيته عن أوروبا، لكن هذه المرة في المستقبل، من خلال فيلم “وباء” (Epidemic) إنتاج 1988، ويطرح الفيلم نظرة للعالم وأوروبا تحت كبت الوباء، باعثا نظرة استشرافية حول آلية التعامل مع أي وباء محتمل في المستقبل، ومدى القدرة على مواجهته، وهو يصيب الجنس البشري بصفة عامة.

يقدم فون ترير فيلمه بأسلوب هادئ سلس ينساب بهدوء للمتفرج، وبصورة هي مزيج بين الأبيض والأسود، والأهم هو انسياب الحد الفاصل بين الواقع والخيال، فأحيانا لا ندري هل ما يجري أمامنا على الشاشة هو من رحم الخيال أم من صلب الواقع؟

الفكرة الرئيسية للفيلم التي تنطلق منها الأحداث طرأت في ذهن فون ترير أثناء عمله على مشروع فيلمه الاول “عنصر الجريمة”، حيث يقول “تدور أحداث فيلم وباء عني وعن نيلس أثناء عملنا في فيلم عنصر الجريمة، طريقة العمل تلك التي ظهرت في الفيلم كانت هي كواليس ما يدور في الحقيقة”، فقد اعتمد السيناريو في تقديم أحداثه على خمسة فصول، لكل فصل عنوان يرتبط بطريقة أو بأخرى بكلا العالمين سواء الواقع أو الخيال، وكل فصل يُمثل وحدة سردية تتصل بالأخرى التي تليها، ليبدو وكأننا نشاهد فيلمين وليس فيلما واحدا، الأول تسجيلي عن المخرج وصديقه كاتب السيناريو، والآخر روائي عن الوباء الذي تفشى أثره. كل منهما يسير في طريقه الذي يتقاطع مع الآخر، ويندمجا معا في النهاية، رغم أن تأرجح الأحداث بين العالمين جعل السرد مُشتت بصورة ملحوظة، إلا أن الفيلم لم يفقد رونقه، خاصة في هذه الأيام التي نُعاني منها من وباء فيروسي لا يُرى بالعين المجردة.

 

“أوروبا”.. سؤال الهوية الحائرة

في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، بدأت الولايات المتحدة مشروعها بالتوغل داخل الكيان الألماني، ليس فقط تدخلا عسكريا، لكنه اقتحام للنسيج الشعبي والثقافة الألمانية التي تبدلت بلا شك بعد هذه الحرب، واتجهت صوب الثقافة الأمريكية، والأسلوب المغاير عن النمط الأوروبي العريق.

هذا ما يطرحه فيلم “أوروبا” (Europa) إنتاج 1991، والذي يُعد الجزء الثالث من ثلاثية أوروبا، حيث يختتم فون ترير رؤيته لأوروبا، وينطلق هذه المرة من الماضي.

يعود الفيلم إلى زمن مضى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث تدور الأحداث في ألمانيا بعد سقوط النازية، ودخول القوات الأمريكية برلين، ففي تلك الأجواء المشحونة يعود “ليوبولد كيسلر” (جون مارك بار) الأمريكي النشأة الألماني الأصل إلى برلين ليتلقاه عمه “كيسلر” (آرنست هوغو جيرارد)، ويعمل على إلحاقه في وظيفة لدى شركة القطارات الألمانية.

ومع توالي السرد يتضح مضمون الفيلم الذي يُكمل فيه فون ترير رؤيته عن أوروبا، فإذا كانت تلك الرؤية تتسم بالكابوسية أو التشاؤم في الفيلمين السابقين، فإننا هنا أمام رؤية ومنحى أكثر تفاؤلا، وإن كان هذا الإشراق أو التفاؤل مُغلّف بلمحة شجية حزينة أكدتها نهاية الفيلم المأساوية بموت البطل الذي يُمثل البراءة التي يسعى الجميع لاقتناصها واستغلالها كل وفق أهوائه ورغبته.

