“ميراث”.. هجرة تتناقلها الأجيال في لبنان منذ قرون

في يوليو/تموز 2006، شن العدو الإسرائيلي حربا على لبنان استمرت 34 يوما وخلفت مئات القتلى وآلاف الجرحى ودمارا هائلا، وآلاف الفارين من هذه الحرب، ومن بينهم المخرج اللبناني فيليب عرقتنجي الذي وجد نفسه مضطرا لمغادرة وطنه على متن سفينة عسكرية فرنسية، ليستقر بفرنسا في تكرار لتجارب والده وجده.
وفيلم “ميراث” -الذي عرضته الجزيرة الوثائقية- عبارة عن سيرة ذاتية تروي تجربة المخرج مع الحرب الأهلية اللبنانية والهجرة ثم العودة إلى الوطن، ويمزج الفيلم الوثائقي بالروائي، كما يقدم رواية مقسمة الى فصول، ويحمل كل فصل منها عنوانا.
وقد أراد المخرج فيليب عرقتنجي، تسليط الضوء على تجربة الهجرة التي تتكرر في الشرق عموما وفي لبنان خصوصا، وكأنه “ميراث” تتناقله الأجيال في هذه المنطقة من العالم.
الممثلون في الفيلم، هم عائلة المخرج عرقتنجي، زوجته وأولاده الثلاثة ووالدته. ويتحدث الفيلم عن الأعوام 1913، و1917، و1921، وخمسينيات وستينيات القرن الماضي، وعام 1975 (تاريخ بدء الحرب الأهلية) وحرب 2006، وصولا إلى 2013 بحيث تتكرر الحوادث ويعيد التاريخ نفسه بأشكال مختلفة.
يوميات العدسة.. هاجس حلول النهاية دون سابق إنذار
ببساطة وصدق، يدخل المشاهد في يوميات عائلة المخرج الذي تؤرخ الكاميرا كل مراحل حياته، إذ لطالما كانت الكاميرا كخبزه اليومي.
ينفض عرقتنجي الغبار عن صور بالأبيض والأسود لجدته ووالده، وعن رسائل قديمة معيدا من خلالها تركيب الماضي، ويستعين بأشرطة فيديو تصور طفولته وتطبع كل مرحلة من حياته، ومسقطا أبطال فيلمه على أشرطة أرشيفية حصل عليها من الولايات المتحدة وفرنسا تستعيد تاريخ منطقة الشرق الأوسط منذ سقوط الدولة العثمانية.

ويقول عرقتنجي في الفيلم إنه مهووس بالتصوير ويحاول أرشفة كل تفاصيل حياته وحياة أولاده وكأنه خائف من أن ينتهي كل شيء من دون سابق إنذار، وكان يظن أن هذا مفيد لأولاده، ليعرفوا كيف سارت الحياة عندما كانوا أطفالا.
وتابع قائلا: كنت أظن أن لدي متسعا من الوقت حتى ألعب مع أولادي أكثر والتقط صورا إضافية لهم.
وفي 12 تموز/يوليو 2006 بدأت فجأة حرب إسرائيلية جديدة أجبرت المخرج عرقتنجي على الفرار من لبنان على متن سفينة “يرا بترا” الفرنسية التي أجلت 350 فرنسيا و800 أوروبي.
“هل أودع بلادي نهائيا؟ أم أقول لها إلى اللقاء وسأعود يوما؟”
يقول عرقتنجي: عادت الحرب ولعنتها، ووجدت نفسي مجددا مضطرا لترك كل شيء والهرب، ولكن هذه المرة لست وحيدا بل مع عائلتي المضطرة للمشاركة في قدري.. زوجتي وأولادي سلختهم من وطنهم ونقلتهم لمكان آخر.
ويروي المخرج اللبناني الذي يحمل الجنسية الفرنسية معاناته على السفينة ومشاعر الغضب التي اعترته بسبب القصف الإسرائيلي التي كانت تتعرض له المدن والقرى اللبنانية، وبدأ بطرح أسئلة وجودية على نفسه أهمها: هل أودع بلادي نهائيا؟ أم أقول لها إلى اللقاء وسأعود يوما؟

