“آل باتشينو”.. ملك السينما والمسرح وعراب المافيا الهارب من أضواء الشهرة
بلال المازني
من النادر أن تصادفك في كل تاريخ هوليود شخصية مماثلة لشخصية “ألفيرد جيمس باتشينو” المعروف اختصارا باسم “آل باتشينو”، أو “باتشينو”، فهو شخصية عجيبة مليئة بالتناقضات، الوضوح حد الغرابة، والغموض حد الامتعاض، تغريه الشهرة، لكنه في الوقت ذاته يكرهها ويهرب من أضوائها، حتى إن أول مقابلة صحفية حقيقية له كانت في العام 1979، وقد أجراها معه “لورنس غوربل” كاتب سيرته الذاتية.
نُحت اسم “آل باتشينو” في قائمة أعظم الممثلين في تاريخ السينما، رغم أن هوليود في بادئ الأمر لم تؤمن بموهبته.
ليس من السهل تفكيك شخصية “آل باتشينو” لفهم سر العبقرية التي اكتشفها فيه مبكرا شخصان، هما معلمته “بلانش روثستاين”، والمخرج “فرانسيس كابولا”، أما المعلمة فقد زارت منزل جدته جنوب برونكس بنيويورك، وأوصتها بأن تدعم حفيدها ليواصل التمثيل، كما ألقت مُدرسة الدراما نبوءة غريبة حين وصفته بأنه “يمتلك نار الممثلين الصقليين العظماء”، فهي تعرف جذوره، كما تعلم أن دماء قرية “كورليون” تجري في عروق “آل باتشينو” من جهة أمه.
أما المخرج “فرنسيس فورد كوبولا” فقد شاهده ذات مرة على خشبة المسرح والتقطه ليكون أحد أعمدة ملحمة فيلمه “العراب”، وواجه بشراسة سخرية أستوديوهات “باراماونت بيكتشرز” من “آل باتشينو”، حين عرض عليهم “كوبولا” سيناريو الفيلم، فهو ممثل مسرحي مغمور، كما أن حجمه لا يصلح لدور “مايكل كورليوني”، حتى إنه وُصف حينها بالقزم لقصر قامته.
دماء كورليوني.. نشأة في حي برونكس الفقير المختلط
“لقد نجوتُ من أشياء كثيرة، جئتُ من جنوب برونكس في نيويورك، ونشأتُ في وسط فقير جدا، وعشتُ في عائلة ممزقة”. هكذا اختزل “آل باتشينو” محيطه الذي تربى فيه قبل الشهرة خلال مقابلة صحفية في برنامج “ذي توك شو” (The Talk Show) في العام 1992.
يدين “ألفريد باتشينو” إلى أشياء كثيرة صنعت منه ببساطة نجم “آل باتشينو” عبقري التمثيل في كل تاريخ السينما الأمريكية، وكان من الغريب أن يدين للفقر وجنوب برونكس أحد مراكز الطبقات الفقيرة المختلطة، وهو أيضا الحي الذي ترعرع فيه المخرج العبقري “ستانلي كوبريك” والممثلة “آن بانكروفت”.
ولد “ألفريد جيمس باتشينو” في العام 1940 في حي “هارلم” الشرقي، ولم يكد يبلغ العامين حتى افترق والداه قبل أن تنتقل به أمه إلى حي جنوب برونكس للعيش مع والديها، وهما أصيلا كورليون الموطن الأصلي لبطل ثلاثية فيلم “العراب” الشهيرة “مايكل كورليوني”، وهي أيضا مسقط رأس ثلاثة زعماء مافيا سيطروا على إيطاليا، وهم “توتو رينا” و”برناردو بروفنتسانو” و”لوتشيانو ليجيو” أحد زعماء “الكورليونيزي” أسرة المافيا الواسعة في كورليوني.
لم يربط “آل باتشينو” بصقلية وبأصوله في كورليوني سوى ثلاثة أشياء: ملامحه الإيطالية، على الرغم من أن الملامح المختلفة عن البيض لم تكن في الواقع ميزة في حي ينحدر ثمانون بالمئة من سكانه من أعراق مختلفة لاتينية وأفريقية وآسيوية.
أما هدوؤه الغامض الذي يشبه حجرا باردا يسد فوهة بركان خامد، فهو شبيه بالهدوء العجيب الذي يلفّ ملامح “برناردو بروفنتسانو” زعيم مافيا “كوزا نوسترا”، وقد ينسى “آل باتشينو” قرية كورليوني لولا كلمات معلمته التي استحضرت أصوله، ووصفته بأنه يحمل شعلة أسلافه الصقليين، حتى بقيت تلك الكلمات تقوده وتعود به كل مرة لتصقل أدوار المافيا التي لاحقته.
