الفاروق عمر بن الخطاب.. حكمت فعدلت فأمنت فمنت

لا يعرف اسم دخل تاريخ السياسة من أعماق الفضيلة وبوابات العدالة، ومن منابر العفة والزهد أكثر لمعانا وبريقا وخلودا في ذاكرة التاريخ من أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

كان هذا الفتى العدوي ابن مكة المهيب ولسان قريش الفصيح، إذا مشى بين جنبات البطحاء القرشية أشارت إليه الأصابع، ورنت نحوه العيون، ومالت إليه الأعناق، فهو إلى زعامته وراسِخ مجده القرشي أسد هصور من آساد مكة يهابه الأشراف والقادة، فقد أوتي بسطة في الجسم والمال، وقوة في الساعد، واتقادا في الذهن، وسيرا حثيثا على خطى المجد إلى ذرى الزعامة.

وبين مولده ورحيله شهيدا مطعونا كان الفاروق حديث الناس، وقدوة الفتيان، ومثال السمو في جاهليته وإسلامه، وما زالت ذكراه سفر القرون الذي تتلوه الأجيال والأيام، وما زال -رغم تراث القرون- المثال الأبهى للعدل والإنصاف.

سفير قريش.. رحلة الفروسية والفتوة والتجارة

إلى الذرى العالية من بني عدي بن كعب وإلى أرومة الزعامة ينتمي الفاروق، فهو ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى سيد بني عدي، وينتهي نسبه إلى مالك بن النضر الذي تتفرع منه بطون قريش، ويجتمع مع الرسول الأعظم محمد ﷺ في كعب بن لؤي بن غالب.

أما أمه فهي سيدة من بني مخزوم أحد أكبر وأقوى بطون قريش بعد بني هاشم، فهي حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم.

والراجح أن عمر بن الخطاب ولد عقب عام الفيل بحوالي 13 سنة، وقد عاش طفولة مكية قوية عجمت عوده وعوّدته الصبر على تكاليف الحياة، حتى صلب شأنه وقويت عزيمته قوة جبل العاقر الذي أقام في سفحه بنو عدي منازلهم، قبل أن يعرف لاحقا باسم جبل عمر.

وقد امتازت طفولة عمر بالعمل والجد، فكان راعيا لوالده وبعض أقاربه، لكنه امتاز عن جيله بتعلمه الكتابة والقراءة سريعا، وسرعان ما تناغم وعيه الثقافي المتقدم على جيله مع وعي فروسي شامخ، فتعلم المصارعة وركوب الخيل، وكان الفتى الطويل القوي الذي لا يقهر في صراع ولا سباق.

ثم مالت نفسه نحو التجارة، فحضر مواسمها الكبرى في سوق عكاظ وذي المجاز، فارتفعت منهما أسهمه التجارية وفرصه في الإيراد والتصدير، وانتقل منهما في سياحة تجارية في إيلاف الشتاء والصيف إلى اليمن والشام، وأصبح مع الزمن أحد أثرياء قريش، يدفعون به سفيرا إن جرت بينهم وبين غيرهم من القبائل خصومة أو منافرة، وكان عمر في سفارته تلك ممن يصدق عليهم القول:

إذا كنت في حاجة مرسلا
فأرسل حكيما ولا توصه

فقد صقلت الأيام عارضته، وصفت سليقته، وأطلقت لسانه بالبيان العذب والمنطق الفصيح والحجة الصارمة، فلذلك كان خير سفراء قريش.

“أريد محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش فأقتله”

خط القدر لعمر بن الخطاب مسارا غير الذي كان يسعى إليه، واستل من قلبه سخيمة غضب شديد وتلهف للقضاء على الإسلام في مهده، فقد كانت نفحات النبوة ودعوات الأسحار التي كان يبعثها الرسول ﷺ بريدا إلى الملأ الأعلى لينصر الله الإسلام بأحد العمرين، وكانت قذائف الحق أسرع إلى قلب ابن الخطاب منها إلى سَميّه أبي جهل عمرو بن هشام.

