“سيد درويش”.. معجزات الفتى الثائر الذي غيّر وجه الطرب المصري
في ذلك اليوم 16 سبتمبر 1923، كانت مصر كلها تعيش واحدة من أعظم لحظاتها التاريخية؛ فقد استطاعت ثورة الشعب أخيرا أن تُجبر المحتل البريطاني على الإفراج عن قائد الأمة سعد زغلول، ليعود من منفاه وسط استقبال شعبي حافل.
ولكن بيتا واحدا فقط كان الحزن يُخيّم عليه، رغم أن هذا البيت بالذات كان هو الأولى بالفرحة بعودة “سعد باشا”، وكيف لا، وهو بيت الفنان “سيد درويش” الذي طالما تغنّى للوطن وللثورة ولسعد نفسه، ولكن جاءت مفارقات الوطن لتجعل موعد عودة سعد المُظفّرة من منفاه هو نفس موعد عودة روح “فنان الشعب” إلى بارئها.
وحاول فيلم “سيد درويش” -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “بصمات”- تتبع مسيرة “فنان الشعب” من لحظة ميلاده إلى وفاته الغامضة والمبكّرة، مستعرضا إبداعات غزيرة قدّمها وأحدثت ثورة موسيقية رغم عمره القصير.
كوم الدكة.. طفولة طربية بين أنغام المقاهي
كانت البداية من الإسكندرية نافذة مصر على المتوسط، فهي التي شاء لها القدر أن تقترن أيضا باسم فنان الشعب الفنان سيد درويش. في حي كوم الدكة وُلد سيد درويش، ونشأ بين شوارعها الضيقة التي ترتفع وتنخفض في كل اتجاه، وعلى مقاهيها بدأ الغناء.
يقول الدكتور حسن درويش -وهو حفيد سيد درويش- إن بداية تعلق الفنان بالغناء تعود إلى سماعه منذ كان طفلا للشيخين أحمد ندى وإبراهيم الأزهري، إذ كان يتابع أنشطتهما، ثم بدأ يُغنّي لأصدقائه الصغار، قبل أن يلتحق بالمعهد الإيطالي ويتعلم النوتة الموسيقية، وإن لم يصرفه هذا عما كان يشغله ويشغل والدته من حرص على تعلم القرآن الكريم.
ويضيف الحفيد أن سيد درويش عندما بلغ 13 عاما التحق بالمعهد الأزهري، ومع قسوة الظروف الاقتصادية اضطر لامتهان عدة مهن، الأمر الذي أعطاه إحساسا كبيرا بأهل هذه المهن فأصبح قريبا منهم.
عالم الإسكندرية.. فاتنة المتوسط التي صنعت فنون مصر
يقول الشاعر المصري سيد حجاب إن نهايات القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20 شهدت ميلاد معظم الفنون المصرية الحديثة في الإسكندرية، فمثلا صحيفة الأهرام انطلقت من المدينة، كما نشأت السينما المصرية في الإسكندرية قبل أن تنتقل إلى القاهرة، كذلك تأسس فن التصوير الحديث على يد محمود سعيد في المدينة، فضلا عن فنون التجديد في الموسيقى التي قام بها سلامة حجازي.
كما أن معظم أبناء ثورة 1919 وُلدوا في ذلك الوقت بالتزامن مع الاحتلال البريطاني لمصر، فتفتحت عقولهم ومداركهم على القضية الوطنية منذ صباهم، ومن بين هؤلاء سيد درويش وتوفيق الحكيم وبديع خيري، وهو الجيل الذي أسس للثقافة الوطنية المصرية.
ويروي حفيد فنان الشعب أن المقاول المسؤول عن عمل درويش لاحظ زيادة في إنتاج العمال تزامنا مع غناء درويش أثناء عمله، ففرّغه للغناء لهم. ويضيف أنه كان يُغنّي أيضا في أحد المقاهي، وقد لاحظه أمين وسليم عطا الله -وهما صاحبا فرقة غنائية مشهورة آنذاك- فعرضا عليه السفر معهما إلى الشام، وذلك في نهاية عام 1908، فسافر تسعة أشهر ثم عاد إلى الإسكندرية.
حي الأزبكية.. شعلة الفن القادمة من الشمال تلهب القاهرة
في عام 1912 طلب أمين وسليم عطا الله من سيد درويش السفر إلى الشام مرة ثانية، فبقي هناك حتى عام 1914، ثم عاد إلى مصر لتبدأ مسيرته الفنية التي أحدث بها انقلابا في الموسيقى التقليدية آنذاك.
