“ستيفن كينغ”.. ملك الرعب الذي أخافتنا أقلامه منذ عقود

خاص-الوثائقية

كثيرون يتساءلون: ما الذي يخيف كاتب روايات الرعب والتشويق؟ وأي كوابيس فظيعة تراود هذا الكاتب ليصحو في اليوم التالي ويفرّخ كل هذه الطاقة من الرعب والقتل والدماء ليخيف بها القارئ والمشاهد؟

لمعرفة إجابات هذه الأسئلة لا بد من الذهاب إلى “ستيفن كينغ”، سيد “الرعب”، والنجم الذي ألهمت رواياته عددا لا يحصى من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية.

 

ففي الفيلم الوثائقي -الذي عرضته الجزيرة الوثائقية- “ستيفن كينغ.. شر لا بد منه”، نغوص في عوالم أحد أكثر المؤلفين مبيعات في العالم، ونحاول سبر أغوار نجاح رواياته المرعبة، واستمراريتها وأسباب جاذبيتها ولمسها للقارئ بعمق كبير، وعوامل نجاح “كينغ” في مواصلة مثل هذا العمل الضخم على مر السنوات منذ عقود.

بدأت القصة برواية واحدة، كانت كفيلة بفتح أبواب الشهرة له عبر عالم من الرعب الشديد، ونظرا لما تضمنته هذه الرواية من أحداث، فقد حولت الكاتب إلى الأكثر مبيعا للروايات في العالم. ففي 5 أبريل/نيسان 1974، اكتشف العالم “كاري” قصة مراهقة وحيدة تمتلك قوة غريبة وشريرة تحوّل حفلة تخرجها من المدرسة الثانوية إلى كابوس، ويتضمن الفيلم مشاهد مرعبة للغاية، وحظر بسبب ذلك على الأطفال الذين لم يبلغوا 17 عاما.

“كاري” الرواية التي حولت “ستيفن كينغ” إلى صاحب الروايات الأكثر مبيعا في العالم

 

اتصفت شخصية “كاري” في الرواية بعدم الرحمة، وشدة التعقيد والمرض النفسي في المعالجة الدرامية للفيلم، وسعت حدود الرعب المتعارف عليه قبل الفيلم، بتحويل حفلة تخرج من الثانوية العامة إلى جحيم، من أجل الانتقام من قسوة زملائها في المدرسة.

والمؤلف “ستيفن كينغ” هو روائي غزير الإنتاج الأدبي بشكل يفوق تصور البشر، فقد بقي أكثر من نصف قرن ملكا لأفلام الرعب بلا منازع. يقول: بذلت قصارى جهدي لإخافتكم يا رفاق، إنه عمل شاق ولكن كان يجب على أحد ما القيام به.

وفي حديثه سلط الكاتب الضوء على الجانب المظلم للإنسانية، كما لم يفعل أحد غيره، من سلسلة روايات “البرج المظلم” إلى سلسلة روايات “الميل الأخضر”.

“الناس يجدون أن الرعب ممتع”.. تمارين الموت

يفسر “ستيفن كينغ” أسباب تركيز الكتب والأفلام في الفترة الماضية على الهوس والرعب والقتل والمرضى النفسيين، بقوله: هناك 12 سببا لذلك، العشرة الأولى منها، تتعلق بأن الناس يجدون أن الرعب ممتع، أما السببان الآخران فلأن الناس يخافون. وأظن أن تأثير أفلام الرعب يكبر حينما يشعر الناس بالخوف والقلق على حياتهم، فيرون أن هذه الأفلام ليست طريقة للتخلص من الخوف، بل للتفريغ عن العنف.

يقول” كينغ”: يمنحك المجتمع نقاطا على سلوكك الجيد، أي أننا نحصل على درجات مقابل التعبير عن هذه العواطف التي يقرها المجتمع، كالحب والصداقة والإخلاص وروح الدعابة وأمور غيرها، ولكن مقابل كل واحدة من هذه العواطف يوجد جانب مظلم، فلدينا الخوف والعدائية والغضب، وكلنا لدينا ميل أحيانا نحو السادية، وقصة أو فيلم الرعب يمنحنا الفرصة للتعبير عن هذا الجانب بطريقة غير مؤذية نسبيا.

