نجم الدين أربكان.. أبو الإسلام السياسي ومقارع العلمانية الشرس
لم يكن في الدنيا شيء يمكن أن يقف في وجه طموح الزعيم التركي نجم الدين أربكان وآماله في تزعم المشهد السياسي في بلاده التي انتقلت من راية الخلافة العثمانية إلى أحضان الأتاتوركية اللائكية، كما لم يكن في الدنيا أيضا شيء يمكن أن يوقف أربكان عن صلواته، أو يسقط سبحته من يديه الصلبتين، وما بين الزعامة والصلاة عاش الرجل بين الميدان مناضلا أو سجينا وبين المحراب، ساجدا أو قائما من أجل تركيا المسلمة.
في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1926، أبصر نجم الدين أربكان أنوار الحياة في مدينة سينوب على شاطئ البحر الأسود، وعلى مسيرة خمسة أعوام من سقوط الخلافة العثمانية بشكل نهائي وقيام نظام الأتاتوركية في بلاده.
ولد أربكان متدينا مؤمنا بعظمة تركيا الإسلامية، وبتاريخها الضارب في أعماق حضارة الإسلام، وبمسؤولية الأتراك التاريخية عن إنقاذ العالم الإسلامي وإعادته إلى “نظام السعادة”.
قاعات الجامعة ومخابر الابتكار.. شغف الهندسة
لم يتوجه أربكان رغم مشاعره الإسلامية الفياضة إلى الدراسات الإسلامية التي كانت تحت حصار شديد، ولم يعتمر الطربوش العثماني الأصيل الذي أصبح مع الزمن جريمة منكرة قد تصل عقوبتها إلى الإعدام، ولكنه اتجه نحو ميدان السياسة والحكم لمقارعة خصومه العلمانيين في عقر دارهم.
وفي سنة 1943 كان أربكان قد أنهى دراسته الثانوية، لكنه أسس أيضا قناعاته الدينية، وترسخت تجربته الإيمانية، قبل أن يلتحق بالجامعة، وخصوصا في كلية الهندسة الميكانيكية بجامعة إسطنبول التقنية التي تخرج منها مهندسا سنة 1948، تلك السنة المفصلية في تاريخ العالم العربي والشرق الأوسط بشكل خاص، حيث انتشرت ظلال النكبة السوداء، وأعلنت إسرائيل قيام دولتها على جماجم الفلسطينيين وأنقاض قراهم وحدائقهم.
عمل نجم الدين أستاذا معيدا في نفس الكلية التي تخرج منها، نظرا لتفوقه ولذكائه وخبرته التي شدت إليه جميع أساتذته ورفاقه في الجامعة، وطيلة سنتين تنقل المهندس الشاب مدرسا لمئات المهندسين الذين سيكون لهم بعد ذلك دور مهم في النهضة التقنية لتركيا، أما هو فقد كان يرمق الزمان من نافذة سياسية ويسعى جاهدا لأن يكون له دور يعيد به “حضارة الإسلام”.
في 1951 حصل أربكان على منحة إلى ألمانيا لدراسة هندسة المحركات في جامعة آخن، وقد نال منها سنة 1953 شهادة الدكتوراه، وعاد إلى بلاده بعد ذلك مهندسا مرموقا وأستاذا جامعيا بكلية الهندسة في جامعة إسطنبول التقنية، وقد استمر في هذا المنصب من 1954 إلى 1966، ولم تكن ميول الرجل الدينية خافية، لا في نقاشاته ولا في التزامه الديني في وسط علماني “متوحش”، وفق تعبير المفكر المصري عبد الوهاب المسيري.
استطاع أربكان أن يضع بصمته بقوة على الحداثة الصناعية في تركيا المعاصرة، وتولى عدة مناصب مهمة في مجالات التجارة والتنمية الاقتصادية بشكل عام، وقد قاده شغفه العلمي ومحاولته الابتكار إلى محاولة صنع أول سيارة تركية تعمل بالكهرباء، وهي محاولة لم يحالفها الحظ في عهده.