“اعتادت أمي أن تأخذني إلى السينما”
في أغلب مقابلاته الصحفية يستحضر “آل باتشينو” ذكرى أمه بألم، ولكن بكثير من الامتنان أيضا، فقد كانت معلمته الأولى، إذ كانت تحارب من أجل حماية ابنها الوحيد الذي يصارع ليثبت لأترابه بأنه فتى قوي لا يخشى الخطر، حتى إنه في إحدى المرات مشى فوق حبل مشدود على سكة رفيعة وصارع ألم سقوطه، ليثبت لأصدقائه أنه لا يخاف شيئا.
وقد منحته أمه كنزا ثمينا هو حب السينما، إذ يقول في مقابلة صحفية مع “لورنس غروبل” في العام 1979: اعتادت أمي أن تأخذني إلى السينما في سن مبكرة جدا، هكذا بدأت التمثيل، إذ كنت أعيد تمثيل المشاهد عند عودتي إلى المنزل، وخاصة مشاهد الموت، أما جدي فأظن أنه كان يعلم أنني سأصبح ممثلا، لأنني كنت أحب أن أسمعه يروي لي قصصا عن نيويورك وشرق هارلم في أوائل القرن العشرين، كان يروي لي الحكايات ساعات طويلة فوق سطح المنزل، كان يُخيّل لي إننا على متن قارب صيد، لكننا كنا هناك في جنوب برونكس، فوق السطح.
عاش “آل باتشينو” الفقر، وكان نوعا ما راضيا بقدره ذاك، لكن فراق والدته التي توفيت في سن الأربعين أو أكثر بقليل، وموت جده بعدها بوقت قصير؛ حفرا جرحا غائرا في قلبه، لقد فقد ملهميه، وبدأ رحلة البحث عن ملهم آخر.
“قال بعضهم إنني أمثل مثل مارلون براندو”.. موهبة تفرض نفسها
يعترف “آل باتشينو” بأنه عاش طفولة سعيدة، رغم الفقر ورغم غياب والده عن كل تفاصيل حياته، فقد كان يحلم بأن يصبح لاعب بيسبول، لكنه فشل في ذلك لأنه يفتقر إلى الموهبة، وفي المقابل لم يتبين ملامح مستقبله، رغم أنها بانت لأصدقائه الذين كانوا يلقبونه بالممثل، ولمعلمة الدراما التي لاحقت موهبته التمثيلية التي لم يدركها هو نفسه إلا لاحقا.
يقول “آل باتشينو” في مقابلته مع الكاتب الصحفي “لورنس غروبل”: لم أكن أدرك ما الذي سأفعله في المستقبل، كل ما أعرفه هو أنني أملك طاقة عجيبة، كان من عادتي أن ألقي في القسم “قصيدة البحار العجوز” لـ”صامويل كولاريدج”، وكانت أول مرة أسمع فيها اسم “مارلون براندو” حين كنت بصدد التمثيل في المسرحية، فقال بعضهم إنني أمثل مثل “مارلون براندو”. أليس ذلك غريبا؟
كان عمري آنذاك 12 عاما، وأظن أن تشبيههم لي بـ”براندو” كان بسبب مشهد في المسرحية يقتضي أن أكون مريضا، وقد مرضت فعلا حين أديت الدور، وكنت أحس بالمرض بالفعل في كل مرة أؤدي فيه دوري في تلك المسرحية.
“هذا الفتى يملك نار الممثلين الصقليين العظماء”
انصاع “آل باتشينو” إلى قدره، ودخل مدرسة فنون الأداء، فالجميع تنبأ له بطريق محفوف بالورود في مجال التمثيل، لكنه كان يكره دراسة التمثيل، هذا ما اعترف به حين قال: التحقت بمدرسة فنون الأداء لأنها المدرسة الوحيدة التي قبلتني، فمستواي الدراسي لم يكن عاليا، لم أكن سعيدا أبدا بالتمثيل، ولم يكن ذلك يعطيني حماسا بقدر الحماس الذي يمكن أن تقدمه لي قفزة ثنائية، وامتداد جسمي على الأرض، والتقاط هدف في الملعب.
