“هنري لوتريك”.. ثورة الرسام الأرستقراطي الذي جذبته عوالم باريس السفلية

خاص-الوثائقية

كحال من تركوا بصماتهم على التاريخ، في مختلف الفنون والعلوم والحياة، يحكي لنا فيلم “لوتريك تولوز.. الرسام المراوغ” -الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية- قصة رسام فرنسي ثار على تقاليد مجتمعه وطبقته الأرستقراطية، وخط لنفسه مسارا في الحياة والفن، فاهتم بالعالم السفلي في باريس من بيوت الدعارة والمراقص وقدم أصحاب هذا العالم على أنهم حالمون وبشر، وهو ما وضعه تحت مطارق النقاد والأكاديميين في المجتمع الفرنسي.

فيلم “لوتريك تولوز.. الرسام المراوغ”

 

لكن بعد منيته، التي لم تمهله كثيرا، إذ توفي وهو ابن 37 عاما؛ اعترف به أهل الرسم والفن في مجتمعه، ومنحوه وفنّه ما يستحقان من حفاوة. قصة تستحق القراءة، قصة تمرد أثمرت نجاحا بعد فوات الأوان.

“يجب أن لا نصدق أن الرسم عملية هيّـنة”

“هنري ماري دي تولوز لوتريك” من أبرز فناني ما بعد الانطباعية، تناول حياة الليل الباريسية، فرسم الحياة البوهيمية للعاصمة؛ الملاهي وما تحويه من اللهو والصخب بأسلوب اتسم بالعمق والحرية والجرأة والتجدد، وكان لاذعا بعض الشيء.

 

بالإضافة لكون “تولوز” رساما، فقد كان مصمما وخبيرا في الطباعة الحجرية، ومصمم ملصقات، ورغم حياته القصيرة فإن إنتاجه الفني كان غزيرا. وبعشقه المجنون للحرية ثار هذا الأرستقراطي على التقاليد. يقول “لوتريك”: لا أتبع أي مدرسة وأعمل في زاويتي فقط، ربما أفعل أشياء غريبة، وهذا لا يزال أمرا غامضا. يجب أن لا نصدق أن الرسم عملية هيّـنة.

بمهارة فائقة استغل “لوتريك” حيوية عصره، ولم يواز سحره إلا الحيرة التي كان يثيرها، فقد كان موجودا دائما حيث لا نتوقعه.

نكبات الطفولة.. حوادث تمهد طريق الفتى القصير إلى الفن

ولد “هنري” في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 1864 لعائلة أرستقراطية في ألبي الفرنسية، والداه هما الكونت “ألفونس شارل دي تولوز لوتريك مونفا” وأمه الكونتيسة “أديل زوي تابيه دي سيليران”، وقد نشأ في عائلة سعيدة، وكان والده فارسا شغوفا بتربية الصقور، لذلك عاش طفولته بين أحضان الطبيعة والحيوانات. وقد رافق والده في اجتماعات العائلة وطقوس الصيد، فأحب الخيول منذ صغره، وتعلم ركوبها وهو ابن 4 سنين.

عاش “هنري” طفولته وسط عائلة من الفنانين الهواة، لكنه أثار الإعجاب بسبب تطور موهبته، فقد كانت إيحاءاته شديدة الدقة، وخطوطه واضحة، وظلاله واقعية، وقد شجعه والده لزيارة صديق العائلة فنان الحيوانات “رينيه برينستو” الذي نصحه بالمراقبة المستمرة، لذلك أخذت رسوماته تحاكي ركوب الخيل، وفرحة الراكبين وجنون مضامير السباق.

أحب لوتريك الخيول منذ صغره وتعلم ركوبها في سن الرابعة وعشق رسمها فيما بعد

 

انقلبت حياة “هنري” رأسا على عقب حين بلغ 13 عاما، وذلك عندما سقط على الأرض وكسرت ساقه، فذهب إلى جبال البيرينيه ليتعافى، لكنه وقع في مجرى الوادي وكسرت ساقه الأخرى، واستمر الجزء العلوي من جسده بالنمو، لكن قدماه أصيبتا بفشل عظمي لا يمكن علاجه، واستقر طوله على 152 سم.