عاد عرقتنجي بالذاكرة إلى قصص كانت تحكيها له جدته عن هروبها من بلادها تركيا على متن سفينة عسكرية فرنسية، وكانت تقول له: المنفى لا يكسرك ولكن يقضي عليك ببطئ، وعلمت لاحقا أن والد جدتي فر من لبنان عام 1860 (خلال الحرب الطائفية).
ومن غريب المصادفة، أنه خلال الرحلة البحرية من بيروت إلى قبرص، أبلغ القبطان ركاب السفينة أنها لن تقف في قبرص بل ستواصل إلى ميناء مرسين التركي الذي انطلقت منه جدته في نهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918) على متن باخرة فرنسية لتنتقل إلى بيروت وتستقر فيها.
حب بيروت.. صراع نفسي يفسد هدوء الغربة الفرنسية
وبعد عودته مع عائلته إلى فرنسا حضرت أمام عرقتنجي كل الذكريات بدءا من لحظة قدومه إلى فرنسا –التي كانت بالنسبة له مكانا للعلاج من جراح الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)- نهاية 1989، فنال جنسيتها وأراد الاستقرار فيها وتأسيس عائلة بعيدا عن وطنه الأم.
ورغم كل هذا، كان دوما في غربته مسكونا بحب بيروت والرغبة في العودة إليها كلما هدأت الأوضاع الأمنية فيها، هذا الأمر ولد صراعا في داخله أثار عدة تساؤلات بشأن البقاء في الغربة والعودة للوطن.
أدى هذا الصراع لإحساس عرقتنجي بالغربة مرة أخرى، ورغم الأمان الذي توفره فرنسا له ولعائلته، فإنه لم يكن سعيدا بل شعر بالوحدة وكان يشعر أنه “خائن لبلاده لأن السفر يعني الهرب وكان من الضروري أن أعود لوطني، وبعد ثلاثة أسابيع من مغادرتي (2006) عدت إلى بيروت على نفس السفينة الفرنسية التي هاجرت عليها من بيروت في ظل الحصار الإسرائيلي على لبنان، وكنت دائما أطرح السؤال على نفسي: ما الذي يدفعني بشدة للعودة إلى لبنان؟”.
ويلفت عرقتنجي إلى مسألة التاريخ الذي يكتبه المنتصر عادة، لتتعلم الأجيال القادمة، ولكن في لبنان دائما ما تنتهي الحروب دون تحديد الغالب والمغلوب، وهذا ما يترك الباب مفتوحا على احتمال جولات جديدة من الحروب الإسرائيلية على لبنان.
“خذ عائلتك إلى فرنسا واستقروا هناك”.. أحاديث الوالدة
هل أعيد أولادي إلى وطنهم الأم؟ سؤال حمله المخرج إلى والدته –إحدى شخصيات الفيلم- فكان جوابها صادما. وتقول والدته: إن هاجس الحرب لا يزال بداخلك (فيليب) رغم مرور سنوات طويلة، عليك نسيانها والانطلاق نحو حياة جديدة.
وتتابع –في حوارها مع فيليب-: والدك ترك سوريا عندما كان ابن 42 سنة (نفس عمر المخرج عام 2006) وقرر قلب الصفحة، والاستقرار في لبنان وهذا ما عليك أن تفعله، خذ عائلتك إلى فرنسا واستقروا هناك، لست سعيدة بهذه النصيحة، ضحينا بكل شيء لكي تسافروا للخارج وتحصلوا الشهادات، لست سعيدة لأنني أطلب منك العيش أنت وعائلتك في الخارج، الجميع تركوا البلاد ورحلوا، ولكنني لا أفكر بنفسي فقط بل بمستقبلك أنت وعائلتك ففي هذه البلاد لا مستقبل لهم.

