“غاندي”.. كفاح الرجل الهندي البسيط ضد غطرسة الاحتلال الإنجليزي

إنه مُحرّر الهند وبطل الكفاح ضد الإمبرياليين بالنسبة للبعض، وبالنسبة للبعض الآخرين هو مرشد روحي يقارن أحيانا بالسيد المسيح، كفاحه من أجل النساء والمنبوذين جعله رجلا إنسانا، ومن المؤكد أن القوميين الهنود المتطرفين يعتبرونه خائنا، وقد دفع عدم اكتراثه بمحنة السود في جنوب أفريقيا البعض إلى وصفه بالعنصري. لكن ثمة أمرا واحدا مؤكدا، وهو أنه أحد الذين تركوا بصمة كبيرة في القرن العشرين.

إنه “غاندي” أو “موهانداس كرمشاند غاندي”، وقد تناول سيرةَ حياته فيلمُ “غاندي وقوة الإرادة” الذي بثته “الجزيرة الوثائقية” ضمن سلسلة “سيناريوهات تاريخية”.

فتاريخنا ليس إلا سلسلة من الأحداث المذهلة، يستطيع كل منا أن يؤثر في مجراه، من ظهور إمبراطورية عمرها ألف عام، إلى انهيار حضارة مزدهرة، ومن العبقرية لحفنة من الرواد، إلى ثورة ثقافية عالمية، من أسوأ الرؤى الاستبدادية، إلى إفشاء الحروب المدمرة، ومن المقاومة البطولية لشعب كامل، إلى التصميم الحديدي لأقلية معينة.

في 26 مايو/أيار عام 1893، طُرد “غاندي” -المحامي الشاب المُسجل في نقابة المحامين في لندن- بوحشية من قطار بجنوب أفريقيا. وفي 13 يناير/كانون الثاني عام 1897، هاجم متظاهرون غاضبون “غاندي” وعائلته، وهددوا بشنقه وتعليقه على شجرة. وفي مارس/آذار عام 1930، بدأ “غاندي” مسيرة عبر الهند يتبعه عشرات آلاف الهنود. هذه الأحداث الثلاثة المترابطة ارتباطا وثيقا هي لحظات أساسية في حياة “غاندي”، وقد أدت إلى تحرر المستعمرة البريطانية السابقة؛ الهند.

شركة الهند الشرقية.. موطئ القدم الأول للتاج البريطاني

الهند هي واحدة من أقدم المستوطنات في العالم، من الغرب سمح الممر عبر الجبال لغزاةٍ كُثر باختراق وادي السند؛ النهر الذي سُميت الهند باسمه، ويتضمن تاريخ المنطقة تعاقب إمبراطوريات مثل “إمبراطورية أشوكا”، و”الإمبراطورية الرومانية” الشاسعة في ذروتها، و”إمبراطورية جوبتا” التي كانت تجسد العصر الذهبي الحقيقية للهند. ومع ذلك لم تستطع أي من هذه الإمبراطوريات -حتى القرن الـ17- السيطرة بالكامل على هذه الأرض الشاسعة والمعقدة للغاية، من الشمال إلى الجنوب، إذ لا توجد هند واحدة، بل “هنود” متعددة تتمتع بمجموعة لا حصر لها من المعتقدات والممارسات الدينية.

في الوقت نفسه، طوّر المجتمع الهندي على مر القرون نظاما اجتماعيا غير متوازن يعتمد على الطبقات، فيه فصل صارم للأفراد في مجموعات مُتميزة مُرتبة في تسلسل هرمي، ففي أسفل الهرم الاجتماعي يوجد “المنبوذون”، وهم “أدنى فئة بشرية”، وقد نُبذوا من قبل بقية المجتمع.

في 31 ديسمبر/كانون الأول عام 1600 في لندن، أنشأ رواد أعمال شركة “الهند الشرقية البريطانية”، وفي مقابل الحماية البريطانية، يُمنح الأمراء الهنود امتيازات واسعة، لذا زادت التجارة، وتدفقت الثروة بين إنجلترا وأسواقها الهندية، وأنتجت المزارع الضخمة كميات كبيرة من القطن، وشُحنت كلها إلى إنجلترا في القوارب، ونُسجت هناك في مصانع ضخمة، وسرعان ما غصت الأسواق الهندية بالملابس الإنجليزية، وتدريجيا اختفى كل أثر للاقتصاد الهندي التقليدي.