استمر “هنري” تحت رعاية والدته، وابتعد الكونت “ألفونس” عنه، فلم يعد “هنري” الابن المثالي الذي كان يأمله، وبات عليه أن يثبت نفسه فنيا. وعن ذلك يقول: أنا وحدي طوال اليوم، أرسم وأرسم قدر ما أستطيع ،إلى أن تتعب يداي من الرسم، وعندما يحل الظلام أنتظر قريبتي “جاندي” لتأتي وتجلس بجوار سريري، وأستمع إلى أحاديثها دون جرأة على النظر إليها، فهي جميلة وطويلة وأنا لست جميلا ولا طويلا.

“أمي العزيزة يا له من يوم ويا له من نجاح”

في عام 1898 وعلى هامش المعرض العالمي كان العالم الفني يشهد تغير جذريا، فالفنانون الانطباعيون الشباب كانوا يعتبرون ورثة للوحة “غداء في الحقل” التي رسمها “إدوارد مانيه”، وقد سئموا القواعد التي فرضتها المدرسة الكلاسيكية، فباتوا يعارضون الأكاديمية أكثر من أي وقت مضى، فلا مزيد من البقع الداكنة ومزج الألوان،وفضلوا التركيز على وجود الضوء في كل مكان، بحيث تكون الطبيعة دائما نصب أعينهم. لكن رفضت المؤسسات جرأة هؤلاء الشبان المتمردين، مما أجبرهم على إنشاء مساحات نشر خاصة للحفاظ على وجودهم.

بسبب كسرين في قدميه في طفولته، توقف نمو الطول لدى الرسام لوتريك تولوز

 

وبعد أن عرض لوحاته لأول مرة في صالون الفنانين المستقلين، فاجأ “هنري دي تولوز لوتريك” الجميع، وكان الفنان الشاب قد عرض لوحاته في صالون المنبوذين في باريس وصالون العشرين في بروكسل، وكانت أعماله تلاقي الإعجاب بنفس القدر الذي تلاقي فيه الرفض.

كتب “هنري” لوالدته: أمي العزيزة يا له من يوم ويا له من نجاح، فقد تلقى الصالون صفعة قد يتعافى منها، لكنها ستجبر كثيرين على إعادة التفكير. فالسواد الأعظم أصابهم الرعب من شعرها الأرجواني وملامحها التي تشبه صفار الليمونة، فهي تبدو وكأنها مزيج من الخضراوات، لكن لو ابتعدت عنها ثلاث خطوات لوجدت أن البربرية التي تغلف مظهرها محسوبة بدقة.

أما لوحته التي رسم فيها أمه الكونتيسة، فهي جميلة بهدوئها ومحيرة بتقاسيمها وألوانها الزاهية، تتناغم تماما مع فن التصوير الطليعي آنذاك وهي حداثة أبدعها “هنري”.

“بكل بساطة رسمك سيئ للغاية”

في منطقة الشانزليزيه الراقية كان “ليون بونات” الرسام الأكاديمي المرموق، يدير أحد أعرق استوديوهات العاصمة. وكان “بونات” زاهدا لكنه افتقد إلى الدفء، وكان مولعا بالمواضيع الدينية وصور الكتاب والسياسيين.

وكانت لدى “بونات” حساسية تجاه أي تجديد، لذلك كان يكره الانطباعين، لكن بالنسبة للشاب “هنري” فإن وجوده في حضرة “بونات” هو السبيل لتدريب مرموق ومستقبل واعد واعتراف عائلي، لكن للأسف فقد كان حكم بونات نهائيا. يقول “هنري”: قال لي “بونات” لوحاتك ليست سيئة بل أنيقة، لكن بكل بساطة رسمك سيئ للغاية.

رسام الحيوانات وصديق العائلة رينيه برينستو الذي ألهم لوتريك رسم الخيول

 

طرد “بونات” جميع طلابه، فقد أجبر على إغلاق مقره وورشته، وواصل “هنري” تدريبه تحت رعاية “فرناند كورمون”، ودخلت كلمة تقنية مبكرا إلى قاموسه، مثل تقنيات الفحم والخط، وعندما كانت تستحوذ عليه الرغبة في الألوان كان يرسم على الورق الشفاف، وكذلك رسم على الورق المستخدم بالفحم والألوان، وهي عملية لم يعتمدها سواه.

يقول “هنري”: مع أن رئيسي الجديد لا يتمتع بالهيبة والألق المذهل الذي تمتع به رئيسي السابق، فإنه يضفي على تدريبي نضارة أوهامي الأولى، وبذلك سيكون بمقدوري أن أذهب إلى أبعد مما تصورته في البداية.