ويُشير الأستاذ بأكاديمية الفنون بمصر فتحي الخميسي إلى أن درويش لم يسافر إلى الشام بهدف التعلم، بل بهدف تقديم نشاط موسيقي، وهذا لا ينفي استفادته من القدود الحلبية التي تُميّز سوريا.
وبعد العودة من الشام اتخذ درويش أخيرا القرار الذي سيُقدّر له أن يُطلق العنان لموهبته كي تتفجر إبداعا، فقد شدّ الرحال إلى القاهرة، وبدأ رحلته من منطقة الأزبكية وشارع عماد الدين الذي كان قلب الحركة الفنية في مصر آنذاك، فهناك كان التنافس على أشده بين فرق نجيب الريحاني وعلي الكسّار وأولاد عكاشة وغيرهم من الفرق المسرحية الشهيرة. وهناك بدأ سيد درويش رحلته مع المسرح الغنائي الذي سيصبح مجال إبداعه الأول.
ويصف محمد درويش -وهو حفيد سيد درويش- مرحلة وجود الفنان في القاهرة بأنها مرحلة إنتاجه الغزير، فقد قدّم ألحانا مسرحية لكثير من الروايات ومنها “إش”، و”رن”، و”راحت عليك”، و”عبد الرحمن الناصر”.
“خفيف الروح بيتعاجب”.. عبق التعبير الصادق يعطر الغناء المصري
كان لسيد درويش الفضل الأول في نقل الغناء المصري من التطريب الساذج المليء بالزخارف اللحنية إلى التعبير الصادق عن روح ومضمون ما يُغنّى.
ويلفت الدكتور حسن درويش إلى أن تعرّف سيد درويش على السيدة جليلة شكّل نقطة مهمة في مسيرته الفنية، فقد كانت بمثابة ملهمته بعد أن تلاقت أعينهما في أحد الأفراح، فارتجل كلمات أغنيته الشهيرة:
خفيف الروح بيتعاجب.. بيتعاجب
برمش العين والحاجب.. خفيف الروح
غمزلي مرة بعيونه.. لقيت الحب مضمونه
حرام إن كنت أنا أخونه وعشقي له من الواجب
من الواجب.. خفيف الروح
أما ثورة سيد درويش الموسيقية الحقيقية، فكانت من خلال إدخاله مفهوم التعدد الصوتي والهارموني في فن الغناء العربي.
“قوم يا مصري”.. إيقاعات سريعة تثري ألوان الموسيقى
يرى الدكتور فتحي الخميسي أن عماد فن سيد درويش يتمثل في الغناء الجماعي والحوار بين عدة أشخاص، وهما ما ميزه عن غيره من الفنانين الذين انتهجوا النسق الفردي. ويضيف أن أغاني الزفاف في أفراح المصريين حتى الآن تجري على إيقاع جديد صاغه درويش، وهو إيقاع يختلف اختلافا تاما عن كل ما سبقه.
ويقول الموسيقي محمد نوح إن درويش غيّر في الإيقاعات، مستشهدا على ذلك بأغنيته الخالدة “قوم يا مصري” التي يقول فيها:
قوم يا مصري مصر دايما بتناديك
خد بنصري نصري دين واجب عليك
يوم ما سعدي راح هدر قدام عينيك
عد لي مجدي اللي ضيعته بايديك
ويشير الدكتور فتحي الخميسي إلى أن الموسيقى الكلاسيكية المصرية في مرحلتها الأولى في عهد الخديوي إسماعيل كانت مستقرة وهادئة الأركان ومتوازنة، قبل أن يصنع سيد درويش ألحانا سريعة تتدفق موهبة وتطورا، كلحن أغنية “كان الشيطان” الذي وصفه موسيقيون بأنه اللحن الأسرع في الموسيقى العربية.
كان الشيطان بيعزّم يوم على ابن الناس
عايز يجيب له نحس البوم من الديل للراس
ضرب نفير.. في نار السعير.. أبو مين يطير
جريوم عليه يشوفو إيه وبين ايديه وقفم كده
كان نني عينهم.. يا ساتر بيطق شرار
جه راح باعتهم بأوامر من حاكم النار
فنان الشعب.. حين تنَزَّل الغناء من القصور إلى الشوارع
لم يكن إطلاق لقب فنان الشعب على سيد درويش أمرا مجانيا، بل هو لقب مستحق بالفعل، لأن درويش كان صاحب الفضل الأول في ربط الغناء المصري بالحياة اليومية لأفراد وطوائف الشعب المختلفة، مما أدى إلى إنزال الغناء العربي من القصور إلى الشوارع.