المخرج لارس فون ترير أحد مؤسسي حركة “دوغما” التي انطلقت عام 1995 كصرخة تمرد ضد السينما الأمريكية وهيمنتها

 

“دوغما”.. صرخة في وجه السينما الأمريكية

في مارس/آذار 1995 انطلقت حركة “دوغما” من مجموعة من السينمائيين الشباب في الدانمارك، من بينهم المخرج “توماس فينتربرغ” و”لارس فون ترير”، لكن تلك الحركة والبيانات التي صاحبتها لم تمر مرور الكرام، فقد التزم بها فون ترير، وصارت قواعدها ومعالمها من معالم أسلوب أفلامه وسينماه في تلك الفترة.

جاءت هذه الحركة كصرخة تمرد ضد السينما الأمريكية وهيمنة أسلوبها، ومن هنا كانت الانطلاقة للعودة بالسينما إلى جذورها وجماليتها الأصيلة بعيدا عن أي مؤثرات خارجية، مثل الابتعاد عن استخدام المؤثرات والمرشحات الضوئية، والتصوير في الأماكن الأصلية الخاصة بالحدث. وهذا ما يتجلى فيما يلي:

 

“تكسير الأمواج”.. زواج رغم أنف الجميع

يبحث فون ترير” داخل النفس الإنسانية في مكنونها عن الدافع لرؤية حالمة للعالم، رؤية لا تخلو من طيبة أو سذاجة في بعض الأحيان، وبشكل يعلو فوق صفات البشر الطبيعية، لتبدو الشخصيات مُلهمة وباعثة للتأمل.

يطرق فون ترير هذه الأفكار في ثلاثة أفلام يتبلور محتواها الفكري ويتضح أكثر مع كل فيلم، والبداية مع فيلم “تكسير الأمواج” (Breaking The Waves) إنتاج 1996.

يتناول الفيلم المصير الإنساني، واختيار الفرد لحياته وفق أهوائه ورغباته، والأهم وفق رؤيته الخاصة للحياة بصفة عامة، وتدور أحداث الفيلم (كتب له السيناريو لارس فون ترير، وبمشاركة من الكاتب الدانماركي “بيتر أسومسن”) حول “بيس” (إيميلي واتسون) الفتاه الريفية الساذجة التي تعيش مع أهلها في إحدى القرى الجبلية النائية، والتي تتزوج من “يان” (ستيلين سكارسغرد) بعد قصة حب عنيفة قوبلت بالرفض من محيطها، نظرا لكونه غريبا ولا أحد يعرف عنه شيئا.

البداية التأسيسية للعالَم الذي تجري فيه وقائع القصة القرية البعيدة، والفتاة الساذجة التي يقتنصها الشاب الجريء؛ جذابة لقصة غير عادية مليئة بالعديد من التساؤلات والأفكار الفلسفية، فلا شك أن هذا الفيلم هو الأقوى فنيا في هذه السلسلة، سواء على مستوى الشكل أو المضمون، فالفكرة الرئيسية تدور حول التطرف الديني وما يقابلها من طاعة عمياء، وهل يمكن أن يدفع الإنسان حياته ثمنا لهذه الطاعة؟

 

“الحمقى”.. عيش على الحافة

لم تكن طفولة لارس باليسيرة أبدا، إذ غُلفت هذه الفترة من حياته بصعوبات تتعلق بالتواصل مع أقرانه في المدرسة، تسببت في انقطاعه عن الدراسة الثانوية، وهذا يتضح في أفلامه، وتحديدا فيلم “الحمقى” (The Idiots) إنتاج 1998.

تدور الأحداث حول مجموعة من الشباب ينعزلون في مكان في ضواحي المدينة، يعيشون سويا داخل أحد المنازل المملوكة لأحد منهم، ويدّعون إصابتهم بالأمراض العقلية التي تجعل الجميع يتعاطف معهم. يصور الفيلم حياتهم داخل المنزل وفي الخارج أيضا، كما يرصد طريقة تعاملهم مع المحيطين بهم، والأهم هو رؤية ردود فعل الآخرين تجاههم، فمضمون الفيلم يدور حول فكرة العزلة كوثيقة رفض واحتجاج ضد المجتمع وضد السياسة العامة، وبالتالي يتطرق الفيلم لنقطة أخرى وهي العلاقة بين الفرد والمجتمع، ورؤية أفراد النسيج لبعضه البعض.

