عمر بن عبد العزيز.. أشج بني أمية ونبوءة الفاروق وخامس الخلفاء الراشدين

وقع الخبر صاعقا على بني أمية المرفهين الذين عاشوا قرابة نصف قرن أو أكثر تحت ظلال الترف وبلهنية الملك وعنفوان السلطان، فقد كانوا يتوقعون أن يكون الخليفة الجديد أحد المتشوفين إلى السلطة المتربصين ريب المنون بمن سبقهم من الملوك طمعا في الخلافة، ولكن الخليفة الراحل سليمان بن عبد الملك اختار أن يخرق العرف السائد، أو أن يستبرئ لدينه بلغة الفقهاء والمؤرخين، فيحيل أمر الخلافة إلى ابن عمه وصديقه الزاهد عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس.

ولد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة سنة 61 هجرية

كان عمر بن عبد العزيز في بني أمية كالقمر الوضاء في الليل البهيم، وكالشامة بين الناس، فقد كان على خلاف ما اشتهرت به السلطة الأموية من عصبية قومية، وترف وملك ظاهر. وكما وقع الخبر صادما على بني أمية وفتيانهم الأغرار ورجالهم المنعمين، فقد كانت صدمته أقوى على الخليفة الجديد، فمادت به الأرض وكادت قواه أن تخور، لولا أن ثبته وزيره وكاتب سلفه الفقيه رجاء بن حيوة.

كان عمر بن عبد العزيز قد تنسم قبل ذلك ما خشي أن يكون الخليفة قد عهد إليه، فحاول أن يدخل عليه وهو في مرض موته من أجل أن يقيله من أعباء الخلافة التي يتشوف إليها الجميع، لكن رجاء بن حيوة منع دخوله، وكان الموت إلى الخليفة الشاب الوسيم أسرع.

ليلى بنت عاصم بن عمر.. ابنة الخليفة وأم الخليفة

في ليلة شاتية من ليالي المدينة عس عمر بن الخطاب رضي الله، حتى إذا أعياه السير في أزقة المدينة استند إلى جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه، قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء. فقالت لها: يا أمّتاه، أوَما علمت ما كان من أمير المؤمنين اليوم؟ قالت: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر مناديا فنادى أن لا يُشاب اللبن بالماء، فقالت لها: يا بنتاه، قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء، فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر، فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه، والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء.

كان عمر يسمع كل ذلك الحديث، فقال: يا أسلم، عَلِّم الباب واعرف الموضع، ثم مضى في عسه. فلما أصبحا قال: يا أسلم، امض إلى الموضع، فانظر من القائلة ومن المقول لها، وهل لهم من بعل؟ فأتى أسلم الموضع فنظر، فإذا الجارية أيِّم لا بعل لها، وإذا تيك أمها وإذا ليس بها رجل، فعاد إلى عمر فأخبره، فدعا عمر ولده فجمعهم فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوجه؟ فقال عاصم: يا أبتاه، لا زوجة لي فزوجني، فبعث إلى الجارية فزوجها من عاصم، فكانت تلك الجارية زوجة عاصم، وجدة عمر بن عبد العزيز الذي حمل اسم جده الفاروق.

من بائعة لبن تسكن مع أمها في خيمة، إلى زوجة عاصم بن عمر بن الخطاب، إلى جدة عمر بن عبد العزيز

وفي هذا البيت الشريف الذي تعطره القيم الفاروقية، كانت اللبنة الأولى من التأسيس الأخلاقي والقيمي لشخصية هذا الفتى المرواني، أما لبنتها الثانية فقد كانت على يد والده عبد العزيز بن مروان الذي خاطب وكيل أمواله قائلا: “اختر لي 400 دينار من أطيب مالي، فإنني أريد أن أتزوج”، واختار الرجل لبيته الجديد ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، ليبدأ نور جديد وتنطلق في شغاف التاريخ صفحة ناصعة، ترسم فيها الأيام سيرة الفاروق الثاني والخليفة الراشد الخامس.