“ستيفن كينغ” أشهر كتّاب روايات الرعب في العالم

 

ويضيف قائلا: بين الفينة والأخرى يحتاج الناس للتعبير عن هذا، ولا بد أن يكون هناك جنون في حياتك، في الوعي وعدم الوعي والأحلام. وأحد أسباب محبة الناس لأفلام الرعب، أنه يمثل تمرينا للموت، والأخير أمر جلل، فبعد 200 سنة من الآن لن يكون أحد منا على قيد الحياة، ولهذا فنحن في وضع غير مريح إطلاقا، فنحن المخلوقات الوحيدة -على حد علمنا- القادرة على التفكير في نهايتها، ونعرف أنها ستحدث، ولهذا علينا أن نفعل شيئا حيال ذلك، لكي نستطيع التعامل معه كي لا نصاب بالجنون، وبهذه الطريقة فإن قصة أو فيلم الرعب يشبهان -إلى حد ما- قصة ركوب ألعاب الملاهي التي تحاكي الموت العنيف أو أشياء كالقفز بالمظلة الذي تضطر لفعله عندما تتحطم الطائرة.

“الأمر أشبه بقتل المرسال لأن الرسالة لم تعجبك”

هذا النجاح الأسطوري الذي حققه “ستيفن كينغ” منذ بداية مسيرته المهنية سواء في المكتبات أو الأفلام والمسلسلات، يكشف شهية الجمهور الكبيرة للرعب، بما في ذلك أصحاب أكثر العقول الحساسة، وهذا ما يثير القلق.

ويدافع “كينغ” عن العنف في رواياته قائلا: لم يرتكب أي طفل أي عمل عنف، متأثرا بموسيقى “ميتاليكا” أو رواية لي، إن كنت تبحث عن عذر لتجنب المشكلة الحقيقية ومعالجة الأعراض، فيمكنك تحميل المسؤولية للأفلام والروايات، والأمر أشبه بقتل المرسال لأن الرسالة لم تعجبك.

وأشار إلى أن السؤال الرئيسي هو عن العنف الحقيقي في أمريكا مقابل العنف في إنجلترا أو أسكتلندا أو غيرها من الدول، ويقول مجيبا عن هذا السؤال: الجواب هو أن الفارق يكمن في توفر الأسلحة لأنها بيت القصيد، وهناك ثقافة كاملة للعنف في أمريكا، وأنا لا أنكر أنني طرف في هذا، ولكنني ابن ثقافتي.

والرعب –بحسب كينغ- هو منتج أمريكي خالص بما في ذلك الصدمات النفسية، فطفل الخمسينيات لا بد أن يتأثر باغتيال الرئيس “جون كينيدي”، ناهيك عن صعود موجة غير مسبوقة من العنف في المجتمع الغربي.

وعن كون روايات “كينغ” قصص خرافية حديثة تحذر القارئ من وحوش الحياة الواقعية، يقول “كينغ”: عندما كنت طفلا، كان هناك رجل ربما كان أول قاتل متسلسل في العصر الحديث ويدعى “تشارلي ستاركوازر”، وكان لديّ دفتر لجمع القصاصات، وكنت أجمع الأخبار عنه في هذا الدفتر. وفي يوم ما، وجدت والدتي الدفتر، وسألتني يومها: لماذا تتابع أخبار هذا الرجل؟ كانت هناك صورة لذلك الرجل الشاب الذي قتل أولئك الناس، وكانت عيناه فارغتين بالكامل، ورأيت شيئا غير إنساني فيهما، أشبه بصفرين، لا خير ولا شر، وكان علي أن أعرف أخباره للتعامل معه في حال صادفته، وهذا ما لم أخبر به والدتي.

“إيت”.. جسر البالغين لعيش طفولة ثانية

بعيدا عن التشويق الممتع لإخافتنا، يُنظر إلى قصص وروايات “ستيفن كينغ”، كقصص خرافية حديثة تحذر القارئ من وحوش الحياة الواقعية، ويكمن هذا الطموح وراء واحد من أكبر أعماله وهي رواية “إيت” (IT) التي تروي حكاية معركة يخوضها مجموعة من الأصدقاء ضد كيان شرير يقابلونه للمرة الأولى في طفولتهم، ثم لاحقا حين يكبرون.

