“روبرت دي نيرو”.. ألغاز الغامض الخجول وملك شباك التذاكر

بلال المازني

في العام 1943 في قرية غرينويتش بنيويورك كانت “فيرجينيا أدميرال” -وهي رسامة أمريكية مغمورة ذات أصول مختلطة، وتحمل دماء النبلاء الفرنسيين، وترجع أصولها إلى أسلاف بريطانيين وألمان- على وشك أن تضع طفلا من زوجها “روبرت دي نيرو” ذي الأصول الإيطالية، واختارا له من الأسماء “روبرت أنتونيو دي نيرو”. وطيلة قرابة نصف قرن منذ ولادته، ضرب “دي نيرو” الابن الذي يسطع نجمه في العقد الثالث من عمره، أسوارا من الغموض على حياته الخاصة، وتمنّع في كشف سر عبقريته في أداء أدواره السينمائية.

“روبرت دي نيرو”.. أسرار وريث الرمز الثقافي الأمريكي

تتبع الصحفيون وكتاب السير الذاتية في مسالك مسدودة مسيرة أكثر من عشرين عاما من المجد الذي خطّه الممثل “روبرت دي نيرو”، وتحفّظ على أدواته السحرية التي ثبّتته نجما ساطعا في هوليود حتى التحق بأعلى طبقات النجومية، ليصبح أحد الأيقونات الثلاث في السينما الأمريكية رفقة “جيمس دين” و”مارلون براندو”.

يقول الناقد السينمائي “جاك كرول”: ذلك التنوع المذهل وصدق توصيفاته هو ما يجعله -وهو ابن 33 عاما- الممثل الأمريكي الشاب الأكثر إثارة على الساحة، وهو الممثل الذي يتمتع بقدرة أكبر على الجمع بين النجومية والموهبة الإبداعية غير العادية. أكثر من ذلك، فإن “دي نيرو” هو الوريث الواضح لمنصب الرمز الثقافي الأمريكي الذي احتله “مارلون براندو” والراحل “جيمس دين”. وكما فعل “براندو” و”دين” في عقود ما بعد الحرب، يبدو أن “دي نيرو” يجسد الطاقات المتضاربة والمثيرة للجدل لجيله.

روبير دينيرو حاملا لجائزة الأوسكار عام 1975

 

في العام 1996، نُفض بعض الغموض عن حياة “روبرت دي نيرو” حين أسرّ النجم الأمريكي إلى الصحفي البريطاني “آندي دوغان” ببعض تفاصيل حياته الخاصة التي صنعت “دي نيرو” الممثل والإنسان.

ورشة الرسم.. طفولة فنية بين ثنايا الفرشاة

ولد “روبرت دي نيرو” الذي اشتهر باسم “بوبي” في السابع عشر من أغسطس من العام 1943، في شارع “بليكر” أشهر الأحياء البوهيمية في قرية غرينويتش بمدينة نيويورك، وكان البيت الذي ترعرع فيه زاخرا بالرسوم واللوحات، ففتح “بوبي” الصغير عينيه في ورش الرسم، فوالداه “روبرت دي نيرو” و”فيرجينيا أدميرال” كانا رسامين لم يتجاوز صيتهما حدود الحي الذي يسكنانه في ذلك الوقت، في المقابل كانت والدة “بوبي” شيوعية ونشطت ضمن “رابطة الشباب التروتسكي الاشتراكية” خلال دراستها الأدب في جامعة كاليفورنيا في “بريكلي”.

 

يقول الكاتب “ريتشارد كولن تايت” وهو أستاذ درّس بجامعة تكساس وكتب بحوثا عن “روبرت دي نيرو”: كانت عائلة “دي نيرو” منغمسة في الحياة الثقافية، وتمركزت في المشهد الثقافي المزدهر في قرية غرينويتش. وكان صالون منزل العائلة دائما مسرحا للنقاشات الممتعة خلال جلسات ثقافية وأدبية بين فنانين وأدباء سيكتسبون الشهرة بعد ذلك. لقد كانت قرية غرينويتش المكان الأمثل للغوص في الثقافة والفن. في المقابل لم يحظ “بوبي” الصغير بدفق عاطفي كبير من والديه الذين انفصلا حين كان رضيعا لم يتجاوز العامين من عمره، بعد أن أعلن والده عن مثليته.