كان عمر من أكثر رجالات قريش عداوة للإسلام ورفضا له، وكان يعذب جارية له بلغه أنها أسلمت، فكان يوسعها ضربا، فإذا أقلع عن عذابها قال ما تركتك إلا ملالة، ولكن القلب القاسي الذي ملكه عمر برهة من الدهر، بدأ يتشقق كما تشقق الأرض العطشى إذا ما استقبلت الغيث، وبدأ يهتز لعاطر الدعوة التي بدأت تفوح داخل بيته وأسرته الخاصة.

ويبدو أن عمر رضي الله عنه كان في تلك الفترة الانتقالية يعيش حالة من الصراع النفسي والشك الوجودي بين ما يراه من تصميم وصبر أصحاب النبي الكريم ﷺ على محنتهم، وما يثيره ذلك في قلبه من الشك والريبة واهتزاز الثوابت الوثنية، وخصوصا أنه يعرف من النبي ﷺ من جميل القيم وجليل الصفات ما يستحيل معه غير الصدق والوفاء، فيرقّ قلبه تارة لمهاجرين قرروا ركوب البحر والفرار بدينهم فيدعو لهم “صحبكم الله”، ويفاجئ هذا الموقف من عرفوا سطوة عمر، فيطمعون له بالإسلام قبل أن يشكك أحدهم في ذلك فيقول: لن يسلم حتى يسلم حمار الخطاب.

وفي الصميم والعقل الباطن الراسخ من قيم الوثنية وعزة قريش، كانت الغطرسة تسول لابن الخطاب أن يقتل الرسول الأعظم ﷺ ويريح قريشا منه ومن صداع دعوته.

يشحذ عمر سيفه وينطلق بقوة الغضب لينفذ مخططه، وهنالك ترسم الأقدار بقية خطوات الطريق، حيث يلقى ابن عمه نعيم بن عبد الله العدوي، فيسأله أين تريد يا عمر؟ فيرد عليه قائلا: أريد محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها فأقتله.

ولما تأكد نعيم بأن عمر ماض في خطته أراد أن يشغله بنفسه قليلا، فقال له: “والله لقد غرتك نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ فإن ابن عمك سعيدا بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب قد -والله- أسلما وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما.

“مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى”.. آيات تزلزل كيان عمر

نجحت خطة نعيم بن عبد الله -وكان مؤمنا يكتم إيمانه- وانطلق عمر إلى بيت أخته الذي كان يحتضن في تلك اللحظات حلقة تعليم قرآنية، فدخل غاضبا وضرب ابن عمه وصهره وصفع أخته حتى سالت الدماء من وجهها، بينما اختفى خباب بن الأرت، وحاول عمر أن ينتزع من يد أخته صحيفة القرآن التي كانوا يتلونها، فقاومت بشدة، ونهرت أخاها الهصور بأن لا سبيل لانتزاعها ما لم يتطهر.

وبعد أن نفح جسده بالماء الطهور، بدأ يقرأ من الصحيفة:

“طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى”.

آيات سورة طه التي يعتقد بأنها كانت سبب إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه

كانت الآيات الباهرات تأخذ بمجامع قلب عمر، تنساب إلى شغافه كما تعْبر النفحات العاطرة الأوردة العطشى إلى عبق العبير، فاهتز الجسد وتدفقت العروق بدماء الإيمان الجديد، ومحت فواصل الآيات درن السنين الوثنيات، فانطلق اللسان فصيحا “ما هذا بكلام بشر”، ثم ثنّى بالشهادتين، وطوت العقيدة الجديدة إلى الأبد صفحة من حياة عمر، وولدت عمر جديدا.