رواية “إيت” (IT) تروي حكاية معركة يخوضها مجموعة من الأصدقاء ضد كيان شرير يقابلونه للمرة الأولى

 

فقد فرضت هذه الرواية نفسها منذ نشرها كحجر أساس في روايات “كينغ”، وفي أدب الخيال بشكل عام، وبعد أكثر من 30 عاما على نشرها، تصدرت هذه الرواية مرة أخرى، بعد تحويلها إلى أكثر أفلام الرعب ربحا، ويتصدرها المهرج الوحشي “بيني وايز”.

وعن هذه الرواية يقول “كينغ” إن ما أراد فعله فيها هو إظهار أن للأطفال أفقا أوسع فيما يتعلق باستقبال الأمور والإيمان بها والقدرة على تقبل الأشياء. ويقول: إنها تتعلق بأكثر الأشياء التي أقدرها في طفولتي شخصيا، وهي الحب والرعب، وأن تجد يدا تمسك بيدك حين تسوء الأمور، وتصبح الحياة مؤلمة، فالرواية لها جوهر موضوعي متماسك، وهو أنه لا يمكنك أن تصبح بالغا في هذا المجتمع أو ذاك قبل أن تنتهي من طفولتك.

ويكشف أن ما حاول فعله في رواية “إيت”، هو بناء جسر ومنح القراء البالغين فرصة ليعيشوا تلك السنوات مرة أخرى، قدر ما يستطيعون. ويرى أن الأمر يعود لتلك الرواية الخيالية، وأن أحد الأمور التي من المفترض أن تفعلها قصة الرعب، هو إعادتنا إلى مرحلة الطفولة، حيث يبدو كل شيء خارج عن سيطرتنا، ويفترض بنا كبالغين أن نسيطر على الأمور، وحين نفكر نجد أنفسنا على العكس من ذلك تماما.

“مهمة كاتب الخيال أن يعيدنا لمرحلة الطفولة”

يتصدر الأطفال شخصيات رواية “ستيفن كينغ” المرعبة، فقد كتب مرة يقول: إن قصة الرعب هي إعادة تأكيد على المخيلة البسيطة، فمهمة كاتب الخيال هي أن يعيدنا لمرحلة الطفولة ولو لمدة قصيرة.

ويقول: منحت لأبطال رواياتي مواهب خارقة، فهذه طريقة أخرى لتقول للقارئ، انتبه لطفلك وللمواهب التي يمتلكها، فالأطفال لا يفكرون بشكل مستقيم، وإنما بطريقة فيها مناورة، الأمور التي تتعلق بالأطفال تثير اهتمامي، ويبدو أنها تجعلهم يفتحون أبوابا من الآمال والخيال، فهم يصدقون أي شيء.

“الأطفال” هم أكثر أبطال روايات “ستيفن كينغ” المرعبة

 

ويتابع: نحن نسمح لأطفالنا أن يكونوا مجانين حتى يبلغوا عامهم الثامن، ثم نسألهم: لما لم تنضجوا بعد؟ ثم يكبرون وينضجون ويحترفون مهنا مختلفة، وهذا يؤدي لنمو أجسادهم وتقلص مخيلاتهم وقدرتهم على تخيل عالم من العجائب حتى تختفي، وأحد أسباب قراءة الناضجين لكتبي أنهم يريدون استعادة مخيلتهم بل واستخدامها.

إعادة القدرة على الحلم.. تحريف واقع القراء

وتهدف قصص “ستيفن كينغ” إلى إعادة قدرتنا على الحلم، عبر دعوتنا للبحث عن الخيال في أكثر أشكال الواقع ابتذالا ولا إنسانية. وقد جعل ذلك موضوعا في أول وآخر تجربة له في الإخراج السينمائي وذلك في فيلم “الحد الأقصى للسرعة” (Maximum Driver) الذي تعلن فيه الآلات الحرب على الإنسان.

وعن هذه التجربة، يقول “كينغ”: إننا نعيش في مجتمع تكنولوجي، يستخدم معظمنا فيه أجهزة متطورة، ونحن لا نملك أدنى فكرة عن كيفية عمل هذه الأشياء، فقد كان يخاف من السيارات والشاحنات التي تسير بسرعة كبيرة، وكان مرعوبا من أن ترجع سيارة أو شاحنة إلى الخلف وتدهسه، وكان ينظر إلى مصابيحها ويتخيلها كالعيون. وهذه المخاوف هي التي ضمنها بفيلمه “الحد الأقصى للسرعة”.