ويُرجع الموسيقي محمد نوح حب المصريين لدرويش إلى أنه استخدم أغاني وفلكلور الناس في الشوارع، ومن ذلك أخذه للحن أغنية “عطشان يا صبايا دلوني على السبيل” التي يتغنى بها الناس، وأنتج أغنية “سالمة يا سلامة روحنا وجينا بالسلامة”.
ورغم أصوله الشعبية وتعليمه البسيط، فإن القدر أراد لهذا الفتى السكندري الفذّ أن يكون ضمن طليعة التنويريين الذين استنهضوا الروح المصرية في تلك الحقبة.
وفي هذا يقول الشاعر سيد حجاب إن سيد درويش كان يقف بأغنيته في مواجهة الأمراض الاجتماعية الشائعة، وفي الدعوة إلى التقدم والرقي والنهوض بمصر وبالصناعة المصرية وبالإنسان المصري، وقد التقى بذلك مع هموم المثقفين والطبقات الشعبية على حد سواء.
“ده يومك يا بنت اليوم”.. لغة موسيقية تحمل هموم تحرر المرأة المصرية
يلفت الدكتور فتحي الخميسي إلى أن سيد درويش دافع في عدد كبير من أغانيه عما وصفه بتحرر المرأة المصرية، ولم يكن أقل عزيمة في ذلك من قاسم أمين، بل إنه حوّل هذه القضية إلى لغة موسيقية يومية في البيوت:
ده وقتك ده يومك يا بنت اليوم
قومي اصحي من نومك بزياداكي نوم
وطالبي بحقوقك واخلصي من اللوم
ليه مانكونشي زي الغربية
ونجاهد في حياتنا بحرية
شطارة شاطرين.. قدارة قادرين
مين في خفتنا ودردحتنا مين
ويذكر الموسيقي محمد نوح أن درويش كان يجالس الأديب توفيق الحكيم والمخرج والمنتج وكاتب السيناريو حسين فوزي وغيرهما ممن يطلق عليهم رموز التنوير، كما كان يحضر حفلات في الأوبرا، وقد أبدى استعداده لتقديم أوبرا مصرية خالصة، ولذلك فقد أدرك مبكرا أهمية تعلم علوم الموسيقى الحديثة، وكان ينوي الذهاب إلى إيطاليا لهذا الهدف.
وهنا يشير حسن درويش إلى أن الاقتصادي المصري الأشهر طلعت حرب طلب من درويش أن يُلحّن “أوبرا شمشون ودليلة”، فطلب درويش منه ألف جنيه، وهو مبلغ كبير بأسعار ذلك الزمان، مبررا ذلك بأنه سيسافر إلى إيطاليا ليتعلم أصول فن صناعة الأوبرا لينتج أوبرا مصرية خالصة ليست مجرد نقل لأوبرا إيطالية، لكن طلعت حرب رفض ذلك.
ولكن هل كان يصاحب هذا البعد التنويري لشخصية درويش بُعد آخر يهتم بالقضية الاجتماعية؛ قضية الفقر والفوارق الطبقية الشاسعة التي كانت تعاني منها مصر في ذلك الوقت؟
لقد وصلت إجابة البعض على هذا السؤال إلى حد قولهم بتأثر درويش بالفكر الشيوعي، أو على الأقل اتسام أعماله بنزعة اشتراكية واضحة.
“شد الحزام على وسطك”.. تعتيم على الصوت الخارج عن سرب الملكية
ينقل الموسيقي محمد نوح عن يوسف حلمي -وكان رئيسا لجمعية “أنصار سيد درويش”- قوله إن درويش كان اشتراكيا، مؤكدا أن هذا هو السبب الأساسي للتعتيم على إبداعاته في عصر الملكية. ويلفت محمد نوح إلى تأكيد ذلك أيضا من قِبل المؤلف المسرحي بديع خيري -الذي جمعته عدة أعمال بسيد درويش تزامنا مع ثورة 1919- معتبرا أنه واحد من الذين أسهموا في تأسيس الحزب الاشتراكي.