حياة الطفولة.. تأثيرات أعراق مختلطة وعوالم مختلفة

يقول “شاون ليفي” صاحب كتاب “دي نيرو: حياة” إن المرحلة المبكرة من حياة “دي نيرو” والأصول المختلطة لوالديه أثرت فيه بطرق واضحة، وأنه قد يكون مستمتعا بتلك البصمة التي لم يحاول محوها أبدا.

ويضيف: إذا كان “روبرت دي نيرو” ينحدر من سلالة تنتمي للبلاط الفرنسي وأخرى من المستعمرين الغزاة الإنجليز الذين قاتلوا السكان الأصليين لأمريكا، فإن المزيج الإيطالي الإيرلندي هو الذي سيترك أثرا واضحا في شخصية “روبرت دي نيرو”، رغم أنه لم يعش مع والده سوى سنين قليلة، لكنه كان قريبا منه وتعلم منه “العمل المضني والنقد الذاتي والإصرار على الإبداع الخالص”.

ويكشف الكاتب “ريتشارد كولن تايت” أن “روبرت دي نيرو” الصغير اضطر في بعض الأحيان إلى قضاء بعض الوقت صحبة والده، فكان يراقب عمله في ورشته الخاصة، كما كان يتردد على المكتبات، وبدأ يكتسب شيئا من سمات أبيه بما في ذلك الغرق في صمت مفاجئ.

روبرت دي نيرو وهو طفل رفقة والده

 

يقول “تايت”: ملخص القول إن “دي نيرو” كان طفلا وحيدا وخجولا بشكل يثير الحزن، فقد كان يقضي جزءا من وقته مراقبا ما يحيط بالقرية مثل حديقة واشنطن سكوير وحي إيطاليا الصغيرة. وكان يقضي عامه الدراسي مع والدته، ثم ينتقل في عطلة الصيف إلى مدينة سرقوسة الإيطالية لقضاء العطلة مع عائلة أبيه الإيطالية، هناك تعلم اللغة الإيطالية وقيل إنه عرف أوائل قادة المافيا.

ومثلما قضى جزءا من طفولته متسكعا بين المكتبات، فقد رافق أيضا أطفال الشارع الذين أطلقوا عليه اسم “بوبي الأبيض” بسبب لونه الشاحب، ويقول في شهادته في كتاب “ممنوع: سيرة روبرت دي نيرو” للكاتب “آني دوغان” إنه حافظ على صداقته ببعض أطفال الشوارع الذين تسكع معهم في صغره.

“ستيلا أدلر”.. أيقونة المسرح التي أشعلت شرارة الموهبة

درس “روبرت دي نيرو” في مدرسة عمومية بقرية غرينويتش، وهناك قام بأول دور له في مسرحية “الساحر أوز”، وهو ابن عشر سنين، وجسّد فيها شخصية الأسد، وقد تكون تلك المسرحية الشرارة الأولى التي أطلقت شغفه بالمسرح حين كان يافعا، ويبدو أن والدته التقطت ذلك الشغف بذكاء كبير لتسجله في ورشة للفنون المسرحية يديرها المسرحي الألماني “إيروين بيسكاتور”، وهناك التقى مع “ستيلا أدلر” أستاذة المسرح التي أثرت في مسيرته.

انتمى “روبرت دي نيرو” إلى مسرح بداية القرن العشرين الذي كان من أعلامه “جون باريمور” و”إيميل جانينغز” و”وورنر كراوس”، وكان “إيروين بيسكاتور” الذي انتمى إلى مسرح ما قبل الحرب في برلين صديق “دي نيرو” في طفولته، أما أستاذته “ستيلا أدلر” فقد نشأت في مسرح “غيلد” في ثلاثينيات القرن الماضي، وجاءت من ما يعرف بمسرح اليديشية نسبة للغة اليديشية أحد تفرعات العبرية. يقول “جون باكستر” في كتابه “دي نيرو: سيرة ذاتية” إن بوبي “وُلد ليعرض في مسرح لم يعد موجودا، وحشر مارد موهبته في زجاجة الأفلام الضيقة”.

ستيلا أدلر في أحد صفوف التمثيل

 

التحق “روبرت دي نيرو” بأكاديمية “ستيلا أدلر للموسيقى والفنون” قبل أن ينهي عامه الخامس عشر بقليل، وهي أكثر الأساتذة تأثيرا واضحا على أسلوب أدائه. يقول “دي نيرو”: “ستيلا أدلر” هي مصدر إلهام لي كمعلمة، كان هناك الكثير من البهاء في حضورها. كانت معلمة جيدة جدا. أنا دائما أرجع لها الفضل في إحداث تأثير كبير علي.