ولعل هذه الرواية هي الأشهر عن إسلام ثاني الخلفاء الراشدين، لكنها ليست الوحيدة، فقد جرى قلم التاريخ بروايات أخرى، تختلف أحداثا وتواريخ، فمنها ما يرى أنه أسلم قبل الهجرة بقليل، ومنها ما يحدد ذلك الإسلام بالسنة الخامسة أو السابعة من البعثة النبوية الشريفة.

“ألم يأن لك أن تسلم يا عمر؟”.. ميلاد الفاروق

بعد نطقه بالشهادتين، انطلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى النبي الكريم ﷺ في غار حراء، وهنالك جذبه ﷺ جذبة رجل أقوى منه وأصلب عودا، وسأله ألم يأن لك أن تسلم يا عمر؟ فأسلم عمر، وتنفس المسلمون المختبئون بدار الأرقم الصعداء، فقد رابهم وهالهم أن يروا عمر متوشحا بسيفه صاعدا إلى بيتهم فوق الجبل.

والواقع أن إسلام عمر لم يكن حدثا عابرا بل كان هزة في مكة وفي مسيرة الدعوة الوليدة، ولأجل ذلك فضّل المواجهة، إذ قال للنبي الكريم ﷺ: يا رسول الله ألسنا على الحق؟ فأجابه: نعم. قال عمر: أليسوا على الباطل؟ فأجابه: “نعم”. فقال عمر: ففيمَ الخفية؟ قال النبي ﷺ: فما ترى يا عمر؟ قال عمر: نخرج فنطوف بالكعبة. فقال له النبي ﷺ: نعم يا عمر.

خرج المسلمون لأول مرة يكبرون ويهللون في صفين، صف على رأسه عمر بن الخطاب، وصف على رأسه حمزة بن عبد المطلب، وبينهما الرسول الحبيب ﷺ، حتى دخلوا وصلّوا عند الكعبة. ومن بعيدٍ نظرت قريش إلى عمر وإلى حمزة وهما يتقدمان المسلمين، فَعَلتْ وجوهَهُم كآبة شديدة، يقول عمر: فسماني رسول الله ﷺ الفاروق يومئذٍ.

ويجدد صهيب الرومي هذا المعنى حين يقول: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودُعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به. وقال عبد الله بن مسعود: ما كنا نقدر أن نصلّي عند الكعبة حتى أسلم عمر، وما زلنا أعِزَّة منذ أسلم عمر.

عصر المدينة.. هجرة على رؤوس الأشهاد إلى أرض النخيل

عندما ضاقت مكة بمؤمنيها، بدأت رحلة الهجرة والعبور على ضفاف الموت والألم إلى شطآن أكثر أمنا، فاختار الفاروق طريق التحدي، وأبى إلا أن يخرج في وضح النهار شاهرا سيفه داعيا عتاة قريش إلى الموت الزؤام إن قرروا أن يلحقوا به.

وتقول الرواية إن عمر تقلد سيفه ووضع قوسه على كتفه وحمل كنانته وطاف بالكعبة سبعا، ثم توجه إلى مقام إبراهيم فصلى، ثم نادى في قريش: شاهت الوجوه، لا يُرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمه أو ييتم ولده أو يُرمل زوجته، فليلقني خلف هذا الوادي. فلم يتبعه أحد منهم.

وسار عمر ولحقت به ثلة من المهاجرين لينطلق موكبه في قرابة العشرين من الصحابة استظلوا بظلال عزته، ووصلوا المدينة المنورة آمنين، ليكونوا جزءا من نواة المجتمع الإسلامي الجديد في مدينة الجبال والنخيل، وقد انسجم الفاروق مع المجتمع الجديد، وآخى بينه النبي ﷺ وبين صحابي آخر من الأنصار، واحتل مكانا سميّا في الديوان السياسي والاستشاري للنبي ﷺ، وكان ذا صوت مسموع ورأي راجح مكلل بالتسديد والتوفيق.