فيلم “الحد الأقصى للسرعة”.. حيث تعلن الآلات الحرب على الإنسان

 

وبالطريقة نفسها التي يُحرّف بها “ستيفن كينغ” الآلات عن وظيفتها، يستخدم الخيال ليحرف واقعه وواقع قرائه. ويعود إلى طفولته ليروي لنا كيف ترعرع في قرية صغيرة، إذ يقول: لم تكن لدينا صنابير مياه، وكنت أقصد مدرسة فيها حجرة تدريس واحدة، تُستخدم من كل الصفوف، هجرنا أبي حينما كنت في سنتي الثانية، وأخبرتني والدتي أنه في إحدى الليالي قال لها إنه خارج لشراء علبة سجائر ولم يعد مطلقا، وجدنا متعلقاته وكتبه وأوراقه، وكان ملاحا في البحرية التجارية، وكان من بين المتعلقات كتب عن الوحوش والشياطين والأشرار، ولذا -على ما يبدو- كان يشاركني الاهتمامات ذاتها.

ويواصل قائلا: الوجود بالنسبة لي لم يكن مكانا رائعا بل كان مملا، ولهذا أردت الذهاب إلى الفضاء الخارجي، أو قتال الوحوش في الفضاء الخارجي، لذلك كتبت عن هذه الأشياء، وفيما بعد وجدت حلقة الوصل بينها وبين الواقع الذي نعيشه، وكانت الخدعة هي إيجاد جسر بين قصص الرعب التي كانت تكتب في القرن الثامن عشر مثل “فرانكنشتاين” و”دراكولا” وإسقاطها على العالم الذي نعيشه اليوم.

تصالح الكاتب الشعبي مع فضائله وعيوبه.. تحت مجهر النقاد

ويروي “ستيفن كينغ” أنه في طفولته تأثر بكاتب كان يكتب قصص رعب بطريقة مختلفة عن الآخرين، لأن أحداث هذه القصص لم تكن تحدث في أوروبا الشرقية، بل في أماكن واقعية وقد تكون قرب منزلي، وأضاف أن قصة “دراكولا” درسها لطلابه عدة سنوات، وفي كل مرة يكتشف فيها بعدا جديدا. وقد سأل مرة طلابه ماذا لو عاد مصاص الدماء وذهب إلى قرية صغيرة وافترس أهلها؟ وهذه كانت فكرة لرواية عنوانها “أرض سايلم”، وتتحدث عن مصاص دماء يستقر في إحدى البلدات ويحول معظم سكانها إلى مصاصي دماء.

وبعيدا عن إبداعاته غير المقيدة، يبقى “ستيفن كينغ” مقيدا بفكرة الكتابة عن سكان بلدته الأم وإليهم، ولا يزال يعيش في منزله القديم الذي جُدد ليشبهه. ويشير إلى أنه بقي في قريته لأن الجميع يعرفه، وهو يعرف الجميع، ويقول متحدثا عن الناس في قريته: يبدون صادقين للغاية وحقيقيين، أعامل في القرية كشخص عادي لا كغريب أطوار، فأنا إنسان طبيعي أقوم بعملي بجد.

آثر ستيفن كينغ أن يعيش في منزله القديم في قريته بين أناس يعرفهم ويعرفونه على أن ينتقل إلى المدينة الكبيرة

 

وردا على من ينتقد كتاباته ويصفها بأنها دون المستوى ولا تتضمن جودة أدبية، يؤكد أنه ابن ثقافته ويرفض وضع حد بين الأدبيْن الجاد والشعبي، ولكنه يرى أيضا أن هناك رؤية نقدية تقول: نحن النقاد الشجعان والقلة التي تفهم الجودة الأدبية، وليس هناك الكثير منا، ونحن المهوسون بأقلام الرصاص الذين نفهم المعنى الحقيقي للأدب.

ويرى هؤلاء أن أي كاتب يحظى بجمهور عريض من القراء لا يمكن أن يكون كاتبا، لأن معدل الجودة في كتاباته سيكون منخفضا للغاية، وهذا كلام فارغ، فهو متأقلم مع فكرة أن ينظر إليه ككاتب شعبي بفضائله وعيوبه.