في الواقع، كان الملل الذي تسرب إلى نفسه هو بسبب دروس “ستانيسلافسكي” في فن التمثيل، مما قاده لأن يصنع نظريته الخاصة، ويستقل عن الأطر التي وضعها الأولون في فن الأداء. يقول “باتشينو” في إحدى مقابلاته الصحفية: كل تلك المحاضرات حول التمثيل المنهجي والتمثيل الجدي ولزوم استيعاب ذلك كان شيئا جنونيا. ما الذي حصل؟ أين المتعة في ذلك؟ لذلك مللت بعض الشيء من كل ذلك.
كان ما ينفره من كل نظريات التمثيل تلك هو القيود التي تلزمك بأن تستوعب ذلك الأسلوب وتطبقه، في حين يرى “آل باتشينو” أن أسلوبه ومنهجه الوحيد في التمثيل هو “كن عفويا وطبيعيا”، حتى إنه تفاجأ من طلب أحد المدرسين له لمحاكاة مشهد ما يفعله حين يكون وحيدا في غرفته، وقال “آل”: بما أنني حينها لم أملك أبدا غرفة خاصة بي، فإنه كان علي أن أتدبر الأمر، أتذكر أن أستاذة الدراما قالت لي “كم كنت طبيعيا”، وأصبحت منذ ذلك الحين أحاول أن أكون طبيعيا.
لا أعلم الفرق بين أن تكون طبيعيا وأن تكون حقيقيا. قالت لي هذه المدرّسة: هذا الفتى يملك نار الممثلين الصقليين العظماء، واتصلت بأمي التي أجابتها أن التمثيل جُعل للأثرياء.
“الشهرة فخ، وأنا أشعر أنني ضحيتها”
في العام 1958 انضم “آل باتشينو” إلى “أستوديو هيربرت برغوف للتمثيل”، ولم يكن حينها قد تجاوز 18 عاما من عمره، وهناك التقى بأستاذه “شارلي لوتون” الذي عوّض له عائلته وأصبح معلّمه بحق، وقد نصب له فخا حريريا حين استوقفه ذات مرة وهو نازل من سلالم العمارة، وقال له دون مقدمات “أنت ستكون نجما”، ثم عرّفه على بعض الأدباء، وفتح له أبواب المسرح والسينما، لذلك قال “آل باتشينو” في إحدى حواراته: الشهرة فخ، وأنا أشعر أنني ضحيتها.
لم يلاحق “آل باتشينو” الشهرة، ولم يبحث بجهد عن فرص للتمثيل، ففي عامه السادس والعشرين كان كل همه هو الحصول على سقف يأويه، لذلك قبل على الفور عرضا للعمل بأجرة أربعة عشر دولارا في الأسبوع، مما مكنه من تأجير مسكن، ويقول “آل” في مقابلة صحفية مع كاتب سيرته الذاتية: لم أكن أملك فلسا واحدا، ولم أكن قادرا على توفير شيء لآكله، لكن على الأقل كنت أملك سقفا يأويني، كانت فترة مثمرة، لكنها الأصعب في حياتي.
“ساهم الأستوديو في دفعي نحو التمثيل”.. بداية الاحتراف
مهّد “أستوديو هربرت برغوف” الطريق أمام “آل باتشينو” ليدخل عالم التمثيل، وكان أيضا سببا في قبوله في معهد “لي ستراسبورغ” بعد أن رفضه قبل ذلك بأربع سنوات.
التحق “باتشينو” بصفوف الدراسة هناك، وحصل على منحة قيمتها خمسين دولارا ثمن الإيجار، وكان ذلك من عائدات صندوق “ذاكرة جايمس دين”، كانت تلك صدفة غريبة، فـ”جايمس دين” هو العبقري الملهم بالنسبة لـ”آل باتشينو” وفيلم “متمرد بلا سبب” (Rebel Without Cause) لـ”جايمس دين” هو الذي قاد “باتشينو” للحلم بالنجومية، مثلما قادته مسرحية “نورس البحر” لـ”تشيخوف” حين كان ابن 14 عاما ليفكر لأول مرة بأن يكون ممثلا.
لا ينكر “آل باتشينو” فضل “أستوديو لي ستراسبورغ” وكونه خطّ له الطريق الواضح للدخول إلى عالم المسرح. يقول “باتشينو”: إلى جانب “تشارلي لوتون”، ساهم الأستوديو في دفعي نحو التمثيل، وكان السبب المباشر في أن أترك كل تلك الوظائف التي عملت بها لأكون ممثلا فقط. لقد أعطاني الثقة، وقدم لي مكانا لأتمرن فيه.. كان مرحلة مهمة في حياتي.