وقد كان الفاروق ذا مبدأ صارم يستند دائما إلى جذع العقيدة، ملغيا دائما كل الأسباب والعلاقات إذا ما تعارضت مع أصل إيمانه وعقيدته الإسلامية، حيث دعا في التحضير والتشاور حول غزوة بدر إلى صرامة فعلية، ودعا إلى قتل الأسرى مهما كانت قرابتهم من المسلمين.

“والله ما مات رسول الله ﷺ”.. يوم حزين في طيبة

كانت علاقة الفاروق بالنبي ﷺ تتعزز وتتقوى وتترسخ، ولا تزيدها الأيام إلا عمقا وتعلقا من ابن الخطاب بالنبي ﷺ، فقد كان أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه، وقد استمرت آصرة الدين ورابطة الحب الإيماني حتى أزفت ساعة الرحيل، وودعت طيبة الكريمة نبيها الأغر الكريم ﷺ في يوم حزن لم تعرف الدنيا له شبيها ولا مثيلا.

وقع الخبر على الفاروق كما تقع الصاعقة، فتدك حصون التجلد، وتعطل حاسة المنطق، فوقع من قامته الفارعة، وناء جسده القوي بصبره، وامتشق سيفه مهددا كل من ادعى ذلك، وطاف في المدينة مرددا: “والله ما مات رسول الله ﷺ”، حتى إنه قال في رواية أخرى: “والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك”، أي لا أرى إلا أنه لم يمت فعلا، ثم قال عمر: “وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات”.

وفي رواية ثانية يقول: “إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله تُوفي، إن رسول الله ﷺ ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات.

قبر الخليفة عمر بن الخطاب إلى جانب قبري النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته الصديق رضي الله عنه

وقد تعلق المسلمون بتلك التعللات والآمال التي منى بها الفاروق نفسه، إلى أن أقبل الصديق متجلدا، وعمر ابن الخطاب يكلم الناس فقال -كما يروي ابن عباس-: اجْلِسْ يا عُمَرُ، فأبَى عُمَرُ أنْ يَجْلِسَ، فأقْبَلَ النَّاسُ إلَيْهِ، وتَرَكُوا عُمَرَ، فَقالَ أبو بَكْرٍ: أمَّا بَعْدُ فمَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ مُحَمَّدا، فإنَّ مُحَمَّدا قدْ مَاتَ، ومَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ اللَّهَ فإنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، قالَ اللَّهُ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾. قال ابن عباس: واللَّهِ لَكَأنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ هذِه الآيَةَ حتَّى تَلَاهَا أبو بَكْرٍ، فَتَلَقَّاهَا منه النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَما أسْمَعُ بَشَرا مِنَ النَّاسِ إلَّا يَتْلُوهَا، فأخْبَرَنِي سَعِيدُ بنُ المُسَيِّبِ أنَّ عُمَرَ قالَ: واللَّهِ ما هو إلَّا أنْ سَمِعْتُ أبَا بَكْرٍ تَلَاهَا فَعَقِرْتُ، حتَّى ما تُقِلُّنِي رِجْلَايَ، وحتَّى أهْوَيْتُ إلى الأرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا، عَلِمْتُ أنَّ النبيَّ ﷺ قدْ مَاتَ.

ومن تلك اللحظة المزلزلة بدأ عهد جديد، كان فيه الفاروق وزيرا ومستشارا أمينا للخليفة الصديق.

“فوربِّ الكعبة لأحملنَّكم على الطريق”.. خليفة الصديق

تولى الفاروق مهمة أقرب إلى منصب الوزير الأول أو كبير المستشارين في خلافة الصديق، وتولى معه تهدئة الغضب الذي ثارت به نفوس عدد من الأنصار، حينما أرادوا أن تنتقل الخلافة إليهم بعد وفاة النبي ﷺ، وفي سقيفة بني ساعدة استطاع الصديق بعون من الفاروق إعادة مياه الوفاق إلى مجاريها، وانطلق المهاجرون والأنصار في عناقهم الإيماني الأبدي ليواجهوا صعوبات الخلافة ومتغيرات ما بعد رحيل الرسول الأكرم ﷺ.