“اسكتي يا أم عاصم فطوباك إن كان أشج بني أمية”

تنسم عمر بن عبد العزيز نفحات الحياة في المدينة المنورة سنة 61 للهجرة، ودرج في طفولته بين بيوتات المهاجرين والأنصار، ولبس من أردية التقوى وجلال العلم، فوق ما لبس من جميل الثياب وفواح العطر، فكان من أنضر فتيان المدينة منظرا وأحسنهم  بهاء وأنعمهم عيشة، فقد كانت تجري عليه من عمه عبد الملك بن مروان ألف درهم كل شهر، وذلك لما طلب خاله الصحابي الجليل عبد الله بن عمر أن يبقى معه فترة من الزمن، بعد أن شخصت أمه إلى زوجها أمير حلوان في مصر، وكان عبد الله يرى في عمر بن عبد العزيز شبها بالبيت العمري ونزوعا إلى القيم التي آمن بها وجسدها عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

نشأ عمر بن عبد العزيز في مكة، فكان أنضر فتيان المدينة منظرا، وأحسنهم  بهاء، وأنعمهم عيشة

وقد كانت الشجة التي أصابته وهو فتى حدث أمارة خير تلقفها محيطه القريب بالبشرى واعتبروه صدق نبوءة عمرية؛ ويروي لنا ابن الأثير في كتابه الكامل ذلك قائلا: كان يقال له أشج بني أمية، وكان قد رمحته دابة من دواب أبيه فشجته وهو غلام، فدخل على أمه فضمته إليها وعذلت أباه ولامته، حيث لم يجعل معه حاضنا، فقال لها عبد العزيز‏:‏ اسكتي يا أم عاصم فطوباك إن كان أشج بني أمية.

قال ميمون بن مهران‏:‏ قال عمر بن عبد العزيز‏:‏ لما وضعت الوليد في حفرته نظرت فإذا وجهه أسود، فإذا مت ودُفنت فاكشف عن وجهي، ففعلت فرأيته أحسن مما كان أيام تنعمه. وقيل‏:‏ كان ابن عمر يقول‏:‏ يا ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلا.

صالح بن كيسان.. راعي النشأة المدنية للفتى الأموي

استنارت شغاف الفتى الأموي في المدينة المنورة، وأخذ العلم عن أساطين من رجاله المدنيين، فحدث عن خال أمه عبد الله بن عمر، وعن عبد الله بن جعفر والسائب بن يزيد، ومن التابعين عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وسعيد بن المسيب.

تتلمذ الفتى الأشج عمر بن بعد العزيز على يده شيخه صالح بن كيسان الذي لقنه القرآن والسنة والأدب

وقد تهيأت للرجل البيئة الصالحة والحرص الأبوي على التربية الإيمانية الرفيعة، فوكل أبوه عبد العزيز أمره في المدينة إلى رجلها الصالح صالح بن كيسان، فكان يلزمه بحضور الصلوات الخمس في المسجد، وقد تخلف مرة عن إحدى الصلوات، واعتذر لمؤدبه صالح بأن القيّمة على شأنه كانت ترجل له شعر رأسه وتصلح من شأنه، فكأن الأمر قد عظم على صالح، فكتب إلى عبد العزيز بن مروان في مصر، وأرسل عبد العزيز رسولا يغذ السير من حلوان إلى المدينة المنورة، فأخذ برأس الفتى عمر وحلقه عقابا على التأخر عن تلك الصلاة.

ولم يغب عن بني أمية أن فتاهم المدني نسيج وحده، وأنه كان ابن سيرة غير التي كانت سائدة في أوساط مجتمع الخلافة، وأن اختياراته في الحياة لم تكن مثل اختياراتهم غالبا، ولا كان راضيا عن البطانة المحيطة بهم، بل كان أشد الناس كرها لرجلهم الأهم وركن الدولة الدموي الحجاج بن يوسف.

“امتلأت والله الأرضُ جورا”.. والي المدينة العادل في دولة الظلم

لم يَنشب عبد العزيز بن مروان أن غادر الدنيا، وترك ابنه عمر بين يدي عمه أمير المؤمنين الخليفة القوي عبد الملك بن مروان، ولم يخفَ على عبد الملك ما يتمتع به ابن أخيه من سداد في الرأي واعتداد بوجهة النظر واستعداد للتعبير عن الموقف وتقديم النصح غير وجل ولا هياب، ويكفي أن عمر واجه عمه أكثر من مرة بالنصح الصريح والتوجيه الصارم، وبالمعارضة الواضحة لبعض مواقفه، وخصوصا تقريبه للحجاج بن يوسف الثقفي.