في الهند وجنوب أفريقيا، كان البريطان البيض يعتبرون أنفسهم سادة وباقي الشعوب خدما وعبيدا

وبعد قرنين، ترسخت الشركة التجارية، وفرضت ضرائب باهظة متسلحة بجيشها الخاص، فالشركة تُسيطر على إمبراطورية تجارية هائلة، ولكن بعد ثورة 1858، حلت الشركة فخضعت الهند للتاج البريطاني، وأصبحت “فيكتوريا” ملكة إنجلترا إمبراطورة الهند، وكانت هذه هي ولادة “الراج البريطاني”، أو الحكم البريطاني للهند.

وكما كان نظام الطبقات الاجتماعية يسيطر على الهند، لم تكن الإمبراطورية البريطانية أحسن حالا في هذا الشأن؛ فسكان الإمبراطورية لا يتمتعون بوضع متساوٍ، لأن الإنجليز مقتنعون بأن مجتمعهم متفوق، ولذلك فهم مرتاحون لنظام الطبقات في الهند الذي يسمح لهم أن يضعوا أنفسهم فوق الآخرين. وفي مستعمرات أخرى -كما هو الحال في جنوب أفريقيا- تُعتبر حالة السود مذلة ومهينة، أما الآسيويون فهم عبيد عمليا.

مقصورة النبلاء.. جريمة تقذف بالهندي من القطار

في 26 مايو/أيار عام 1893، رُمي “غاندي” من قطار في جنوب أفريقيا بطريقة مذلة، لأنه تجرأ على الجلوس في مقصورة الدرجة الأولى، ورغم كونه رجلا محترما ومحاميا مُسجّلا في نقابة المحامين في لندن، فإن شهاداته وثقافته الإنجليزية لا تساوي شيئا هنا، ففي نظر المستعمرين البيض، هو مجرد “حمّال”، وهو مصطلح مهين يرمز للعمال الآسيويين. هذه الحادثة ستُغيره للأبد، فلن يتحمل هذا النوع من الظلم بعد الآن.

بسبب بشرته السمراء، رُمي غاندي من مقصورة الدرجة الأولى من قطار بجنوب أفريقيا فشعر بالإهانة والعنصرية

فعند وصوله إلى جنوب أفريقيا للعمل، واجه الواقع بسرعة.. لقد تحوّل مواطنو هذا البلد إلى عبيد، ويعمل الآلاف منهم في مزارع ضخمة، ففي هذه المستعمرة الإنجليزية، يستغل آلاف الأوروبيين البيض عشرات الآلاف من الهنود وملايين الأفارقة من دون رحمة.

هذا الواقع القاسي يدفع المحامي الشاب إلى التحرك، ففي عام 1893 بدأ يدافع عن العمال الهنود الذين يتعرضون لسوء المعاملة من قبل أصحاب العمل البيض، وفي 22 مارس/ آذار، اكتشف وجود مشروع قانون يهدف إلى قمع الناخبين الهنود، فأطلق فورا حملة ضخمة للاحتجاج على ذلك المشروع، وبالنسبة للبريطانيين، أصبح اسم “غاندي” مرادفا للمُحرّك.

حامل الطاعون.. حجر ومحاولة اغتيال عند الشاطئ

في 19 ديسمبر/كانون الأول من عام 1896، عاد “غاندي” إلى جنوب أفريقيا مع عائلته بعد إقامة قصيرة في الهند، لكن ما إن وصل إلى “ميناء ديربان”، حتى وضعت السلطات السفينة تحت الحجر الصحي، والغريب أنه سُمح للأوروبيين البيض بالنزول، فقد سرت شائعات في المدينة تقول إن “غاندي” جلب الطاعون عمدا إلى جنوب أفريقيا.

في رحلة بالباخرة، حجر على ركاب الباخرة عدا البيض، ثم اتهموا غاندي أنه جلب الطاعون معه

هناك عند رصيف الميناء صرخ حشد من المتظاهرين بإهانات وتهديدات بالقتل للركاب الهنود، وأدرك “غاندي” أنه هو المقصود بالحجر وليس السفينة، ثم حصل على إذن بالذهاب إلى الشاطئ مع أسرته، ولكن ليلا وبمرافقة الشرطة. وبمجرد وصوله إلى الرصيف خرج المتظاهرون من مخابئهم واندفعوا نحو المجموعة الصغيرة، ليخرج الوضع عن السيطرة بسرعة.