درس “دي نيرو” ثلاث سنوات في الأكاديمية، قدمت خلالها “ستيلا أدلر” أكثر الدروس التي نحتت شخصيته أمام الكاميرا، خاصة التدريبات الفردية التي قدمتها له في  علاقة بتحليل السيناريو وفي فهم منهج المسرحي الروسي “قسطنطين ستانيسلافسكي” مؤسس المسرح الحديث، ويعتمد على الغوص في عمق الشخصية التي يجسدها الممثل تدريجيا  من خلال تصورها في الذهن دون عزلها عن تاريخها وعن أقوالها وحركاتها حتى تلبس الشخصية الممثل، وهو في الواقع ما طبقه “دي نيرو” حرفيا في أعظم أدواره التي أداها في  أفلام “سائق التاكسي”(Taxi Driver)  و”العراب 2″ (The Godfather 2) و”الثور الهائج” (Raging Bull).

“شوارع لئيمة”.. مفتاح إلى عالم النجومية الأكبر

مهّد “روبرت دي نيرو” طريقه للنجومية وهو ابن 16 عاما حين درس ثلاث سنوات في أكاديمية “ستيلا أدلر” ليلتحق بعدها بـ”أكتورز ستوديو” الذي أداره “لي ستراسبورغ”، وكان مشتلا لألمع نجوم السينما مثل “آل باتشينو” و”غاري أولد مان” و”مارلون براندو” أحد مؤسسي الأستوديو.

وفي العام 1963 بدأ تجارب الأداء حتى حصل على أول دور مهم في فيلم “تهنئة” (Greetings) و”حفل زفاف” (The Wedding Party) للمخرج “براين دي بالما” في العامين 1968-1969، وكان قد اكتشف “دي نيرو” خلال تجربة أداء مفتوحة في قرية غرينويتش، فانبهر “دي بالما” بأدائه وقرر أن يعطيه الدور.

روبير دينيرو رفقة مارتن سكورسيزي من فيلم شوارع لئيمة

 

فُتح باب التمثيل أمام “دي نيرو” بشيء من البطء مع أدوار صغيرة مثل فيلم “ثلاث غرف في منهاتن” (Three Rooms in Manhattan) للمخرج الفرنسي “مارسيل كارني” في العام 1965، و في العام 1970 يعود “دي نيرو” مع المخرج الكبير “برايان دي بالما” في فيلمه “مرحبا أمي” (Hi Mom)، وفي العام ذاته حصل “دي نيرو” على دور في “الأم الدموية” (Bloody Mama) للمخرج “روجر كورمان”، وقد جسّد فيه دور رجل عصابات مدمن خلال العشرينيات، قبل أن ينال في العام 1973 الدور الذي فتح له الباب على مصراعيه ليلتقطه أكبر مخرجي السبعينيات  في فيلم “دق الطبل ببطء” (Bang the Drum Slowly)، حين جسد دور لاعب بيسبول يلعب آخر مبارياته بعد إصابته بمرض لن يشفى منه .

 

من هناك أصبح “دي نيرو” أحد أهم الأرقام التي يتهافت عليها المنتجون في هوليود، خاصة بعد فرصته الذهبية التي أقلعت به عاليا في سماء الشهرة، حين منحه المخرج البارع “مارتن سكورسيزي” دورا في فيلمه “شوارع لئيمة” (Mean Streets)، ومكّنه دوره في هذا الفيلم  من الفوز بدور في فيلم “العراب 2” (The Godfather 2) للمخرج “فرانسيس فورد كابولا” في العام 1974، وهو الدور الذي نال به مفاتيح المجد، خاصة بعد فوزه بجائزة الأوسكار لأفضل دور ثانوي أدى فيه شخصية رجل العصابات “فيتو كورليوني” في شبابه، ومهّد له ذلك الدور الحصول على أدوار أخرى في أفلام أبدع فيها حتى أصبحت مهنته وحياته المادة الأكثر إثارة لفضول النقاد والصحافة في الولايات المتحدة الأمريكية.