قبل خلافته، ولي عمر بن عبد العزيز خناصرة في الشام ثم المدينة المنورة

ولتمرين عمر على الإدارة والحكم، فقد ولاه عمه الخليفة مدينة خناصرة الصغيرة في الشام، وهي من أعمال حلب، وقد كانت هذه الولاية بعد أن عهد عبد الملك إلى ابنه الوليد بالخلافة، ويرى بعض المؤرخين أن عبد الملك أراد بتولية عمر هذه المدينة النائية استرضاءه وإبعاده أيضا عن مراكز التأثير في الشام أو في الحجاز.

وفي خناصرة أقام عمر ما بقي من عمر عبد الملك بن مروان، قبل أن يستقدمه الخليفة الجديد الوليد بن عبد الملك، فقد ولاه المدينة المنورة ورضخ لشروطه الغريبة يومها على الولاة، ومنها:

العمل بما يرى أنه الحق والعدل، وأن لا يجور على مسلم. أن لا يرهق الناس بالجبايات والإتاوات التي أرهقت كواهلهم منذ عقود. أن يحج أول سنة؛ لأن عمر كان في ذلك الوقت لم يحج. أن يوزع على أهل المدينة عطاءهم السنوي.

ولم يكن أمام الوليد غير القبول بهذه الشروط، خصوصا أن المدينة والحجاز بشكل عام لم يكونا محضن ولاء دائم لبني أمية، فكان في وجود الفتى المرواني العمري في عاصمة المعارضة التاريخية للأمويين دور في التهدئة وتخفيف التوتر.

وقد كان الأمير عمر بن عبد العزيز سباقا إلى إقامة مجلس استشاري من كبار فقهاء المدينة، ودعاهم إلى عونه على الحكم ومده بالرأي والمشورة، ويبدو أن هذا المجلس قد أذاب كثيرا من الجليد بين الوليد وأهل المدينة، قبل أن يصطدم بصخرة داعية الثورة خبيب بن عبد الله بن الزبير، فقد حمل لواء التحريض والثورة على بني أمية بحسبانهم قتلة والده الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير.

ولم تكن سنوات عمر في المدينة سنوات راحة ولا استجمام، بل كان رائد التحديث العمراني في مدينة الرسول ﷺ، فوسع المسجد النبوي ليصل إلى مساحة تقترب من 4 آلاف ذراع، وأضاف إليه معالم وزخرفة جمالية.

رجاء بن حيوة يقرأ كتاب الخلافة “من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وليتك الخلافة من بعدي”

لكن المقام لم يطل له كثيرا حتى طلب الإعفاء من الولاية، وذلك بسبب ما يراه تمكنا لسياسة العسف والظلم التي طبعت حكم الوليد بن عبد الملك، حين أسند ظهره إلى الأمير الحجاج بن يوسف الثقفي، وجعله يده التي يبطش بها، وكان عمر بن عبد العزيز يردد عبارته الشائعة “الوليد بالشام، والحَجّاج بالعراق، ومحمد بن يوسف (أخو الحجّاج) في اليمن، وعثمان بن حيان بالحجاز، وقرة بن شريك في مصر، امتلأت والله الأرضُ جورا”.

ثم مات الوليد بن عبد الملك وطويت صفحة أخرى من علاقة عمر بن عبد العزيز بأبناء عمه، وتسلم الخلافة صديقه وتربه سليمان بن عبد الملك الذي كان أميرا متدينا سهل القياد لين العريكة مرن الساعد، وكان صديقا وخليلا لعمر بن عبد العزيز، فأدنى مجلسه وقربه وأصبح مستشارا له، كما قام بعزل ولاة الحجاج بن يوسف، ليفقد بذلك الجناح المتطرف في الدولة الأموية أحد أهم أركانه، إضافة إلى إصلاحات أخرى ذات بعد ديني وإداري وقيمي، مثل رد المظالم وإعادة الصلوات إلى وقتها بدل تأخيرها إلى حضور الولاة.

ثم اخترم الموت سليمان في شبيبته ونضارة عيشته، بعد أن ألح عليه المرض ذات مساء، وتقاربت عليه الأوجاع، وبدأ يستقبل عارض الموت، فاجتهد للخروج من الدنيا بأقل الأعباء، فاختار للخلافة من بعده أشج بني أمية عمر بن عبد العزيز، مخرجا بذلك الخلافة -مؤقتا- من بني عبد الملك إلى آل عبد العزيز بن مروان.

“إني وليته الخلافة من بعدي”.. بيعة خامس الخلفاء الراشدين

وقف عمر بن عبد العزيز على جنازة صديقه سليمان مصليا ومودعا، قبل أن يوسده الثرى ويعود إلى قصر الخلافة، حيث كان بنو أمية في جمعهم الحاشد ينتظرون الوزير رجاء بن حيوة، ليعلن اسم الخليفة الجديد.