شد الحزام على وسطك غيره ما يفيدك
لا بد عن يوم برضه ويعدّلها سيدك
إن كان شيل الحمول على ضهرك بيكيدك
أهون عليك يا حر من مدة ايدك
ما تيلا بينا انت وياه
ونستعان عالشقى بالله
واهو اللي في القسمة نلقاه
واللي ميجيش انشالله ما جاه
لكن حسن درويش حفيد الفنان درويش يرى أن إحساس درويش وبديع خيري بطبقات المجتمع المصري جعل بعض الناس يصفهما بالشيوعيين أو الاشتراكيين. أما الموسيقي محمد نوح فيصف تبني اليسار المصري لسيد درويش في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين بالكارثة، مُوضّحا أن ما كان يهم درويش هو الوطن والشعب بعمومه.
ويلتقي مع ذلك الطرح الأستاذ بأكاديمية الفنون فتحي الخميسي الذي يضيف أن النشيد الوطني المصري حتى هذه اللحظة من ألحان “سيد درويش”:
بلادي بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي
بلادي بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي
مصر يا أم البلاد أنتِ غايتي والمرادِ
وعلى كل العباد كم لنِيْلِكِ من أيادِ
بلادي بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي
“يا بلح زغلول”.. صرخة الصوت الساخر الشجاع في وجه الاحتلال
يذكر الدكتور حسن درويش قصة جده سيد درويش مع زعيم الأمة آنذاك سعد زغلول الذي لم يكتف الاحتلال بنفيه خارج مصر، بل منع المصريين من ذكر اسمه، فتفتقت عبقرية سيد درويش وقام بتأليف أغنية يتكرر فيها اسم سعد زغلول في كل شطر منها، وذلك على لسان بائع بلح، دون أن يتعرض أحد للمساءلة:
يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح
يا بلح زغلول يا زرع بلدي
عليك يا وعدي يا بخت سعدي
زغلول يا بلح يا بلح زغلول
يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول
عليك أنادى في كل وادي
قصدي ومرادي
الله أكبر عليك يا سكر
يا جابر اجبر
ماعيتشي أبكي وفيه مدبر مين بس ينكر زغلول يا بلح
يا روح بلادك ليه طال بعادك
تعا صون بلادك
سعد وقال لي ربي نصرني
وراجع لوطني
زغلول يا بلح يا بلح زغلول
يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول
عودة زغلول.. سُم يفتك بالجسد الذي رفضت السلطة تشريحه
نجحت الحركة الوطنية في فرض إرادتها على المحتل، وعاد سعد زغلول أخيرا إلى أرض الوطن، ولكن سيد درويش كان على موعد آخر؛ موعد مع الموت، ذلك الموت المفاجئ الذي حمل أكثر من علامة استفهام.
ويشير الدكتور حسن درويش إلى روايات عدة بشأن وفاة سيد درويش المفاجئة، منها أن جرعة زائدة من الكوكايين أدت إلى وفاته، ويستدرك أن هذه الرواية قد دحضت، مستشهدا برسالة أرسلها درويش إلى صديقه حسن القصبجي يُخبره فيها بإقلاعه عن ذلك، ويدعوه إلى أن يحذو حذوه.
ويضيف أن الرواية الثانية، وهي الأكثر دقة بشأن موت درويش هي أنه قد دُس له سم طويل المدى، بسبب نشاطه ضد المحتل وسرايا الملك وجهده الكبير في الإعداد لاستقبال سعد زغلول العائد من منفاه. وقد طلبت أسرة درويش من السلطات تشريح جثمانه، لكن السلطات رفضت ذلك.
جاء الغياب الجسدي لدرويش ليقطع مسيرة فنية وثّابة وطموحة، تجسدت في عشرات المسرحيات الموسيقية، وعود عزفت عليه أنامل درويش أجمل الألحان وأخلدها، وعصاه التي اتكأ عليها، وعشرات الصور والمقتنيات الخاصة، ومنزلين عاش بهما، أحدهما في كوم الدكة بالإسكندرية، والآخر في حي شبرا القاهري.
رحل فنان الشعب سيد درويش وعمره 31 عاما فقط، شهدت السنوات الست الأواخر منها معظم إبداعاته الفنية شديدة الغزارة، تلك الإبداعات التي شاء القدر لها أن تُصبح نقطة تحول في تاريخ الموسيقى المصرية والعربية أيضا.