“مرحبا يا مَن بالخارج”.. سخرية الجماهير في المسرحية الأولى
لعب “آل باتشينو” أول دور له في مسرحية “مرحبا يا من بالخارج” (Hello Out There)، وقد سخر الجمهور من أول جملة قالها، لكن ذلك لم يثنه عن المواصلة، ففخ الشهرة لم يطبق بعد عليه.
انغمس “باتشينو” حينها في تفكيك أعمال ملهميه ودراستها ليستوعبها، ولتصبح تلك الأعمال بمثابة أناجيل الخلاص. يقول “باتشينو”: لقد كان “تشيخوف” أهم كاتب بالنسبة لي، “بريشت” و”شكسبير” هما اللذان ساعدوني في حياتي، إضافة إلى “هنري ميلر” و”بالزاك” و”دوستويفسكي”، لقد قدموا لي جميعا في سنوات العشرين من عمري سببا لأوجد. لذلك أعتبر أن الأديب هو كل شيء بالنسبة لي، ودونه لا يمكن أن أوجد.
يدين “آل باتشينو” للمسرح ولأدبائه، فخشبته هي انطلاق حقيقي لالتقاط تفاعل الجمهور الذي هو قبالته مباشرة بدون حواجز، لقد كان المسرح ملاذه في كل مرة يفشل فيها في السينما، وهو الذي أنصفه وقدر موهبته حين تُوج بجائزة “توني” الأولى لدوره في مسرحية “هل يرتدي النمر ربطة عنق؟” (?Does A Tiger Wear A Necktie)، لكن رغم ذلك التتويج ظل “باتشينو” ممثلا مغمورا حتى حين أدى دوره بإتقان في فيلم “الرعب في حديقة نيدل” (The Panic in Needle Park) الذي أخرجه “جيري شاتزبرغ” في العام 1971.
“فرانسيس كوبولا”.. اصطياد ماهر للشعلة على المسرح
لم يحمل العام 1972 في البداية أي مفاجآت في الأفق، فقبل ذلك بسنة واحدة عرض عليه المخرج “فرنسيس فورد كوبولا” دورا في فيلم كان قد بدأ في الإعداد له، يروي قصة المافيا الأمريكية ذات الأصل الصقلي في حقبة منتصف الأربعينيات حتى السبعينيات، وكان ذلك جنونا، فالفيلم يتحدث عن الجريمة المنظمة التي كانت حينها في أوج سطوتها.
يقول “آل باتشينو” في مقابلته مع كاتب مذكراته: قبل الجزء الأول من “العراب” لم يكن أي أحد يريدني، لكن “فرنسيس” أراد العمل معي بقوة، ولا أفهم سبب ذلك، فالأستوديوهات لم تكن تريد التعامل معي، ولا أحد أراد التعامل معي، ولا أحد يعرفني.
التقط “فرانسيس كوبولا” شعلة “باتشينو” وهو على المسرح، وكان يعلم أنه صيده الثمين لذلك لم يستسلم لكل الحواجز التي وضعتها أستوديوهات الإنتاج، خاصة عندما أتى “كوبولا” بممثل مغمور وهو “باتشينو”، وبممثل نجم سيئ السمعة هو “مارلون براندو”.
بعد عام من رفض شركات الإنتاج مشروع فيلم “العراب”، لم يخفت حماس “فرنسيس كابولا”، واتصل بـ”باتشينو” عارضا عليه العمل معه من جديد، وقد جره إلى هوليود وإلى أستديوهات “باراماونت بيكتشرز”، لكنها قبلت الفيلم ورفضت “باتشينو” الذي كان سيستبدل بالممثل “جاك نيكلسون”، لولا أن “كوبولا” نجح في إقناع شركة “باراماونت” عندما عرض عليهم مشاهد من فيلم “رعب في حديقة نيدل”، لتنطلق رحلة “آل” في طريق المجد.
“كان أصعب الشخصيات التي تقمصتها”.. سيد المافيا
عرض الجزء الأول من فيلم “العراب” (The Godfather) في شهر مارس/آذار من العام 1972 وحقق نجاحا باهرا، ورشح “مارلون براندو” لأفضل أداء، و”آل باتشينو” لأفضل دور ثانوي، وقد أغضب ذلك الترشيح “باتشينو”، فلم يكن يرى في نفسه أنه ممثل ثانوي، وأحس “آل” بالظلم، فقد كان ظهوره أطول من “مارلون براندو”، لكن صنف دوره في الفيلم بأنه ثانوي.