“أعيش حياة بوهيمية”.. تمرد الفتى الجريء المستفز الذكي

كان “هنري” طالبا مُجدّا مدفوعا بطموحه، وجذبت جرأته الانتباه، إلى جانب مواضيعه وخطه اللاذع المفعم بالديناميكية وخياله الخصب، فقبل عام من المعرض أقام تجاربه في مرسمه، وقد استخدم صديقه الرسام “فرانسوا غوزيه” كعارض.

يقول “غوزيه”: الوقوف كعارض أمام “هنري” كان ممتعا، فقد تظاهرت بأني أدفع عربة طفل، ووضعت يدي على ظهر كرسي. وكان رسم الصورة يحتاج إلى خمسة أشخاص، ولم يكن لديه سوى واحد، فاستغنى عن أربعة ورسمهم من ذاكرته، فكانت الفتاة بفستانها الأبيض تسير أمام والدتها التي ترتدي قبعة سوداء، وأضاف عربة أجرة نهاية الشارع، وقمصانا طويلة على نافذة أحد المتاجر، وفي الخامسة صباحا كان قد أتم اللوحة.

كما شكلت “لوحة المناولة الأولى” تحديا بسبب تفرد موضوعها، بعيدا عن الأجواء الاحتفالية في ليالي مونمارتر. فقد يتناول “هنري” تاريخ العائلة البرجوازية بشكل لاذع، لكنه يعرف في الوقت ذاته كيف يجسد الأناقة والدقة، فتظهر ألوان اللوحة أناقة العائلة بأجسادهم النحيلة، وظهر “فرانسوا” بالليل بلا مبالاة لافتة، صوره بهيئة الرجل الذي يمكن أن يكون عليه من خلال عينيه السوداوين الغائرتين وشفتيه الهائلتين وأنفه الكبير.

لوحة “المناولة الأولى” التي يتناول فيها لوتريك العائلات البرجوازية بشكل لاذع

 

في أيام الأحد كان “هنري” يحب الانغماس بالأجواء الشعبية في ملهى مولان روج، فلم يكن شيئا يصد الأرستقراطي “هنري”، فقد كان جريئا ومستفزا وساخرا. تصفه قريبته “ماري” بأنه كان ذكيا ولبقا، لكنه كان في مونمارتر رجلا مختلفا عن ما كان في عائلته. يقول “هنري”: أعيش حياة بوهيمية (العيش بنمط حياة غير مألوف)، ولست معتادا على البيئة التي تكبلني فيها الاعتبارات التقليدية، وعليّ نسيانها تماما إن أردت أن أحقق شيئا ما.

مدارس الفن.. ظلال الرسامين في لوحات “لوتريك”

لم يفقد “هنري” طموحه بعد موت “مانيه”، فلديه أصدقاؤه من الرسامين، مثل “ديغا” و”سيزار” و”رينوار”. يقول “هنري”: تحيا الثورة ويحيا “مانيه”، رياح الانطباعية تهَب لي الأستوديو وأنا متألق، لقد تحملت ما يكفي من غضب “كورمون” بمفردي.

في الأستوديو الخاص به التقى “هنري” بالعاملة المتواضعة بمونمارتر “كارمن غودين”، وكان حضورها طاغيا، وأصبحت أفضل عارضاته. وفي لوحته لها مزج بين المدارس الأكاديمية والطبيعية والانطباعية، وكذلك استفاد من فنانين يشاركهم نفس الفكر، وبإلهام من “جون لوي فورنان” الرسام والكاتب الساخر والمؤرخ لأوجه القصور البرجوازية؛ صور “هنري” هشاشة الطبقة العاملة حديثة النعمة.

“كارمن غودين” أفضل العارضات اللاتي استعملهن لوتريك في رسوماته

 

ومن “فان غوخ” استلهم “هنري” القوة الإبداعية والالتزام المطلق للفن، وتشهد على ذلك لوحته التي رسمها بالأقلام الملونة في مونمارتر، واكتسب من الفنان الانطباعي “ديغا” براعة طرح الموضوع من زوايا جديدة.

وقد أعاد “هنري” تفسير اللحظة من خلال الألوان بكل تلك التأثيرات وطموحه الطفولي، وظهر ذلك واضحا في لوحته “سيرك فرناندو” التي يصور فيها الراكبة بحداثتها وقوة الحركة فيها.