كان عمر في هذه الفترة أكثر مرونة في تعامله مع الأوضاع الجديدة من الصديق الذي كان مصرّا على إنفاذ جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه، وعلى المضي في الحرب على المرتدين، فكان عمر ينظر إلى حجم الاستنزاف الذي أصاب النواة الصلبة للمجتمع الإسلامي، وهم حفظة القرآن، إذ استشهد منهم في حروب الردة قرابة 700، أما الصديق فكان يرى أن الردة خطر يستهدف بيضة الإسلام ولا بد من القضاء عليه، كما رفض أن يوقف بعث أسامة. وفي النهاية مضى قرار أبي بكر، وتبعه الصحابة، وحقق الانتصارات التي كان يصبو إليها.

لم تطل خلافة الصديق التي كان فيها الفاروق قاضيا ومستشارا، فأثقل خطواته المرض، وبرح بجسده الداء، وألقى عليه الموت غلالة الوداع، ولكنه لم يرحل حتى اختار للمسلمين الفاروق خليفة من بعده، ولم يكن في هذا الاختيار بصيص من قرابة ولا محاباة، بل كان إسنادا للأمر إلى من لا يختلف الصحابة في فضله ومكانته، ومن كانوا يرونه ثاني الشيخين والوزيرين للنبي ﷺ.

ومنذ الأيام الأولى اتضح للناس الخط الجديد للخلافة: قوة في غير ظلم، وعدل دون تمييز وفتوحات لا تكبو فوارسها، وعهد على الزهد لا تزيغه عن طريقه خضرة الدنيا واخضلال المغانم. خطب عمر في الناس، فحدد منهجه، وحلل شخصية المجتمع العربي، وطريقة الحكم التي تناسبه حين قال: إنَّما مَثَل العرب مثل جمل آنف اتَّبعَ قائده، فلينظر حيث يقوده، وأمَّا أنا فوربِّ الكعبة لأحملنَّكم على الطريق.

سقوط مملكة فارس وفتح بيت المقدس.. خلافة عمر

أخذ الفاروق حقيبة الحكم بعزيمة الزهاد، ودهاء القادة، وإصرار المحاربين، وعبقرية المفكر الإداري الذي يستفيد من كل ما أنتجه العقل البشري في عصره دون أن يفقد هويته الخاصة، وقد كان عمله في عشريته المباركة ذا أجنحة متعددة منها الفتوح والتوسع، فقد تضاعفت مساحة الدولة الإسلامية في عهده مرات عدة، وأعاد هيكلة جيوشه وعين لها قادة جددا، من أبرزهم أبو عبيدة عامر بن الجراح الذي تولى قيادة فتوح الشام بعد فاتحها الأول خالد بن الوليد.

عصر الخليفة عمر بن الخطاب هو  أكثر عصور الخلفاء فتوحات وتمددا للدولة الإسلامية

وقد توسعت الدولة الإسلامية في عهد الفاروق، حتى شملت الشام كله بعد فتوح وجهاد وصراع عميق وقوي مع الدولة الرومانية، فانزاحت تاركة سهول الشام ومدائنه للفاتحين الجدد، حين وجد فيهم السكان غير ما ألفوا من عسف الرومان وحكامهم ورسلهم وضرائبهم ومكوسهم.

ثم تمددت الدولة إلى فلسطين، حيث كان عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة يفتحان المدن والقرى واحدة تلو الأخرى، ويتلوان على السكان تعاليم الإسلام وآيات السلام وسطور الإخاء الإسلامي، وكانت مصر محطة أخرى من الفتح الإسلامي، فسارت إليها جيوش الصحابة والتابعين بقيادة عمرو بن العاص، وأخضعوها لسلطتهم وأخرجوا منها الحكام الرومان، وبدأت أرض الكنانة عهدا إسلاميا جديدا.