اختار السيناريو مكان الشخصيات بعناية تتناسب مع الفكرة الرئيسية المطروحة، فالمكان ليس سوى منزل يقع على أطراف العاصمة الدانماركية “كوبنهاغن”، ليكتسب المكان بُعدا رمزيا، ألا وهو البقاء أو العيش على الحافة.

 

“راقصة في الظلام”.. سلمى وسراب الحلم الأمريكي

اندثار الحلم وتفتت ذراته في الهواء، هكذا يقدم فون ترير رؤيته للحلم الأمريكي، فهو كالسراب، ورغم السعي إليه والمضي فيه، فإنه ينقلب فجأة ويُصبح مرثية للإنسان وسذاجته التي قد تدفعه أحيانا لارتكاب حماقات قد يكون ثمنها حياته. هكذا نصل للجزء الأخير من ثلاثية القلب الذهبي مع فيلم “راقصة في الظلام” (Dancer In The Dark) إنتاج 2000.

يحكي الفيلم قصة سلمى (بيورك) المرأة المهاجرة من تشيكوسلوفاكيا، والآتية من المعسكر الشيوعي إلى رأسمالية الولايات المتحدة، وهي تُعاني من ضعف حاد في البصر، وتخشى من انتقال المصير ذاته إلى ابنها، تواصل الليل بالنهار في العمل دون كلل حتى تدخر ثمن العملية الجراحية المُقرر إجراؤها لابنها كي يرتد إليه البصر ويعود سالما إلى مكمنه.

وعلى الرغم من أن القصة تبدو تقليدية، فإن السرد المنقسم إلى شقين جعل الفيلم مبهراً وشديد العذوبة، تلك العذوبة التي سرعان ما يعكر صفوها ميلودرامية القصة المُبالغ فيها، فالشق الأول يدور حول حياة سلمى في العالم الجديد، أما الشق الثاني فيدور في عقل سلمى التي تعيش في خيالاتها أكثر من الواقع ذاته، حيث نراها تُغني وتؤدي العديد من الاستعراضات، وكأنها تهرب من واقعها المأساوي لتخلق حياة موازية بداخلها، لكن تلك الأحلام تصطدم بشراسة الواقع المحيط بها.

فالفيلم يقدم مرثية ميلودرامية عن اندثار الحلم الأمريكي، ذلك الحلم الذي تدفع سلمى ثمنه عمرها، وكأن فون ترير يُقدم رؤيته للولايات المتحدة وكأنها تسلب العمر وتأكله وتنهشه دون مقابل.

 

“دوغفيل” و”ماندرلاي”.. علاقة ملتبسة مع أمريكا

العلاقة بين فون ترير والولايات المتحدة غامضة إلى حد ما، ففي بعض التصريحات يُعلن بوضوح موقفه المناهض للسياسة الأمريكية، لكنه في المقابل يُعبر أحيانا عن حبه واحترامه العميق للولايات المتحدة. هذه العلاقة الملتبسة يوازيها العديد من الأفلام التي تُعبر عن رؤية لا تخلو من انتقاد جارح للتاريخ الأمريكي.

بدأ لارس فون ترير مشروعا من ثلاثة أفلام كعادته، يتناول فيه الظاهرة الأمريكية، لكن هذه المرة لم يُقرر للثلاثية أن تكتمل حلقاتها، إذ اكتفى بصنع فيلمين، يُقدم فيهما رؤيته للولايات المتحدة على مدار تاريخها، وتحديدا في فترة الثلاثنيات، حيث انتشار عصابات المافيا من ناحية، وانتشار العنصرية ضد الأمريكيين السود من ناحية أخرى، ويتضح من خلال السرد كراهية فون ترير الضمنية لأمريكا.

ففي الفيلم الأول “دوغفيل” (Dogville) إنتاج 2003، يتناول فون ترير الشعب الأمريكي بنظرة غير مألوفة يجعلهم يتسمون بالمكر والدهاء والشر أيضا. أما في الفيلم الثاني “ماندرلاي” (Mandrlay) إنتاج 2005، فهو يتطرق للعنصرية التي تنهش عصب المجتمع، كما يطرح فكرة الحلم الأمريكي بأسلوبه المُبطن المتهكم.