تقنيات الطباعة الحجرية.. أبواب الشهرة تفتح

ركز “هنري” على المنظور والعمق الداخلي والخارجي من خلال التوازن بين الألوان البراقة والأصفر بشكل ثري وواسع أظهر قدراته وبراعته، وحين بلغ 27 أصبح مشهورا وانهالت عليه الطلبات من باريس وبروكسل ولندن .

وفي ذلك الحين كان الغرب يحب كل غريب، فافتتنوا بالفن الياباني بشكله المعتدل، وتناغم الألوان في مطبوعات هوكوساي، وظهرت إبداعات “هنري” مجددا في ملصق الديوان الياباني، وهي واحدة أخرى من عرائس إلهامه، وهي ملكة الإغراء “جين إفريل”.

رسم لوتريك الملصق الذي انتشر في كل شوارع باريس لإريستيد براونت المغني بملهى السفراء

 

ومع دخول الطباعة الحجرية كان “هنري” قائد الملصقات الحديثة، وقد استشرف التقنيات الحديثة لآلية الطباعة، وجمع بين السرعة والابتكار. فقد عمل ملصقا للمغني “إريستيد برلونت” أثناء عمله في ملهى السفراء، وسرعان ما انتشر الملصق في كل شوارع باريس، وبذلك اقترن اسمه بفنان عظيم وأصبح اسمه على كل لسان. ومع ظهور نجم الفنانة “إيفيت غيلبرت”، طلبت منه تنفيذ ملصق لها.

يقول الناقد “كلود روجي ماركس”: كان “هنري” رسام كاريكاتير ومشوها للحقائق، وعاش نفس القلق الذي عاشه “دوميه” الذي كان يحب العبث بالشخصيات، لكن ليس بقدر عبث “هنري”.

كانت ملصقاته تثير الحيرة والدهشة لكنه لم يكتف بذلك، إذ ظهرت الصحف المصورة والمجلات الساخرة وتوسعت وزاد انتشارها.

“علينا قبول أنفسنا كما هي”.. عبيرة النشوة الباريسية الممزوجة بالفن

وفي عام 1893 التقى لوتريك بالناقد الفني “تادي ناتنسون” المدير الفني لمجلة “لابيرو بلانش”، ونصّب نفسه مدافعا عن الفنانين غير الملتزمين من رسامين ومصورين وشعراء وكتاب وفلاسفة وكل الفوضويين التي نشرت المجلة أعمالهم، فوجد “هنري” عائلته الحقيقية، وافتتن “ناتنسون” بالروح الأرستقراطية والفنية لدى لوتريك “هنري”، لكنه ركز على الجانب الحسي.

كان “هنري” يقرأ للكتاب “كلمون سو” و”برينار” والكاتب المسرحي “كريستيان” عاشق الكلمات الذكية، كان المسرح يشبع كل رغباته ويطلق العنان لخياله، ويقول: دخلت مهنة جديدة، وهي مهنة الديكور، فيجب أن أقوم بإعداد ديكور مسرحية مترجمة عن الهندوستانية، واسمها عربة الأجر، فهو عمل ممتع، لكنه ليس سهلا.

في تلك المرحلة استنشق “هنري” عبير النشوة الباريسية مع أصدقاء جدد، فقد خلد ملامح الفنانة التراجيدية الشهيرة “سارة برنار” والمغنية “مارسيل لاندر”، كان كل شيء بالنسبة له فنا.

نساء قبيحات لكنهن حالمات ومسترخيات، كما رسمهن ووصفهن لوتريك

 

وفي ذروة مسيرته تفادى “هنري” الأرستقراطي متقلب المزاج السقوط في الهاوية من جديد، فقد أثار كل الحواس، لكنه تفادى الوقوع في مأزق البؤس أو الابتذال، بل التقط اللحظات الحميمية أو القاسية لتلك النساء الحالمات، أو المنتظرات، أو المسترخيات، دون أن يطلق الأحكام عليهن أبدا، بما أنهن لم يحكمن عليه أبدا.

كان “ديغا” أكثر قسوة من “هنري”، فعندما سئل مرة لماذا ترسم هؤلاء النسوة القبيحات قال لأنهن قبيحات، كان يكره النساء، ولكنها لم تكن مغروسة في أعماق “هنري” الذي كان عاشقا للنساء، ولم يعرف الانتقام أو الاكتئاب، كان يقول “علينا قبول أنفسنا كما هي”.