وكان أكبر الفتوح الإسلامية الفتح العمري الهادئ للقدس الشريف، فقد حاصرها المسلمون فترة طويلة، ثم عرض أهلها الاستسلام مشترطين تسليم مفاتيحها إلى أمير المؤمنين، وخاطبوا أبا عبيدة: نحن نصالِحُك، فأرسل إلى خليفتكم فيكون هو الذي يعطينا العهد، وهو يسامحنا ويكتب لنا الأمان.

استقر رأي عمر بن الخطاب بعد اختلاف كبار مستشاريه من الصحابة على السير إلى القدس لاستلام مفاتيحها وإبرام العهد، وسار موكبه تحفه الهيبة والكبرياء، ويظلله الوقار، ولم يكن الموكب أكثر من رجلين، أمير المؤمنين وخادمه، ولم يكن تحتهما غير بعير واحد يتعاقبان عليه، ولم تكثر الأحمال على راحلة البعير، فالزاد قليل وحقيبة الملابس خاوية، وليس على جسد الأمير الذي تهتز الدنيا لهيبة اسمه غير بردة مرقعة.

وقد هال المشهد قساوسة القدس وسكانها، حينما أطلوا من السور فرأوا الرجل الذي وصفه لهم الإنجيل، وتليت سماته عليهم في تراتيل الكنائس ووصايا الرهبان، وفتحت أبواب المدينة المقدسة، واستلم الفاروق مفتاحها، وكتب لأهلها العهدة العمرية المقدسة التي حفظت التعايش بين الأديان والأعراق في مدينة الأنبياء ومهد الشهداء والصالحين.

“العهدة العمرية، وثيقة بيت المقدس التي أعطاها الخليفة عمر بن الخطاب لأهل القدس من النصارى

وإلى جانب فتوح الشام وفلسطين والعراق، أزالت جيوش الفتح العمري دولة الأكاسرة، وأضافت العراق كله إلى أرض المسلمين، وأنهت حكم آل ساسان، ونقلت ما تمتعوا به من زخرف الدنيا ونضير المتع، وجليل الكنوز إلى المدينة، فلم يهتز له قلب ولم يرف له جفن عمري، بل قسمه بالسوية بين المسلمين.

عالم الإدارة والعمران.. أول تنظيم حضاري في بلاد العرب

أولى الفاروق التنظيم الإداري والمؤسسي للدولة اعتبارا واهتماما كبيرا، فكان أول من اعتمد الطبقات المهنية بديلا عن القبيلة والطبقات الاجتماعية، وهكذا قسم الناس إلى دواوين، ووضع لكل أهل ديوان نصيبهم المفروض من المال العام.

وبهذا يكون عمر أهم رواد العدالة في توزيع الثروة، وفي استفادة الجميع من الناتج العام للدولة، وفوق ذلك كان أول من فرض في التاريخ للأطفال نصيبا غير منقوص في الميزانية العامة للدولة، عبر تأمين اجتماعي سبق به غيره من الأمم، فقد فرض لكل طفل من المسلمين حصة من المال تساعد والديه على إعاشته.

وإلى جانب الدواوين عمل الفاروق على تنظيم السوق، ومحاربة الغش والاحتكار، ومنع المنافسة غير الشريفة، وتنشيط الصناعة والحرف، وحماية الثروة الحيوانية التي أنشأ لها أودية ومحميات خاصة، وأقام منها أوقافا خاصة عرفت بإبل الزكاة، وقد شكلت مع الزمن مصدر ثراء للدولة الناشئة التي كانت سباقة في اعتماد فكرة الرفاهية الاجتماعية والإنتاج المسؤول.