يقول “آل”: لم أكن أريد خلال تأدية دوري في الجزء الأول من “العراب” إلا خلق لغز كبير حول شخصية “مايكل”، ويمكن للمشاهد أن يشعر بذلك، فحين تشاهده في بعض المشاهد يبدو كأنه مغلف بحالة غير مفهومة من الانتشاء والغفوة، وكأنه وعاء يفيض بالتفكير. كان ذلك فعليا ما قمت به، وفي الواقع كنت أستمع وأنا أؤدي بعض المشاهد إلى الموسيقي “سترافنسكي” صاحبة معزوفة “طائر النار”، شعرت أن شخصية “مايكل” ينبغي أن ألفها ببعض الدراما، وإلا كانت لتكون مملة. لم ألعب دورا شبيها به، كان أصعب الشخصيات التي تقمصتها.
لا يمكن الحديث عن “مايكل كورليوني” في بضع سطور، فتحوله من ولد وديع إلى زعيم للمافيا دون أن يتصنع ملامح الملاك أو الشيطان كفيل بدراسة كاملة، فهو مزيج من “آل” الفتى ذي الدماء الصقلية وابن “برونكس” الذي عاش محاطا بحب أمه، وهو الفتى الذي سعد بفقره وحزن في الآن ذاته، وهو الفتى المتمرد دون قضية، والذي ألهمه أعظم أدباء المسرح في التاريخ، لكن في الآن ذاته لم يكن “مايكل كورليوني” كل ذلك فحسب، بل كان فيه أيضا بعض من جينات المافيا والخارجين على القانون، لذلك في كل أدواره الشريرة في فيلم “محامي الشيطان” (The Devil’s Advocate) أو “الوجه ذو الندبة” (Scarface) كان “آل باتشينو” بالفعل شريرا من دون أي تصنع أو تكلف.
“عطر امرأة”.. إنصاف الأوسكار بعد عناد طويل
في العام 1973 أرادت هوليود أن تكفر عن ذنبها وحكمها السيئ على “آل باتشينو”، فرُشح لنيل أوسكار جائزة أفضل دور أساسي في فيلم “سيربيكو” (Serpico) للمخرج “سيدني لوميت”، ويروي سيرة الشرطي “فرانك سيربيكو” كاشف الفساد في سلك الشرطة، ورغم أنه لم يحالفه الحظ للفوز بالأوسكار، فإنه فاز بجائزة “غولدن غلوب” لأفضل ممثل عن دوره في الفيلم.
في العام 1974 تسلم “آل باتشينو” المشعل عن “مارلون براندو” الذي بدأ نجمه يأفل، وحصل على دور رئيس في الجزء الثاني من فيلم “العراب”، وتلاه الجزء الثالث، ولم ينازعه أحد فيه حتى إنه كاد يتفوق على “مارلون براندو” في الأداء.
في الواقع لم يكن “آل باتشينو” سجين دوره في “العراب”، ولعل أكبر دليل على ذلك هو إبداعه وتجسيده العبقري لدور لص يسرق بنكا في فيلم “ظهيرة يوم قائظ” (Dog Day Afternoon) الذي أخرجه “سيدني لوميت” في العام 1975، وعبقريته في فيلم “والعدالة للجميع” (And Justice For All) الذي أخرجه “نورمان جويسون” في العام 1979.
كما أبدع “آل باتشينو” في لعب دور “توني مونتانا” في فيلم “الوجه ذو الندبة” (Scareface)، ثم دوره في آخر جزء من ملحمة “العراب” في العام 1990، ورغم أن أغلب النقاد يشهدون بعبقرية أدائه فيه فإنه لم ينل عنه جائزة الأوسكار، وفي العام 1992 حصل بجدارة على الأوسكار عن أفضل أداء في فيلم “عطر امرأة” (Scent of a Woman)، وقد جسد فيه دور عسكري متقاعد وضرير.
“ذلك الرجل حاول إنجاز شيء ما”.. أمنية الموت
من كان ليتخيل أنه في أوج مجده آخر سبعينيات القرن الماضي كان “آل باتشينو” يتخفى في شقته التي تحمل اسم المرأة التي كانت تسكن قبله “كانديس بورغن”، وطيلة خمس سنوات كاملة في ثمانينيات القرن الماضي لم ينجز “آل باتشينو” أي فيلم، ومن العجيب أنه شعر بالحرية حين بدأ الجمهور بنسيانه، لكن أمنيته ظلت ثابتة، وهي أن يرثيه الجميع عند موته بالقول “ذلك الرجل حاول إنجاز شيء ما”.
ورغم أن أضواء الشهرة أعمت كثيرين، فقد بقي “آل باتشينو” مبصرا وبعيدا عنها، فأصبح أعظم الممثلين في التاريخ.