“سأقتل ابني، أريد أن أقتله”.. بذرة القصص القادمة من الواقع

وقد ورث “ستيفن كينغ” حبه للنصوص المبطنة من روايات الخيال العلمي وقصص الرعب المصورة، خصوصا أفلام الوحوش التي كان شغوفا بها في شبابه، لأن هذه الثقافة الشعبية الخفيفة والمرهفة تلقى صدى عميقا في مخيلة طفل من الخمسينيات.

وكان السبب وراء كل هذه الأفلام -بحسب “ستيفن كينغ”- واحدا، وهو الإشعاع النووي، ودائما ما كانت الأفلام تبدأ بصور من الأخبار عن انفجار هذه القنابل، ودائما وأبدا كانت تلك الحشرات العملاقة -التي كانت تظهر في أفلام الخمسينيات- تغزو المدن وتسويها بالأرض، في تمثيل رمزي واضح لما يمكن للأسلحة النووية فعله في المدن.

ويكشف “ستيفن كينغ” أنه يكتب الكتاب مرتين، وتأخذ بعض الكتب منه وقتا طويلا، إذ استغرق عاما في كتابة قصة “الإشعاع”، ويقول عنه متعجبا: سنة من عمري، لا بد أن الكتاب يتناول موضوعا مهما!

رواية “البؤس”.. تتحدث عن كاتب اتخذته إحدى معجباته المخلصات سجينا

 

والسبب أن هذا الفيلم يتعلق بجذور طبقته المجتمعية، ناهيك عن تعلقه بالكتابة العميقة، وبسبب المدة الطويلة والعمق، شعر “ستيفن كينغ” بالخيبة للمعالجة الفيلمية لهذا الكتاب، حتى أن مخرج الفيلم “ستانلي كوبريك” غيّر في أحداث القصة ونهايتها.

واللافت أن فكرة كتابة رواية “الإشعاع” جاءت من داخل منزل “ستيفن كينغ”، إذ عاد في أحد الأيام إلى منزله ووجد ابنه الذي كان يبلغ من العمر وقتها 4 سنوات قد كتب ولوّن على أوراق كانت تعود له فقال في نفسه: سأقتل ابني، أريد أن أقتله.

ويقر “ستيفن كينغ” أن ما يجري في حياته الشخصية ينعكس على رواياته الخيالية.

أما في حالة رواية “البؤس” التي تتحدث عن كاتب تتخذه إحدى معجباته المخلصات سجينا، فإن المثير للاهتمام هو العلاقة أو الديناميكية بين الإنسان العاقل –الذي يصادف أنه كاتب- وبين المعجب المهووس، بحسب “كينغ”.

وهذه الرواية كانت فرصة له لفعل عدة أمور، منها الحديث قليلا عن العلاقة غير الصحية التي يبنيها كثير من المعجبين مع نجومهم المفضلين.

“لم أظن أن أحدا يود قراءة رواية كهذه أبدا”.. تجاوز الحدود

تضم روايات “ستيفن كينغ” عنصر الاستبطان، إذ أنه دائما ما يشكك بكونه كاتبا للرعب والإثارة، تماما كما في روايته “النصف المظلم” التي أخرجها للشاشة “جورج روميرو” الشريك القديم لـ”كينغ” ومخرج فيلم “ليلة الأموات الأحياء” (Night of the Living Dead).

تدور الرواية حول قصة أديب يكتب باسم شخصية مستعارة، وحينما أراد التوقف عن الكتابة باسم مستعار تظهر هذه الشخصية للحياة، وتدور أحداث دراماتيكية في الفيلم.

“مقبرة الحيوانات الأليفة” رواية يموت فيها بطلها الطفل دهسا ثم يعود فيطارد الجميع

 

ويعترف “كينغ” قائلا: المرة الوحيدة التي شعرت فيها أنني تجاوزت الحدود كانت حينما ألفت كتابا بعنوان “مقبرة الحيوانات الأليفة”، وكانت البلدة التي تدور في أحداثها الرواية حقيقية، حيث كنت أدرس “الكتابة الإبداعية” فيها، وكان ابني “أوين” طفلا، وركضت خلفه قبل أن يذهب إلى الشارع، والفرق بين الواقع والرواية أن بطل الشخصية الروائية فشل في إنقاذ ابنه. وبدأت أفكر أن هذا أفظع شيء على الإطلاق، فلن يود أحد قراءة كتاب عن هذا الطفل الصغير الذي يعود ويطارد الجميع.