إدمان الكحول.. بداية نضوب الإبداع والصراع مع الأقدار

مع إدمانه الكحول بدأ إنتاج “هنري” ينضب، وفي عام 1899 دخل مصحة الطب النفسي “لافوليس سان جيمس” بناء على طلب والدته للتداوي من الهذيان الارتعاشي العنيف، ولم يتعرف عليه أحد من الزوار أثناء إقامته، أما في عالم الصحافة فكان بعض النقاد ينتظر شفاءه، بينما بدأ آخرون بدفن الفنان الذي طالما شوهوا سمعته.

وبعد ثلاثة أشهر من الحجر خرج “هنري” ضعيفا، يرافقه “بولفيون” بناء على طلب والدته، كي لا يعود إلى الإدمان، لكن “هنري” أخذ يصارع قدره حتى توفي عام 1901 عن عمر ناهز 37. ومنذ وفاته استحوذت رسوماته الأخيرة على الاهتمام، ليس بسبب موضوعاتها وإنما بسبب أسلوبه، فقدم “هنري” المراوغ وصية ملؤها النضج والجدية والعمق جسدت شخصياتها المخاوف والخيالات والتطلعات.

بسبب إدمانه شرب الخمر، ترك لوتريك الرسم فأرسلته أمه إلى المصحة لتلقي العلاج

 

في ميدان لاسبيجان وفي مقهى لورا مور حيث اعتاد “هنري” الجلوس، بدأت تظهر “لوسي جوردان”، وفي زاوية محل القبعات تدلي الآنسة “لويز بلويه” بشهادتها على انجذاب الفنان للصور بشكل كلاسيكي، إنها نشيد للأنوثة وتحفة للأناقة.

يكشف “هنري” بعين مصور حذق ومن خلال جرأة التأطير غير المتماثل هشاشة عازف الكمان المسن شارل دان كلاس، أما في الأوبرا فإنه يمثل المأساة الغنائية من خلال تبسيط الألوان الزاهية التي تمثل جسد الإمبراطورة التي لا تقهر “ميسلين”.

ومن خلال لوحة امتحان في كلية الطب، يصور “هنري” قريبه “غابريل” الذي أصبح طبيبه لاحقا، وهذا الصدام مع التقشف الذي تتسم به مهنة الطب، يذكرنا بحالته الصحية. وقد عرف الدكتور “جان ألفريد فرونييه” كطبيب معالج الزهري وإدمان الكحول، لكنه كان يشيح بنظره عن المريض،إلا إذا كان الرسام هو الذي يتهرب بنفسه.

“لن يذهب حزني على هنري”.. عمر قصير وإنتاج غزير

تقول قريبته “ماري اتميز”: يتميز “هنري” برقّته تجاه أمه التي نشأ في حضنها، والإعجاب العميق الذي يكنه لوالده، وهنا لا بد من تحطيم الخرافة التي تقول إن الاب وابنه لم يحب أحدهما الآخر. نعم كانا مختلفين بسبب مظهرهما الخارجي، لكنهما كانا متعلقين ببعضهما بشكل لا يصدق.

وهناك رسالة مفجعة من الكونت “ألفونس” عشية وفاة ولده قال فيها: رأيته دون أن يستطيع رؤيتي بعينين مفتوحتين على مصراعيهما، لم يعد يرى أي شيء بعد ثلاثة أيام من الهذيان اللطيف والرائع الذي لم يكن موجها لأي شيء أو أي أحد، بل هو الذي عانى كثيرا من نفسه، لن يذهب حزني على “هنري” المسكين المسالم الذي لم يقسُ على والده.

تكريما لفنّه، أقيم عام 1931 معرض للوحات الرسام لوتريك تولوز جمع أكثر من 6000 عملا باسمه

 

عارض الرئيس الجديد لمجلس المتاحف الوطنية ومدرسّه القديم “ليون بونات” إدراج أعمال “هنري” ضمن المجموعات الوطنية، واعتبر أنه كان يرسم مثل الأطفال،وبعد إلحاح كبير من والدته وقريبه “غابريل” وتاجر الأعمال الفنية موريس جوايان افتتح متحف لأعماله عام 1922 في مدينته ألبي تكريما لابنها البار. وفي العام 1931 جمع المعرض المخصص له بين المعجبين والحاقدين أكثر من 6000 آلاف عمل باسمه، وكأنه عاش قرنا من الزمن ليكون بهذه الغزارة.

عاش “هنري دي تولوز لوتريك سبعة وثلاثين عاما لكنه كان سخيا وغزيرا في عمله، وكانت له بصمة واضحة في عالم الفن والخيال والإبداع.


إعلان