كلام أعاد المخرج لفرنسا مجددا وخاصة بعد التحاقه أولاده بمدارس في فرنسا، ولكنه كان يكرر دائما: لست مرتاحا وأريد العودة إلى لبنان، ولكن كان من الصعب أن أطلب من عائلتي أن تعود معي، لأن العودة باتت أصعب من الهجرة أول مرة.
وكان لافتا المشهد الذي يظهر فيه الطلاب في إحدى المدارس الفرنسية، وهم يكرمون الماضي و”شهداءهم” الذين دافعوا عن البلاد، وكان نجل المخرج من بين الطلاب الذين كانوا ينشدون السلام الوطني الفرنسي في المدرسة.
“عبرت ما كان يسمى بخطوط التماس”.. نزهة في شوارع بيروت
بعد 50 عاما وجد عرقتنجي نفسه يسلك الطريق نفسه الذي سار عليه والده عندما قرر ترك سوريا والسفر هو وعائلته إلى لبنان، طارحا السؤال على نفسه: لماذا يتكرر التاريخ معي؟

سؤال جديد من ابنة المخرج، هل شاركت بالحرب؟ فتح لعرقتنجي الباب عريضا أمام تجربته مع الحرب الأهلية التي لم يكن يوما جزءا منها، ولكنها كانت جزءا منه، ويقول عنها: حافلة كانت شرارة لحرب كان رمادها أصلا تحت النار وكانت أدواتها موجودة، حرب امتدت على مدار 15 عاما وأدت إلى مقتل نحو 200 ألف، كما شهدت هذه الفترة غزوا إسرائيليا ودخولا سوريا.
ويصطحب عرقتنجي أولاده في شوارع بيروت التي شهدت معارك عنيفة ليروي لهم جزءا من ذكريات عاشها في فترة عصيبة من تاريخ لبنان. ويقول: كانت بيروت كانت مقسمة إلى قسمين، كان القناصون يتربصون بالمارة، وفي إحدى المرات عبرت ما كان يسمى بخطوط التماس، وأطلق النار علي وكدت أقتل.
خزائن الرصاص الحي.. ألعاب الطفولة اللبنانية زمن الحرب الأهلية
يأخذ عرقتنجي أولاده إلى منزل عائلته، ليفتح لهم خزائن طفولته ويريهم أغراضه والألعاب التي كان يلعب بها، وتركهم يقرأون مذكراته ليتعرفوا أكثر على طفولة والدهم ويتعلموا منها.
وكان من بين هذه الألعاب جمع أغلفة الرصاص والقنابل من الشوارع، كما أخرج من خزانته صندوقا شكل صدمة لأولاده، لأنه يحتوي على رصاص حي ولم ينفجر بعد، ويقول لهم “لم أعش طفولة طبيعية، كل ما أعرفه كان عن الأسلحة والبنادق”. وهذا الأمر لم يعجب ابنه الكبير الذي قال إنه كان يتمنى العودة إلى طفولة والده ولكن بعدما ما سمعه لم يعد راغبا بهذه العودة.
ويختم عرقتنجي جلسة مع أولاده بفتح جرح عميق لم يندمل بعد، بقوله: ثمة في لبنان من يشتاق دائما لرائحة البارود، ولا يزال يرى في الحرب لذة.
ويكشف عرقتنجي عن سبب سفره لفرنسا عام 1989 بعدما شارفت الحرب الأهلية على نهايتها، ويستذكر أصدقاءه المقربين، ومن بينهم سامي الذي قضى نحبه في إحدى معارك الحرب الأهلية، وبعد وفاة سامي عاهد نفسه أن لا يعيش أولاده هذه المحنة.
“لبنان بلد نتركه، لا لنبني فيه مستقبلا”.. قصة اغتراب مختلفة
في هذا الفيلم أيضا مساحة لديان زوجة فيليب، وتروي فيها بأسلوب سينمائي شاعري ومتحرك، قصة اغترابها ونظرة الفرنسيين إليها واندماجها في المجتمع الفرنسي. وهي تقول: ولدت في لبنان وعشت فيه عدة سنوات وهاجرت لفرنسا في أغسطس/آب 1975 أي في بدايات الحرب الأهلية، وتوقع والدي أن الحرب ستستمر زمنا طويلا وهذا ما حصل، فقد كانت عائلتي تتسمر على التلفاز كل يوم لمشاهدة ما يجري في بلدهم، وكانوا يشعرون بالذنب لأنهم تركوه في هذه الظروف.