ثم قرأ رجاء بن حيوة كتاب الخلافة وكان مما جاء فيه: “هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وليته الخلافة من بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله ولا تختلفوا فيُطمع فيكم”.

بعد أن كان فتى بني أمية المرفه، أصبح عمر بن عبد العزيز من أفقر الناس، وكان قائما بكّاء خاشعا لله

ثارت ثائرة بني أمية، ورفع هشام بن عبد الملك الصوت بأنه لن يبايع، لكن رجاء كان له بالمرصاد، فقال إذن تُضرب عنقك، فسار يجر رجليه إلى الخليفة الذي خارت قواه لهول الأمانة التي ألقيت على كاهله، وتصافح رجلان أحدهما يسترجع لأن الخلافة فاتته، وآخر يسترجع لأنها صارت إليه، وبين الموقفين ما بين هشام بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز.

وفي أول مواجهة له مع الجماهير خطب عمر بن عبد العزيز في الناس قائلا: أيها الناس، إني قد ابتُليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم.

وترددت الصيحات بين جنبات المسجد رفضا لقراره الاعتزال، وتشبثا بهذا الأمير الجديد الذي طبقت شهرة ورعه الآفاق.

وقف الفتوحات وإصلاح الداخل.. معالم السياسة الجديدة

أخذت الدولة الأموية لبوسا جديدا مع الخليفة عمر بن عبد العزيز، وأخذ هو أيضا لبوسا آخرا مع الخلافة الجديدة، فاستبدل نضير الثياب بخشن الصوف وغليظ الأزر والمعاطف، وخدد الجوع جسده وغابت العُكَن من جسده النضير وأصبح للحزن في مقلتيه مجرى دمع لا ينضب ومستقر ألم لا يزول.

وقد تركزت فلسفة عمر بن عبد العزيز على العدالة والسلم، واستغنى عن فكرة التوسع الجهادي التي كانت تشغل الخلفاء من قبله، فكان من أول أعماله إعادة جيش مسلمة بن عبد الملك إلى الشام، بعد أن قضى سنتين يحاصر القسطنطينية دون جدوى، فقد كان يرى أن التركيز على الداخل، وإصلاح أحوال الناس أولى من فتح مناطق جديدة.

لأهمية الإصلاح الداخلي، أوقف الخليفة عمر بن عبد العزيز حصار القسطنطينية الذي كان قائما آنذاك وأعاد بعض الجيوش

غير أن عمر وهو يتخذ ذلك القرار، ركز على حماية النقاط الرخوة من الدولة والخواصر الحدودية الضعيفة، كما عمل على استنقاذ الأسرى من أيدي الروم، وهكذا قوى الجبهة الداخلية وحمى الحدود، وتفرغ للإصلاح الداخلي الذي كان يرى أنه الأولوية القصوى بعد أن عاثت سنوات الجور في الناس.

وقد بدأ عمر بنفسه، فخرج مما كان عليه من مال ونشب وثراء، وكذلك أهل بيته، وخيّر زوجته المنعمة فاطمة بنت عبد الملك بين رفاهية الملك الذي كانت فيه، وبين شظف عيش الخلافة الجديدة، فاختارت الانحياز إلى زوجها والصبر على اللأواء والفاقة، وبين أيديهم خزائن الدولة العامرة، وكان مما رد منازل وعقارات وأموالا هائلة استقر بها المقام في بيت مال المسلمين.

ثم انطلق سيف العدالة إلى أموال بني أمية يعيد منها إلى بيت المال كل مغصوب، ثم منع عنهم الرواتب المجزية والعطاء السامي الذي كان يهبه لهم الخلفاء من قبله، ولما لم يلن لثورتهم وتذمرهم تشفعوا إليه بعمته فاطمة بنت مروان، وانتهى الحوار بين الخليفة الراشد وعمته إلى طريق مسدود، فخرجت إلى قومها وهي تقول: زوجتم أبناءكم في آل عمر بن الخطاب، فجاء يشبه جده.

وإلى جانب رد المظالم كان عزل الولاة الظلمة ركنا أساسيا من الصورة الجديدة لعهد عمر بن عبد العزيز، فأقال كبير حراس الملوك خالد بن الريان، وقال اللهم إني وضعت لك خالدا فلا ترفعه أبدا، فكان الناس يسألون بعد ذلك أحيٌّ خالد أم ميت؟ وفق ما يروى ابن الجوزي في سيرة عمر بن عبد العزيز.