“سائق التاكسي”.. أحد أعظم الأعمال في تاريخ السينما

بين العامين 1973-1976 دخل الممثل “روبرت دي نيرو” محطة جديدة ثبتت أقدامه في السينما الأمريكية، ففي تلك الفترة كانت هوليود تعيش أوج نهضتها، وسطع نجم مخرجين وممثلين قادوا السينما الأمريكية إلى عصر جديد، ووسط ذلك الزلزال وقف “دي نيرو” ثابتا، وحصل على فرص حاسمة للعمل مع أهم المخرجين مثل” دي بالما” و”كوبولا” و”بيرتولوتشي” و”سكورسيزي”.

وفي العام 1976 حصل على دور رئيس في فيلم “سائق التاكسي” الذي أخرجه “مارتن سكورسيزي”، وتدور أحداث ذلك الفيلم حول جندي سابق مكتئب يعمل سائق سيارة أجرة ليلا، وحين يشاهد خللا في مدينته يحاول إصلاح كل الأخطاء بالنار والرصاص.

 

 

يقول الكاتب “ريتشارد كولن تايت”: إن “روبرت دي نيرو” قد طور نظاما فريدا خاصا به للتمثيل في ذلك الفيلم، واشتهر بقضاء الوقت كسائق سيارة أجرة للتعمق في دوره، بالإضافة إلى المساهمة في وضع الخطوط الرئيسية والمشهد بأكمله صحبة المخرج.

وهو أمر لا ينفيه “سكورسيزي” في كتاب “سكورسيزي في سكورسيزي” حين قال: كنت قد قرأت رواية “مذكرات من العالم السفلي” للكاتب “دوستويفسكي” قبل عدة سنوات، وكنت أرغب في صنع فيلم عنها، وفيلم “سائق التاكسي” كان أقرب شيء لتلك الرواية. حاول “دي نيرو” كتابة السيناريو حول موضوع قاتل مهوس، وأخبرني بالقصة. لم نكن مقربين جدا في ذلك الوقت، لكنه قرأ النص وقال إنه مشابه جدا لفكرته فكان الأمر أن دمجنا الفكرتين معا.

يُصنف النقاد فيلم “سائق التاكسي” ضمن قائمة أفضل الأفلام على الإطلاق، وهو الفيلم الذي أنبأ عن نجم لا تنطفئ شعلته، فلم يمر عامان على خروج فيلم “سائق التاكسي” حتى عُرض فيلم “صائد الغزلان” (The Deer Hunter) للمخرج “مايكل سيمينو”، وهو فيلم دراما حرب جسد فيه “دي نيرو” دور جندي ناج من جحيم حرب فيتنام عاد إلى بلاده حاملا فوق كتفه وزر البندقية وذكريات الحرب التي عاشها، وتصدر الفيلم أفضل فيلم لذلك العام وحصل على خمس جوائز أوسكار.

“الثور الهائج”.. شغف يصنع أفضل أفلام السيرة الشخصية

كانت مرحلة ما بين العامين 1978-1980 مرحلة احتكار “روبرت دي نيرو” لأغلب الأدوار في أفلام مخرجين كبار، حتى أنه لم يفارق “مارتن سكورسيزي” إلا بعد المشاركة في تسعة أفلام على الأقل للمخرج، وهي أيضا المرحلة التي أصبح فيها نجم السينما الأمريكية دون منازع في ذلك الوقت.

قبل تلك الفترة بقرابة أربع سنوات بعد أن أدى “دي نيرو” دور “جوني بوي” في فيلم “شوارع لئيمة” و”فيتو كورليوني” في فيلم “العراب 2″، وصله كتاب عن حياة “جايك لاموتا” الملاكم الشهير الذي أفل نجمه، مصحوبا ببضع كلمات وقعها الملاكم، قال فيها: حسب صديقي “بيت” أنت الممثل الوحيد في العالم الذي يمكنه أن يصوّر حياتي المجنونة، وأن يحييها مرة أخرى.

رويبرت دي نيرو يتدرب مع جايك لاموتا الحقيقي

 

ثم عرض “دي نيرو” الكتاب على “مارتن سكورسيزي”، فأجابه في البداية ساخرا “ما هذا الهراء؟”، قبل أن يقبل القصة لاحقا لينجز في العام 1980 فيلم “الثور الهائج” وهو أفضل أفلامه، ويروي قصة الملاكم” جايك لاموتا”.