تأقلمت ديان مع المجتمع الفرنسي وانغمست به حتى النخاع، وتخلت نهائيا عن ارتباطها بلبنان، وتزوجت من فيليب عرقتنجي اللبناني الشرقي الذي قرر فجأة عام 1999 العودة إلى لبنان، لكن ديان شعرت بالصدمة والغربة عندما عادت إلى بلادها الأم، فلم تعجبها الزحمة والضجة والبنايات التي بعضها فوق بعض، ولم تكن تعرف اللغة العربية وكانت منسلخة من ذاتها، حتى أنها تقول: كان الناس يتحدثون معي وكأنني ابنة البلد، بينما أشعر في قرارة نفسي أنني فرنسية، كأنني شجرة انتزعت من جذورها وشعرت بعدم الأمان.
وختمت قائلة: بالنسبة لي، لبنان بلد نتركه، وليس بلدا نبني به مستقبلا، ولهذا فإنني لم أحتمل حرب 2006 واتخذت القرار سريعا بالعودة إلى بلادي (فرنسا)، فعندما تركتها كنت دائما أفكر أنني سأعود يوما ما.
قلعة راشيا.. سجن أعلن فيه استقلال الدولة الطائفية
في أغسطس/آب 2010، قرر المخرج فيليب عرقتنجي العودة نهائيا إلى لبنان هو وعائلته، ولكن الأمور لم تتحسن وبقيت الأوضاع الأمنية في خانة “يوم حلو ويوم مر”، ناهيك عن غياب الاستقرار الأمني والسياسي.
يزور عرقتنجي مع عائلته قلعة راشيا المكان الذي احتجز فيه الفرنسيون رئيس الجمهورية والوزراء وزعماء الطوائف بعد إعلانهم استقلال لبنان في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1943 وأعلنوا إلغاء كل المواد التي تتعلق بالانتداب من الدستور اللبناني. وبعد 11 يوما من السجن خرج رجالات الاستقلال منتصرين ومعلنين قيام الدولة الطائفية التي لا تزال تتخبط منذ ذلك الوقت.

ويلفت عرقتنجي إلى أن الاستقلال هو الفصل الوحيد في كتاب التاريخ الذي يُدرس في المدارس اللبنانية، أما ما حدث وراءه، فتصمت عنه الكتب لأن الأطراف لا تتفق على ما حصل، حتى أصبح لبنان بلدا “بلا تاريخ، ودائما ما يكرر أخطاءه”.
ويختم عرقتنجي فيلمه، بحوار مع أولاده الذين يريدون العودة لفرنسا، ويقول: لا أزال أومن بهذه البلاد وقيمها، فإن نحن تركناها فمن سيبقى فيها؟ نحن أحرار حتى ولو كنا نكرر في بعض الأحيان تجارب أسلافنا، فالهدف أن تقولوا لأنفسكم إن الماضي هو جزء منكم وليس أنتم، وهذا زادكم لمستقبلكم، وعندما تتعرفون على ماضي والدكم وأجدادكم، فسيكون لديكم الخيار أن تأخذوا منه ما يناسبكم، وتتركوا ما ترونه حملا ثقيلا على مستقبلكم.