عمل الفاروق عمر بن الخطاب على تنظيم السوق وتشجيع التجارة، ومحاربة الغش والاحتكار، ومنع المنافسة غير الشريفة

وإلى جانب ذلك كان الفاروق ذا قدرة فعالة في صناعة الأجهزة الرقابية، وكان مدققو الحسابات يفِدون بين الحين والآخر على الحكام والولاة والعمال، وربما انتزعوا من حاكم بعض ما حصل من مال لم يستطع الدفاع عن شرعيته.

كما أقام عمر شرطة أخلاقية عرفت باسم الحسبة، فكان من مهامها حماية الهوية الأخلاقية والدينية للمجتمع، وحماية المستهلك وفرض السكينة العامة خصوصا في بلاد الحرمين ومهبط الوحي ومجرى عوالي القرآن وفيوض السنة المحمدية.

وفي الهوية الخاصة للمسلمين أقام الفاروق نظام التقويم الهجري، منهيا بذلك سيطرة التقويم البيزنطي، جاعلا هجرة النبي ﷺ مبتدأ التاريخ الإسلامي.

كما وضع الفاروق أيضا نظاما استشاريا متقدما على الأجيال والأفكار في عصره، وأقام مجلسا لكبار الصحابة، وجعل منهم مستشارين دائمين، ثم أقام لجنة استشارية عليا من ستة من كبار الصحابة، وجعل منهم وإليهم اختيار الخليفة من بعده.

مواجهة الطواعين والمجاعات.. فن تسيير الأزمات

واجه الفاروق في عهده موجة من الطاعون في بلاد الشام بعد موجة مجاعة وجفاف ضرب المدينة وسميت بعام الرمادة، وقد أبدى براعة هائلة في تسيير هذه الأزمات، وإقامة نظام اجتماعي مكن من امتصاص الصدمة، ومنع انهيار الدولة، فقد استجلب القوافل من البلدان المفتوحة تحمل من الحبوب والأطعمة والملابس ما مكن من امتصاص الصدمة وإنقاذ بلاد المسلمين.

حصد طاعون عمواس في فلسطين 30 ألف نفس، ففرض الخليفة عمر بن الخطاب على البلدة حجرا صحيا

وقد مثل الفاروق نفسه المثل الأعلى في التصدي لتلك الأزمات، إذ امتنع عن أكل اللحم طيلة عام الرمادة، وأخذ نفسه بالتقشف حتى اسمر لونه وهزل جسده، ليشارك المسلمين مأساتهم، وليقود ببراعة وجدارة نظام التصدي للأزمات العارضة.

ولم تنته أزمة الرمادة حتى ظهر طاعون عمواس في الشام، فبدأ ينهش الأرواح، وبدأت رياح الموت تعبر الفجاج، وقد انتهج لمواجهة هذه الأزمة الصحية المؤلمة نظام الإغلاق والحجر الصحي، فمنع السفر، مما مكن من انسلاخ الطاعون وتراجع عداد الموت، بعد أن حصد قرابة 30 ألفا من المسلمين من بينهم عدد كبير من كبار الصحابة وقادة الجند.

اغتيال عمر.. جريمة فاجعة تقطع خشوع صلاة الفجر

لم يعد المجتمع المدني في السنوات الأخيرة من خلافة عمر بن الخطاب كما كان عند بدايتها، فقد توسعت ساكنة المدينة المنورة بأفواج من القادمين من بلدان وقوميات متعددة، وكان من بينهم عدد من الأسرى الفُرس الحانقين على انهيار دولتهم الساسانية.

وفي السنة الثالثة والعشرين من الهجرة وبعد أن أدى الفاروق فريضة الحج بالناس، بدأت خيوط المؤامرة، وكان أولئك الحانقون يستعدون للانتقام. وتتعدد الروايات، فمرة تأتي حديثا عن شغب قام به بعض الحانقين في مكة، وأخرى عن سريان شائعة عن قتل قريب للخليفة.