لا شك في أن مضمون الفيلمين يحوي قدراً من الأهمية، لكن ما اعترى الأسلوب من الناحية الإخراجية جعله يتأرجح بين فن السينما والمسرح، فأصبح المتفرج لا يدري أين يخضع تصنيف ما يراه، فالأحداث تدور داخل الأستوديو وكأنه مسرح، لا فاصل بين منازل الشخصيات وبعضها البعض، فقط بضعة خطوط بالطباشير، وهكذا تم تخطيط شوارع المدينة التي تدور فيها الأحداث، ليبدو الفيلمان وكأنهما عرضان مسرحيان مصوران بكاميرا سينمائية.

 

“عدو المسيح” و”ميلانكوليا”.. على ضفاف الحزن

من الواضح أن التجربة الحياتية لفون ترير أثرت في رؤيته السينمائية بشكل أو بآخر، فبعد اصطدامه ومعاناته مع الاكتئاب، انطلق يُعبر عن هذه المأساة من خلال “ثلاثية الاكتئاب” التي رصد فيها معاناة مريض الاكتئاب، وإن كانت هذه الأفلام لا تخلو من رؤيته الكافكاوية (نسبة إلى كافكا) السوداوية التي تُطعّم أغلب أفلامه، حيث يقول لارس “إنني مصاب بكآبة، ولا يمكنني أن أتماسك من أجل أي شيء”.

تبدأ الثلاثية بفيلم “عدو المسيح” (Antichrist) إنتاج 2009، ويدور حول تأثير كبت الحزن والضغوط النفسية على الفرد، كما يلقي الفيلم الضوء على شهوة الانتقام، فأحداث الفيلم تدور حول امرأة تُصاب بالاكتئاب الحاد بعد وفاة طفلها، ليبدأ زوجها الطبيب النفسي توجيه كل طاقته بعد ذلك في مساعدتها لعبور محنتها، فيذهبا سويا لمنزلهما الريفي لتلقي جلسات العلاج التي يسعى الزوج “وليام دافو” من خلالها لعلاجها، لكن حالتها المستعصية على الشفاء تكاد تنحى نحو الجنون.

لقد جعل السيناريو الأحداث تدور في سرد خطي تتدافع أحداثه للأمام وفق متوالية ثابتة لا تكاد تتغير من مشاهد العنف بين الزوجين، فما بين الزوجة التي ترغب في قتل زوجها وتعذيب نفسها بسادية مفرطة القسوة وكأنها تنتقم من ذاتها التي دفعتها نحو تلك المأساة، إلى زوجها الذي تبدّل سعيه من علاجها إلى الهروب من أسر شطحها وجنونها المبالغ فيه دراميا.

لكن سمة أفلام فون ترير الجنون والسوداوية في أشطح حالاتهما، مما يدفعنا للتساؤل عن جوهر الفيلم ومغزاه، وهل دعمت الدراما مضمون الفيلم بحكاية توازي هذا الكم من العنف؟

وفي الجزء الثاني من الثلاثية مع فيلم “ميلانكوليا” (Melancholia) إنتاج 2011، نرى مرض الاكتئاب هذه المرة من زاوية أكثر رحابة، ولن نبالغ إن قلنا ببعدها الجمالي. فهناك شقيقتان تُعانيان من الاكتئاب، لكل منهما أسبابها التي تدفع الاكتئاب لاقتناصها، الشقيقة الأولى “جستين” التي يبدأ منها السرد، تبدو مجبولة بحبل طويل ممتد من الأحزان التي تعوقها عن تذوق العالم واستكشافه، وعلى الناحية الأخرى “كلير” الشقيقة الكبرى يقتص منها الاكتئاب، ويتوغل داخل نفسها الهشة مستغلا خوفها من نهاية محتملة للعالم، فالأخبار تتناثر هنا وهناك عن اصطدام كوكب كبير بالأرض.

تفصح الشخصيات عن أشباح خوف فون ترير ذاته، عبر اقتحام النفس الإنسانية وفض مغاليقها، والسير معها بخطا حثيثة، كاشفا ما يعتريها من هواجس.