ويتحدث عن مشاعره بعد الانتهاء من الكتاب، إذ قال: يا إلهي، وضعت الكتاب في الدرج، ولم أظن أن أحدا يود قراءة رواية كهذه أبدا، لكن الكتاب قرئ.. يا للهول.

“الكتاب هم العملاء السريون للفنون”.. كائن عديم الأخلاق

يعتبر “ستيفن كينغ” أنه حينما يجلس أمام الآلة الكاتبة يصبح كائنا عديم الأخلاق، ولكنه يرى أن مسؤوليته كفنان هي قول الحقيقة فقط. ويقول: ربما كتبت بعض الأكاذيب الكبرى عن الأشباح والعفاريت ومصاصي الدماء والأموات الأحياء، لكنني أود أن أصدق أنني قلت الحقيقة قدر استطاعتي عن الإنسان، كما أود أن أصدق بأن الموضوع الرئيسي لجميع كتبي هو الإنسان.

وبتشجيعه هذه الوحوش لدفع الإنسانية إلى أقصى حدودها، يسعى “ستيفن كينغ” لتسليط الضوء على مجتمعاتنا بشراسة ممتعة للكثيرين.

ويقول إنه حظي بفرصة الكتابة عن أشياء تخريبية إلى حد ما، وفي روايته “الموقف” كتب عن ما سيحصل حينما ندرك أخيرا أن تكنولوجيتنا تجاوزت أخلاقياتنا، وفي رواية “المنطقة الميتة” أتيحت له فرصة الحديث عن غرابة المعجزة، وعن الإنسان الذي يعرف أمرا أو يستطيع القيام بأمر مختلف عن الآخرين، وفي روايته “أشياء ضرورية” تحدث عن الجشع في الثمانينات وكيف يكون مضحكا عندما تقع فيه، وأن تكون أمريكيا في عهد “ريغان”.

رواية “أطفال الذرة”.. هكذا تستحوذ الكنيسة على عقول الأطفال الطرية وتعيد تشكيلها

 

يقول “ستيفن كينغ” في إحدى محاضراته: لن أقول إننا مجتمع من البدناء الكسالى الذين يتناولون الوجبات السريعة، ويقودون السيارات الكبيرة، ويشربون الصودا والجعة، ويشاهدون التلفاز، ويرتدون ملابس ذات أحجام كبيرة، ويفضلون المشي على الركض، ولكنني من دون أن أقصد قلت الحقيقة.

وتربى “ستيفن كينغ” على “الاعتقاد بأن الكتاب هم العملاء السريون للفنون، وأننا نتوارى عن الأنظار، ولا بد أن نفعل ذلك كي نجمع مادة كتبنا، نحن نرى ما يفعله الناس، ولدينا القدرة على استعادة ما يفعلونه والكتابة عنه في قصصنا”.

“وحده العقل المتيقظ يستطيع صد الوحوش”.. حروب الرواية

يتربع على عرش القوى الشريرة التي يحاربها “كينغ” في أعماله، المتعصبون الدينيون الذين يصور عنفهم الديني كقوة هدامة كبرى. وعن هذا يقول: زوجتي كاثوليكية سابقة، وهي مولعة بالتحدث عن أمر كانت تسمعه عندما كانت تذهب إلى مدارس (الأبرشيات) وإلى الكنيسة يوميا، ويبدو أن موقف الكنيسة الكاثوليكية بالنسبة للأطفال يلخص بعبارة: أعطنا أطفالك، وسيكونون ملكنا إلى الأبد، وجزء من خطيئة الكنيسة -بالنسبة لي- أنها تأخذ عقول الأطفال الطرية وتعيد تشكيلها، وما حاولت تقديمه في رواية “أطفال الذرة” حالة متفاقمة لنتيجة الهوس الديني.

وسواء اتخذ أبطال رواياته جانب المتنورين أو المتنمرين، فدائما ما كان يحذر “كينغ” قراءه من تجهيل الجماهير، وخصوصا عندما تكون الشخصيات التي يبتكرونها لحكام كاريزماتيين يتغذون على ضعف فرائسهم، تماما كما في حالة “غريغ ستينسن” السياسي الشعبوي بطل رواية “المنطقة الميتة” التي نقلها للشاشة المخرج “ديفيد كروننبيرغ”.