بعد ذلك وصلت زوجة رئيس الشرطة نحو مكان الحادث، بينما كانت تمر في عربة عائدة من مأدبة عشاء في المدينة، فقامت تُلوّح بمظلتها مستخدمة إياها ومكانتها لحماية الأسرة الهندية الفقيرة، وبمرافقة هذه المرأة وتحت صراخ الحشد الغاضب المطالب بشنقه، هرب “غاندي” وعائلته من المكان.

سياسة العصيان وعدم العنف.. ثورة الفقير المثير للفتنة

في الخامس من أغسطس/آب عام 1904، عجز “غاندي” عن النوم أثناء الليل، فهو لم يستطع التوقف عن التفكير في شيء قرأه في وقت سابق من ذلك اليوم؛ كتاب مبهر لـ”جون رسكن” في نقد النظام الاقتصادي. يُوضح الكاتب البريطاني أن إنتاج السلع والثروة يجب أن يشمل إسعاد الإنسان، وأنه لا ينبغي التضحية بكل شيء من أجل المصالح المالية. تلك الأفكار تشبه “مفهوم أهيمسا”؛ وهو مفهوم ديني هندوسي، يجب بموجبه احترام الحياة الموجودة في كل الأشياء.

دفع التفكير الشديد “غاندي” إلى تبني أفكار جديدة، ووضعها موضع الممارسة اليومية، فقد عدّل أسلوب حياته بشكل عميق، وفكّر في أن بعض الناس يأكلون كثيرا في كثير من الأحيان، بينما لا يملك آخرون ما يكفي من الطعام، فقرر أن يكون قدوة، ويبدأ الصيام بانتظام. فبدأ أولا بقص شعره بنفسه، وتنظيف مرحاضه. ففي رأيه، لم تعد هذه مهام وضيعة، ويجب على كل إنسان أن يعتني باحتياجاته الخاصة.

وفي أحيان كثيرة شاهد العنف ضد المرأة؛ فربط الجنس بالعنف، ولذا أقسم على عدم الزواج. ووضع مبدأ جديدا قيد التنفيذ يعتمد العصيان المدني وعدم العنف؛ إنه مبدأ “ساتياغراها” الذي يتلخص في: “قل لا للظلم بحزم وعلانية، وأحيانا بشكل غير قانوني، ولكن لا ترتكب العنف أبدا، وتقبّل عواقب أفعالك”.

إجبار السطات الناس على إبراز بطاقاتهم في كل مكان، دعا غاندي إلى الاحتجاج وطلب من أتباعه حرق بطاقاتهم

وفي 31 يوليو/تموز عام 1907، وعندما قررت الحكومة أنه يجب تسجيل جميع الهنود لدى السلطات، وإبراز هوياتهم في جميع الأوقات، وجد “غاندي” فرصة لاختبار طريقته بعد أن أصبح زعيما مؤثرا، فاقترح على الهنود في جنوب أفريقيا رفض التعاون، وقد أدى ذلك إلى سجن الآلاف، ومنهم “غاندي” نفسه.

وفي 16 أغسطس/آب عام 1908 في مكان عام، وتحت أعين الشرطة الساهرة؛ ذهب إلى أبعد من ذلك وأقنع الآلاف بحرق أوراق تسجيلهم، وبعد تعرضه للضرب المبرّح انتهى به الأمر مرة أخرى خلف القضبان. وقد دفع هذا الرد البريطاني الوحشي “غاندي” إلى كتابة أنه اكتشف مصدر الشر؛ الحضارة الغربية والحداثة. وفي عام 1913 أُلغي جزء من القانون، فقرر “غاندي” العودة إلى الهند في العام التالي.

تحمل “غاندي” الضرب والإذلال دون رد فعل. فمن وجهة نظره هذا دليل على ضبط النفس، وبالتالي قوة أخلاقية، وعندما أضرب “غاندي” عن الطعام اعتبر الهنود ذلك دليلا على تصميمه، لكن من وجهة نظر الإنجليز، إنها علامة ضعف وجبن، فما يزال البريطانيون -بعد قرنين من احتلال الهند- لا يفهمون المجتمع الهندي، فهم يردون على الاحتجاجات بمظاهر القوة.

ووصف رئيس الوزراء البريطاني “وينستون تشرشل” آنذاك “غاندي” بأنه فقير ومثير للفتنة وغير نظيف.