 

“شبق”.. تفاصيل ربما تُحرر صاحبها من الألم

ينطلق فون ترير في الجزء الثالث من الثلاثية مع فيلم “شبق” (Nymphomaniac) إنتاج 2013 إلى آفاق أكثر تحررا، سالكا العديد من الدروب غير المطروقة في أساليب التعبير السينمائي، فهو يحكي قصة “جو” (شارلوت جينسبرغ) التي تُعاني من مرض جسدي نادر.

يطرق السيناريو أبواب حياتها، ويتوغل كاشفا عما يدور في أعماق النفس الإنسانية، وكيف تصبح الرغبة الحسّية ليست دافعا للمتعة أو الإنجاب، بقدر ما تكون سببا للشقاء والعذاب بلا نهاية.

تسرد “جو” ألبوم حياتها بكافة تفاصيله المخزية، وكأنها “شهرزاد” تحكي لشهريار قبسات من حياتها الغرائبية، لكن الفارق هنا هو المغزى والمحرك للسرد، فـ”شهرزاد” تسرد لتلوذ بذاتها من القتل، أما “جو” فتسرد لتتخفف من عبء وحمل بلغ ثقله مداه، وبالحكي تتحرر ولو بقدر يسير من آلامها.

طوال خمس ساعات ونصف يتوغل السيناريو في حياة بطلته الوحيدة كاشفا معاناتها مع المرض، يُدخلنا السرد من حكاية إلى أخرى، وكلما ازداد الحكي تضاعفت جرعة المشاهد الجريئة، وكأن الفيلم يدور في دائرة مُفرغة قوامها شيء واحد وهو مغامرات “جو”، فالسرد لم يتوغل بالقدر الكافي داخل نفس الشخصية الرئيسية للتعبير عما تُعاني منه، بقدر إظهار أكبر قدر ممكن من المشاهد الجريئة.

 

“المنزل الذي بناه جاك”.. أغصان العنف المتشابكة

يشتبك فون ترير مع المسكوت عنه في النفس الإنسانية، حيث يغوص داخل الأعماق بحثا عن الصندوق الأسود الذي يحوي ما لا يطرأ على ذهن، ولا يبرق على البال من شذرات سوداوية قد لا نتوقع وجودها بداخلنا.

ففي فيلم “المنزل الذي بناه جاك” (The House That Jack Built) إنتاج 2018، يصل فون ترير لذروة إبداعه، حيث يُعبر عن ذاته وهواجسه الفنية، ويكشف كل ما أرّق خواطره وملامح فنه، والأهم يكشف عن نقاطه المكللة بالسواد، والذي لا يجرؤ أحد على البوح بها.

قاتل متسلسل يمارس هواية القتل دون سبب مقنع، اللهم إلا دوافع فنية بحتة، تختلف كل جريمة عن الأخرى من ناحية الأسلوب، فالقاتل يبحث عن ماهية الفن من خلال انسياب دم ضحاياه وتيبس أجسادهم. قد تبدو الفكرة مجنونة، لكنها عادة فون ترير، حيث الرمزية المغلفة بالغرابة والصدمة في آن واحد.

في هذا الفيلم يصل صاحب “تكسير الأمواج” إلى ذروة فنه، يكشف كل أوراقه، ويزيح الستار عن أفكاره المؤرقة، فالقاتل في نظر فون ترير مثل الفنان، فإن كان الفنان يخلق فنا، فالقاتل عبر إزهاق أرواح ضحاياه يخلق هو الآخر فنا، وكلما زاد عدد ضحاياه ازدادت شهوته للمزيد، وهذا حال الفنان الذي لا يشبع أبدا من ممارسة فنه، ونسج كل جديد مع كل عمل إبداعي.

يُعبر فون ترير في أفلامة عن الفن وعن الحياة من خلال رؤيته الخاصة المطعمة بأفكاره التي لا تخلو من صدامية وجرأة، والتي قد تبعث على النفور أحيانا، لكننا بقليل من التبصر قد نجد بين طيات هذه الجرأة أفكارنا نحن بكل جموحها وسوداويتها، لكنها الشجاعة في قول ما لا يمكن قوله، وطرح ما يدور في الداخل بحرُيّة بعيداً عن أي حواجز تعوق رؤيتنا لذواتنا بكافة كبائرها قبل صغائرها، وإمكانية التصالح معها.