“ستيفن كينغ”: تنبأت بوصول “ترامب” للرئاسة فألفت كتاب “المنطقة الميتة”

 

وفي هجوم لاذع للرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”، يقول “ستيفن كينغ”: إنه مضحك، تنبأت بوصول “ترامب” للرئاسة، فألفت كتاب “المنطقة الميتة”.

ويشير إلى تكرار “دونالد ترامب” لعبارات “سيكون هائلا” أو “ذاك جميل” و”ذاك رائع”، ويعلق عليها قائلا: تلك العبارات لا تعني شيئا، ويسمح للساسة بالحديث في العموميات بدلا من التحديد، نحن لا نُعامل بالعموميات، فالشخصيات المنتخبة التي من المفترض أن تكون الأفضل والأذكى، غالبا ما يلجؤون للتضليل الصريح.

من كوابيسه إلى قصصه، يقول لنا “كينغ” في نهاية المطاف الشيء ذاته، وحده العقل المتيقظ يستطيع صد الوحوش، تماما كما فعل أبطال رواياته “الجسد” التي حولها “روب راينر” إلى فيلم بعنوان “قف إلى جانبي” (Stand by Me).

فيلم “قف إلى جانبي” يحكي قصة 4 فتيان في رحلة يكتشفون فيها أمورا عن ذواتهم

 

والرواية والفيلم يتناولان قصة 4 فتيان يسيرون بمحاذاة سكك الحديد ليروا جثة، إنها قصة ضعف لأطفال يريدون رؤية شيء ما، وخلال رحلة الطريق يكتشفون أمورا عن ذواتهم وعن بعضهم.

“أظن أنني أعطيت القارئ قدرا كبيرا من المتعة المنحرفة”

يلفت “ستيفن كينغ” النظر إلى أننا نعيش في مجتمع يرى كثيرون فيه أن المكتبات وغيرها من المظاهر الثقافية ذات أهمية هامشية، كما لو أن تعلم التفكير أمر طبيعي كتعلم المشي، ويقول: صدقوني، الأمر ليس كذلك، فتعلم التفكير هو نتيجة العمل الجاد والجهد المتواصل.

ولا يؤمن “كينغ” بما يسمى “تسطيح الأمريكيين” ولكنه يقول: بما أن القراءة تتراجع يوميا، وقد تراجعت بالفعل، فالفكر النقدي يتراجع هو الآخر. لدي أنا وزوجتي مؤسسة، ونحاول دعم أكبر عدد ممكن من المكتبات، لأننا نؤمن بأنها موارد مهمة في مجتمعاتنا، وكانت تعني لنا الكثير حينما كنا شابين ولا نملك المال، وكنا نحب الكتب، وكانت المكتبات هي المكان الوحيد التي نحصل منه على الكتب مجانا.

يعتقد “ستيفن كينغ” بأن تراجع القراءة يؤدي إلى تراجع الفكر النقدي

 

ويخلص “كينغ” إلى قوله: القدرة على التفكير بوضوح ومنطقية تؤدي إلى اتخاذ القرارات السليمة، وأرى أن القدرة على التفكير بوضوح تزداد مع القدرة على القراءة.

ويتمتع “سيتفن كينغ” حاليا (74 عاما) بمكانة لا تضاهى في الأدب المعاصر، وقد صنع لنفسه هذه المكانة على مدى أكثر من نصف قرن، كواحد من أعظم كتاب القصة في عصرنا، بصفته فاعل خير وزوجا وأبا ومحبا وراعيا، وكاتبا محليا وعالميا، وعميقا لكنه مفهوم للجميع.

وفي إجابة عن المكانة التي وصل إليها بعد هذا المسار الناجح، يجيب “كينغ”: أظن أنني أعطيت القارئ قدرا كبيرا من المتعة المنحرفة، وأخذت كثيرا من معاناتهم اليومية، واصطحبتهم في رحلة إلى مدينة الأشباح، والناس خرجوا من هذه الرحلة بكثير من المتعة، وكل ما فعلته في مسيرتي -بالنسبة لي- كان أمرا مهما.


إعلان