“الروح العظيمة”.. عصيان مدني يشل الهند ويفتح باب الزنزانة

في التاسع من يناير/كانون الثاني عام 1915، وصل “غاندي” إلى بومباي، فاستقبله مواطنوه بترحاب المنتصر، فهم ينتظرون منه أن يتولى رئاسة “المؤتمر الهندي”، وهو الحزب السياسي الذي يعمل من أجل الاستقلال، مع أنه عائد للتو بعد 21 عاما في أفريقيا، كما أنه لم يعد يعرف بلده الأصلي.

لذلك بدأ يسافر عبر الهند ويستمع إلى شعبها، وكان يرى أن الوضع أسوأ مما ظن؛ فالبؤس في كل مكان، والبريطانيون سيطروا على جميع موارد البلاد، والمجاعات تتكرر والسكان يكتظون في الأحياء الفقيرة، والهند البائسة فقدت كرامتها.

في جولته في الهند، اطلع غاندي على أحوال الناس والمعاناة التي يعيشونها في كل مكان

قرر “غاندي” التصرف، فأسّس “الأشرم” -وهو بمثابة الدير في الحضارة الهندية- وبدأ يُدرّب تلاميذه على عدم العنف، وكان يدعوه أتباعه “بابو” (الأب)، ثم “المهاتما” أو “الروح العظيمة”.

في البداية لم يعرف “غاندي” بالضبط كيف يتصرف، ففي الثلاثين من مارس/آذار عام 1919، حقق النتيجة الأولى بتنظيم إضراب وطني، فاستجابت الهند كلها لدعوته للإضراب العام، وأصبح البلد مشلولا تماما. لكن إظهار القوة هذا وضعه ثانية في السجن، ثم بدأت بعد فترة وجيزة الاحتجاجات الداعمة له.

رحلة الشاطئ لجلب الملح وكسر المحظور.. معركة الاستقلال

في 13 أبريل/نيسان 1919، قرر الجنرال البريطاني “ريجينالد داير” تعليم الهنود -على حد قوله- درسا مناسبا، فأمر رجاله بإطلاق النار مباشرة على حشد مسالم وغير مسلح بدون سابق إنذار، بنادق حديثة ضد الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، مجزرة مروعة، وحينها يفقد “غاندي” مندهشا آخر أوهامه حول شرعية الحكومة البريطانية، ليصبح هدفه الاستقلال التام، بينما كان قبل تلك اللحظة ينحصر في كسب حقوق إضافية للهنود.

ارتقى “غاندي” لرئاسة حزب المؤتمر، وسرعان ما قدّم برنامجه الداعي لمقاطعة المدارس البريطانية والمحاكم والمنتجات الإنجليزية، والتوقف عن دفع الضرائب، والتخلي عن جميع المناصب في الشرطة والجيش. لقد كان “غاندي” يعتمد على أكثر من 300 مليون هندي، وساعده كون البريطانيين أقل من 100 ألف، والرد الوحيد الذي يقدمونه هو العنف والقمع الوحشي.

مقاطعة للملح البريطاني، أطلق غاندي مسيرة طولها 400 كيلومتر عبر البلاد نحو البحر لجمع الملح

وفي مارس/آذار عام 1930، علمت السلطات البريطانية أن “غاندي” أطلق مسيرة 400 كيلومتر عبر البلاد نحو البحر، بهدف الالتفاف على القانون -الذي يُرغم الهنود على شراء الملح البريطاني- بالذهاب إلى الشاطئ وجمعه بنفسه.

ولم يكن ليلفت الانتباه لو أنه كان بمفرده، لكنه كان برفقة عشرات الآلاف من الهنود، إنها موجة بشرية تتحدى المحظورات البريطانية، وقد قُبض على أكثر من 60 ألف شخص ووضعوا في سجون مكتظة، لكن هذا لم يغير شيئا، فبالنسبة لـ”غاندي” فإن هذه ليست سوى بداية فترة طويلة من المقاومة يتبعها بالانتقال من مكان في البلد إلى آخر بشكل سلمي، لحشد الناس بلا كلل من أجل قضيته.

“اتركوا الهند”.. آخر معارك بريطانيا التي أنهكتها الحرب العالمية

في عام 1942، وأثناء الحرب العالمية الثانية، أصدر “غاندي” بيان “اتركوا الهند”. وفي المقابل، سحق رئيس الوزراء البريطاني “وينستون تشرشل” بلا رحمة ما اعتبره فتنة، واعتقل جميع أعضاء حزب المؤتمر، وقتل أكثر من ألف متظاهر، ولكن بعد الحرب أتاحت هزيمة “تشرشل” في الانتخابات لحزب العمال -الذي أيد استقلال الهند- أن يتولى السلطة، إذ يبدو أن الوقت قد حان.