وكان من أعمال عمر بن عبد العزيز المهمة أيضا جمع السنة النبوية، إذ أمر الفقيه المدني أبا بكر بن حزم بجمع ما صح عنده من أحاديث النبي ﷺ.

ثم اتجه عمر بعد ذلك إلى الحوار مع “التنظيمات والجماعات المسلحة” في عهده، وخصوصا الخوارج الذين سالموه لعدله، بعد أن كانوا شوكة عنفٍ في حلوق الخلفاء من قبله.

“انثروا القمح على رؤوس الجبال”.. شدة في بيت الخليفة وأرزاق تسع الطير

منع عمر بن عبد العزيز متع الدنيا على نفسه، ولبست زوجته وأبناؤه الأسمال بعد نضرة النعيم، ومما يروى عنه أنه وزع مال المسلمين في مصارفه من عطاء وإصلاح وتعليم، وإغناء الفقراء وتزويج الشباب وتجهيز الجيوش الغازية، حتى قيل له لم يبق في بلاد المسلمين فقير، فقال انثروا القمح على رؤوس الجبال حتى تنال الطير من خير المسلمين.

وقد وقر في نفس عمر بن عبد العزيز رضي الله حب الله وخوفه، وينقل ابن الجوزي في سيرة عمر بن عبد العزيز عن زوجته فاطمة بنت الخليفة عبد الملك بن مروان: وسُئلت فاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر بن عبد العزيز عن عبادة عمر، فقالت: والله ما كان بأكثر الناس صلاة ولا أكثرهم صياما، ولكن والله ما رأيت أحدا أخوف لله من عمر، لقد كان يذكر الله في فراشه، فينتفض انتفاض العصفور من شدة الخوف، حتى نقول ليُصبحنَّ الناس ولا خليفة لهم.

في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز ساد العدل واختفى الفقر والجوع، حتى نال الطير نصيب من بيت مال المسلمين

وقد أخذ الرجل نفسه بالشدة، فلم يبق له غير قميص واحد، إذ يذكر المؤرخون أن مسلمة بن عبد الملك عاد عمر بن عبد العزيز في مرضه وعليه قميص وسخ، فقال لأخته فاطمة بن عبد الملك زوجة عمر، ألا تغسلون قميصه، قالت والله ما له غيره، وإِن غسلناه بقي لا قميص له.

“نعم المذهوب إليه ربي”.. شكوى تطفئ شمعة الرجل الصالح

مرض عمر بن عبد العزيز قرابة عشرين يوما ولم يسعَ إلى الدواء، ويروي ذلك ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ قائلا: توفي عمر بن عبد العزيز في رجب سنة إحدى ومئة، وكانت شكواه عشرين يوما، ولما مرض قيل له‏:‏ لو تداويت، فقال‏:‏ لو كان دوائي في مسح أذني ما مسحتها، نعم المذهوب إليه ربي. وكان موته بدير سمعان، وقيل‏ بخناصرة، ودفن بدير سمعان، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر، وكان عمره تسعا وثلاثين سنة وأشهرا، وقيل‏:‏ كان عمره أربعين سنة وأشهرا.

بعد 1300سنة من النوم الهانئ في معرة النعمان بالشام، مليشيات حاقدة تنبش قبر خليفة بني أمية العادل رضي الله عنه

وبذلك تنطفئ بذلك شعلة إيمان وومضة حقيقة وأنوار عادلة وارفة، وسيرة رجل يعطي الفقراء ولا يعطي الشعراء، كما وصفه بذلك الشاعر العربي النبيل جرير بن عطية:

يعودُ الفضلُ منك عـلى قُريشٍ .. وتُفْرِجُ عنهم الكُرَبَ الشِدادا
وقد أمَّنت وَحــشهم برفق .. ويُعْيي الناس وَحْشُك أن يُصادا
وتبني المجد يا عمرُ بن لـيلى .. وتكفي الممْحـِلَ السَّنَةَ الجمادا
وتدعو الله مجتهداً ليــرضى .. وتذكر في رَعِـــيَّتك المعادا
وما كعب بن مامة وابن سُعْدَى .. بأجودَ منك يا عُــمرُ الجوادا
تعوّدْ صالح الأخــــلاق، إني .. رأيت المرء يلزم ما اسـتعادا

رحم الله عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين، سليل بني أمية وحفيد عمر بن الخطاب.