قضى “روبرت دي نيرو” وقتا كبيرا في دراسة شخصية “جايك لاموتا” حتى أنه تعلم الملاكمة ليجسّد شخصية الملاكم بكل عفوية وصدق. يقول الأستاذ “ريتشارد كولن تايت” إن البحث قاد “روبرت دي نيرو” إلى أن الملاكم “جايك لاموتا” كان مهوسا بوزنه، وأن ذلك هو مفتاح فهم شخصية “لاموتا”.

ويضيف: مثلما يفعل المؤرخ عند تحضيره لنشر كتاب عن اكتشاف وجده، يكتب “دي نيرو” ذلك التاريخ، ويجسد الأحداث بصدق كما هي.

 

في الواقع، من الإجحاف القول إن نجاح فيلم “الثور الهائج” -الذي خوّل له تصدر مراتب متقدمة جدا ضمن قائمة أفضل الأفلام الأمريكية على الإطلاق- صنعه مخرجه “مارتن سكورسيزي” فحسب، فقد شكّل “روبرت دي نيرو” شخصية “جايك لاموتا” بإتقان، بفضل بحثه ومراسلاته لكل من أحاط بشخصيته، حتى أن “مارديك مارتن” كاتب سيناريو “الثور الهائج” قدم مسودة قصة الفيلم الذي سماه في البداية “المقاتل” إلى “دي نيرو” عوضا عن “سكورسيزي”، وقدم الممثل النجم ملاحظاته التي تثبت أنه شارك في كتابة السيناريو حسب الأستاذ “ريتشارد كولن تايت”.

احتكار شباك التذاكر.. نجاح جماهيري لممثل نخبوي

لم تكن محطات نجاح “روبرت دي نيرو” في ثمانينيات القرن الماضي قليلة، فقد نال استحسان النقاد في فيلم “حدث ذات مرة في أمريكا” (Once Upon a Time in America)، وهو آخر أفلام المخرج الكبير “سيرجيو ليوني” وقد أخرجه في العام 1984. ثم فيلم الخيال العلمي البريطاني الأمريكي “البرازيل” (Brazil) للمخرج  “تيري جيليام” المصنف ضمن السينما السياسية الساخرة، واحتل الفيلم حسب كثير من التصنيفات المرتبة الرابعة والخمسين ضمن أفضل الأفلام البريطانية على الإطلاق.

واصل “دي نيرو” ملاحمه مع المخرج “مارتن سكورسيزي” الذي منحه دور البطولة كالعادة في فيلم “الأصدقاء الطيبون” (Goodfellas) في العام 1990. تقول صحيفة “هوت دوغ” البريطانية نقلا عن المنتج البريطاني “غودوين ريتشارد” إنه ما إن قدم “روبرت دي نيرو” موافقته على الدور الذي قدمه له “سكورسيزي” للمشاركة في الفيلم، حتى ضمن المخرج الحصول على أي مبلغ لإنتاج فيلمه.

 

كان “دي نيرو” في أوج مجده في تلك الفترة، ولم يتوقف عن العطاء طيلة أكثر من نصف قرن، رغم أن شبابيك التذاكر فُتحت لأسماء جديدة، غير أن “دي نيرو” الذي قدم أدوارا في أفلام نقشت على قائمة أفضل الأفلام في تاريخ السينما الأمريكية، بل شارك في صنع قصصها؛ يظل الممثل الأكثر غموضا الذي لم يفصح عن سر السحر الذي يسكبه في الشخصيات التي يجسدها حتى العام 2006 حين تبرع لمركز “هاري رانسوم” بجامعة تكساس بآلاف الوثائق من أرشيفه الذي أزاح الستار عن غموضه.

 

الرجل الغامض.. أسرار تنكشف بعد نصف قرن

يقول “شاون ليفي” صاحب كتاب “حياة دي نيرو” إن مصطلح الأيقونة مناسب تماما لرجل حفظ أسرار حياته الخاصة وأخفى منهج عمله في التمثيل، وفي الكتاب ذاته، يصفه “ليفي” في إحدى أولى مقابلاته الصحفية، بأنه ثار وخرج مثل “حيوان متوحش” حين انهالت عليه أسئلة الصحفيين، فكان مصمما على عدم كشف أو شرح أي شيء عن حياته الخاصة أو عن أساليب عمله.

ويضيف “شاون ليفي”: في البداية كان الأمر يبدو ممتعا للجميع، وعلى ما يبدو كان “دي نيرو” يتعامل مع الصحافة تماما مثل “مارلون براندو” القديم، ولكن مع مرور الوقت نوقش تحفظه بنبرة أكثر حدة حتى وُصف بأنه مرض أو شكل من أشكال السيطرة، كما وُصف بالافتقار إلى الاحتراف.