تُوشك الهند على نيل استقلالها، لكن تحديات جديدة ترافق هذا التحرر، فالمجتمع الهندي معقد، فمثلا يسير عدم المساواة في النظام الطبقي جنبا إلى جنب مع الأديان المتعددة، وخاصة الهندوسية، إضافة إلى حالة عدم التوافق بين الهندوسية والإسلام؛ فالمسلمون الموجودون في الشمال في الغالب ينتشرون بشكل غير متساوٍ عبر البلد ويمثلون حوالي 16% من السكان، وهم أكبر أقلية في الهند، كما أن التوترات بين المجتمعين قوية.

غاندي يدعو الإنجليز إلى مغادرة البلاد، فقد حان وقت رحيل المحتل

يبذل “غاندي” جهودا لإنهاء النزاعات والحفاظ على وحدة البلاد، وفي المقابل تدرك القوى البريطانية هذا الانقسام في المجتمع الهندي، وتستخدمه كوسيلة ضغط في المفاوضات، وإذا نالت الهند استقلالها ستنقسم البلاد، إنها سياسة فرّق تسد.

استقلال الهند الممزقة.. انتصار بطعم الخسارة وفتنة طائفية

مع ابتعاد “تشرشل” أصبح الاستقلال في متناول اليد، لكن الكفاح لم ينتهِ بعد. ويُدافع أحد قادة “حركة الاستقلال” المسلم “محمد علي جناح” عن تقسيم الهند إلى دولتين؛ الباكستان للمسلمين، والبقية للهندوس.

أما بالنسبة لـ”غاندي” فسيكون هذا الانفصال كارثيا وفشلا رهيبا، وقد اندلعت أعمال الشغب في جميع أنحاء البلاد، فالهندوس يذبحون المسلمين، والمسلمون يحاولون الرد، وعلى الجانبين يصبح الناس أكثر تطرفا فتزداد عزلة “غاندي”، بينما يبذل حليفه السياسي “جواهر لال نهرو” ما في وسعه للحفاظ على الهند موحدة ضد “علي جناح” الذي كان يُدين رسميا الاحتجاجات المناهضة للهندوس، لكنه يشجع على الانفصال، لكن يبدو انفصال الهند حتميا.

تحقق استقلال الهند عن بريطانيا بعد قرون من الظلم، لكن بريطانيا تركت هندا ممزقة إلى باكستان والهند

وفي 14-15 أغسطس/آب عام 1947، وبعد أشهر من المفاوضات، أُعلن الاستقلال على هتافات “النصر للمهاتما غاندي”، لكن العجوز غير موجود، فقد شعر بالاشمئزاز ولم يستطع المشاركة بالفرحة، لأنه في اليوم السابق رأى بلاده تنقسم إلى قسمين؛ الهند من جهة، وباكستان من جهة أخرى.

صلاة الصباح.. رصاصات تنهي مسيرة الكفاح الطويلة

أدى انقسام الهند إلى نزوح أعداد كبيرة من السكان، فشق ملايين المسلمين طريقهم إلى باكستان البعيدة والجديدة كليا، وقابلوا في طريقهم نازحين هنودا يسيرون في الاتجاه المعاكس، وحتما ستحدث اشتباكات وتتفاقم إلى مجازر، ويعبر “غاندي” الريف بلا كلل مُروّجا بشدة لعدم العنف، ويُحقق إنجازات كبيرة، فأثناء رحلته تتوقف المشاكل، ولكن غالبا ما تبدأ من جديد بعد مغادرته.

محمد علي جناح مؤسس باكستان يدعو إلى الانفصال عن الهند، وغاندي يطالب بوحدتها

وبعد عام واحد، وبينما كان في طريقه إلى صلاة الصباح، أصيب “غاندي” بثلاث رصاصات من شاب قومي هندوسي يعتبر “المهاتما” خائنا، فيدخل الهندوس والمسلمون -بعد قرون من العيش معا- في دوامة من الصراعات، ويتحولون إلى أعداء لا يمكن التوفيق بينهم. ولكن تلك قصة أخرى.

رحل “غاندي” ذلك الرجل الذي يرتدي ثيابا بسيطة ويقف بمفرده في أحلك ساعات الكفاح من أجل استقلال الهند، فعندما كانت البلاد على شفا حرب أهلية، كان هذا الرجل أقوى من أي جيش.