وتسارعت الأحداث لينغرس خنجر حاقد في جسد الفاروق وهو يؤدي صلاة الفجر بالمسلمين فجر الأربعاء السادس والعشرين من ذي الحجة سنة 23 هجرية (5 نوفمبر/تشرين ثاني 644م).

ضريح في إيران منسوب لأبي لؤلؤة المجوسي قاتل الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب

وبدأ القاتل يوزع طعناته بجنون على المصلين، حتى أصاب منهم 13 شخصا، مات سبعة منهم بسبب قوة الطعن، وحنق القاتل، قبل أن يلقي عليه عبد الرحمن بن عوف رداء، ليسقط متعثرا. وتقول إحدى الروايات إن القاتل -وهو فيروز أو أبو لؤلؤة المجوسي- طعن نفسه، قبل أن تتمكن منه سيوف قصاص المسلمين.

سقط الفاروق بعد أخذت منه الجراح كل مأخذ، لكنه لم يترك هم المسؤولية، فدعا المسلمين إلى إكمال صلاتهم، ونقل إلى بيته، حيث تلقى الإسعافات الأولية التي لم تمنع قدره المحتوم، وختم الحياة بعد أن جعل الخلافة من بعده شورى في ستة من كبار الصحابة.

“اجعل الناس عندك سواء”.. رسالة إلى الخليفة القادم

وإلى جانب ذلك فقد ترك وصية للخليفة من بعده جاء فيها: أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأوّلين خيرا؛ أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيرا، فاقبل من محسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، وأوصيك بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء العدوّ وجباة الفيء، لا تحمل منهم إلا عن فضلٍ منهم، وأوصيك بأهل البادية خيرا، فإنهم أصل العرب ومادّة الإسلام، وأن يؤخذ من حواشي أموالهم فيُردّ على فقرائهم، وأوصيك بأهل الذمّة خيرا، أن تقاتل مَنْ وراءهم ولا تكلِّفهم فوق طاقتهم إذا أدّوا ما عليهم للمؤمنين طوعا، أو عن يدٍ وهم صاغرون، وأوصيك بتقوى الله والحذر منه ومخافة مقته أن يطَّلع منك على ريبة، وأوصيك أن تخشى الله في الناس ولا تخشى الناس في الله، وأوصيك بالعدل في الرعية والتفرّغ لحوائجهم وثغورك، ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم، فإن في ذلك بإذن الله سلامة قلبك، وحطّا لوزرك، وخيرا في عاقبة أمرك حتى تفضي في ذلك إلى من يعرف سريرتك، ويحول بينك وبين قلبك، وآمرك أن تشتدّ في أمر الله، وفي حدوده ومعاصيه على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذك في أحدٍ الرأفة حتى تنتهك منه مثل جرمه، واجعل الناس عندك سواء، لا تبال على من وجب الحقُّ، ولا تأخذك في الله لومة لائم.

ويحدثنا اثنان من كبار الصحابة عن اللحظات الأخيرة في حياة الفاروق، فيقول ابن عباس رضي الله عنه: دخلت على عمر حين طُعن، فقلت: أبشر بالجنة يا أمير المؤمنين، أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله ﷺ حين خذله الناس، وقبض رسول الله ﷺ وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك اثنان، وقُتلت شهيدا. فقال عمر: أعد عليَّ، فأعدت عليه، فقال: والله الذي لا إله إلا هو، لو أن لي ما في الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع.

أما الشهادة الثانية فيرويها الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه قائلا: أنا آخركم عهدا بعمر، دخلت عليه ورأسه في حجر ابنه عبد الله بن عمر، فقال له: ضع خدي بالأرض، فقال: فهل فخذي والأرض إلا سواء؟ قال: ضع خدي بالأرض لا أمَّ لك، في الثانية أو في الثالثة، ثم شبك بين رجليه، فسمعته يقول: ويلي، وويل أمي إن لم يغفر الله لي حتى فاضت روحه.

رضي الله عن عمر بن الخطاب وأرضاه.