وبحلول الثمانينيات تعززت نجوميته، وأصبح غموضه موضوعا للنقاش، وكتبت المجلات الكبرى مقالات طويلة حول موضوع إحجام “دي نيرو” عن إجراء مقابلة معها، وحول صمت أصحاب المتاجر والمطاعم في مثلث “تريبيكا” قرب نيويورك التي يرتادها “دي نيرو”، معاضدة له في حماية خصوصياته.

 

وفي منتصف التسعينيات صدر كتاب “ممنوع: سيرة روبرت دي نيرو” للكاتب البريطاني “أندي دوغان” الذي كشف فيه جزءا من حياة الممثل، ثم مئات الوثائق والأرشيف الخاص التي أهداها “دي نيرو” في العام 2006 لجامعة تكساس وهي كنز للدارسين، ورغم ذلك ظل النقاد وأكبر كتاب أعمدة السينما في الصحافة الأمريكية يفككون شخصية دي نيرو الإنسان والممثل مثل طلسم، فكان تارة “جوني بوي” في فيلم “شوارع لئيمة”، “وتارة “فيتو كورليوني” الشاب الذي قلب العالم في فيلم “العراب 2” وأخرى “ترفيس بيكل” القنبلة البشرية الموقوتة في فيلم “سائق التاكسي” وطورا “مايكل فرونسكي” الجندي الذي نجا من جحيم فيتنام وحاول أن يدفن ذكريات الحرب في قبر صديقه في فيلم “صائد الغزلان”، وكان أيضا الملاكم “جايك لاموتا” الذي خاض حربا ضد خصومه في الملاكمة وضد عائلته وحارب نفسه أيضا في فيلم “الثور الهائج”، فكل تلك الوجوه كانت خطوطا رسمت تفاصيل الممثل العبقري الغامض روبرت دي نيرو.

وفي العام 2006، رفع “دي نيرو” الحجاب عن أرشيفه الذي يرجع إلى بداية الستينيات، فكان بمثابة غنيمة للنقاد الذين طالما حاولوا تشكيل صورة واضحة المعالم عن الممثل “روبرت دي نيرو”، رغم أنه لا يخفى على أحد أنه الأكثر وفاءا  لمدرسة “التمثيل المنهجي” المرتكزة أساسا على تجسيد الأدوار بعواطف صادقة، وبالاعتماد على تشريح نفسي دقيق للشخصية التي سيؤدي الممثل دورها.

يقول الناقد السينمائي الأمريكي “هال هدسون” في مقاله “ملاحظات عن ممثلي مدرسة التمثيل المنهجي” إن تركيز “روبرت دي نيرو” على الاندفاع السلوكي والتعبير الجسدي يمثل ذروة تقليد أسلوب التمثيل المنهجي، وقد ظهرت بشكل جلي في فيلم “الثور الهائج” حسب قوله.

 

تظهر الملاحظات التي دونها “دي نيرو” على هوامش وثائق تؤرخ مسيرته الثرية في مجال السينما أنه كان مهوسا بالتفاصيل. يقول “شاون ليفي” في كتابه “دي نيرو: حياة”: كان بإمكانه أن يدفع المخرجين والزملاء بالتمثيل إلى الجنون من خلال تركيزه الهائل على التفاصيل، وحتى في مرحلة متأخرة جدا من حياته المهنية حين اتهمه النقاد والجماهير في كثير من الأحيان بقبول أي دور مقابل أجر مادي، يمكنك رؤيته يصنع شخصيات حقيقية بعناصر مختارة بعناية، بدءا من الملابس، وصولا إلى مخارج الحروف والسلوك، والعادات. باختصار، يرى “دي نيرو” التمثيل كمهنة، ولعب الشخصية كعمل أخلاقي، وكان يبذل جهدا للارتقاء إلى معاييره المهنية والأخلاقية.

كانت توليفة “روبرت دي نيرو” بسيطة ومعقدة في الآن ذاته، فقال ببساطة حين تحدث عن سر نجاح فيلم “الثور الهائج” إن هدف الفريق كان جعله واقعيًا – كان هدفنا أن نصنع فيلمًا حقيقيا، عن أناس حقيقيين، عن أشخاص كانوا في بعض النواحي يُنظر إليهم بازدراء.