غير أن ذلك لم يفت من عضده، وواصلت أسهمه كمهندس بارع الصعود في ذاكرة الأتراك، بينما كانت أسهمه السياسية تعلو تارة وتنخفض وفق ثنائية الانتخابات والانقلابات التي طبعت تركيا لأكثر من ثمانين سنة من تاريخها المعاصر.
انتصار البرلمان وانتكاسة العسكر.. ميراث مندريس
في ستينيات القرن المنصرم، كان أربكان عضوا بارزا في حزب العدالة بقيادة رفيقه في الدراسة سليمان ديميريل الذي استطاع أن يحجز مقعدا في المشهد السياسي بعد أن تراخت قبضة الأتاتوركية بعض الشيء وسمحت بإنشاء الأحزاب سنة 1946.
وفي غضون المشهد السياسي والاجتماعي كانت مظاهر التدين قد بدأت العودة على استحياء شديد، مختبئة تحت تكايا وخانقات الدراويش والطرق الصوفية، وفي أحاديث الهمس والتنظيمات السرية الضعيفة جدا، وقد كان جهد القوم الأكبر منحصرا في تحفيظ سور من القرآن الكريم، أو تدريس أحكام فقهية عامة، وبصورة سرية ومن وراء حجاب.
في خمسينيات القرن الماضي كانت ملامح المد الإسلامي قد بدأت في التكثف والتجمع، وارتفعت شعارات إسلامية مع الحزب الديمقراطي برئاسة عدنان مندريس الذي خطف الأضواء واجتاح الحياة السياسية في فترة وجيزة، قبل أن يعيد العسكر الأتاتوركيون السيطرة، من خلال انقلاب نفذوه منتصف العام 1960، وهو الانقلاب الذي أطاح برئيس الحكومة عدنان مندريس، وأحاله إلى محاكمة عسكرية قضت بإعدامه وإعدام عدد من رفاقه، وقد نفذ حكم الإعدام الذي حول مندريس في ذاكرة الأتراك إلى شهيد وقديس للنضال من أجل استعادة هوية تركيا العثمانية.
بعد سنة من حكم العسكر وإعدام مندريس، انتسب أربكان إلى حزب العدالة الذي حاول تقديم نفسه على أنه وريث شرعي وفكري لرسالة الحزب الديمقراطي وتراث الشهيد مندريس، وفي 1965 فاز حزب العدالة بأغلبية مقاعد البرلمان، وشكل الحكومة مسيطرا على الحياة السياسية في البلاد، ليكون على موعد مع انقلاب عسكري سنة 1971، فقد كان العسكر يولون عناية خاصة لحماية العلمانية الأتاتوركية، ويرون في كل انتعاش ديمقراطي ردة عن العلمانية نحو أفكار ونظام الخلافة.
حزب النظام.. حظر أول واجهة سياسية للإسلاميين
في سنة 1969 شارك أربكان في الانتخابات البرلمانية مستقلا، لينتخب عضوا في مجلس النواب عن مدينة قونية، وذلك بعد أن رفض حزب العدالة ترشيحه، وبدأ يخط لنفسه مسارا سياسيا وفكريا بعيدا عن حزب العدالة، وأبعد من ديكتاتورية العسكر وتراث العلمانية.
كان وصول أربكان إلى سدة البرلمان منعطفا تاريخيا في مسيرته السياسية، حيث أسس بعد ذلك حزب النظام الوطني في 26 يناير/كانون الثاني 1970 ليكون أول واجهة سياسية للإسلاميين.
وقد كان ترشح أربكان مستقلا، وتأسيسه لحزب النظام الوطني سحبا مباشرا للورقة الإسلامية من يد حزب العدالة، فقد اتضح أنه غير مستعد للسير في المسار الإسلامي إلى غايته، وهو مسار كان من الواضح حينها أنه سيؤدي إلى صدام مع العسكر.
لم يخفِ حزب النظام الوطني توجهاته الإسلامية، وأكد بيانه التأسيسي على التراث الإسلامي التركي، وعلى دور النظام الإسلامي في حماية وتطوير تركيا، ولم يكتف البيان بذلك، بل اعتبر هذا النظام هو الحل الوحيد لجميع مشكلات العالم، لأنه هو النظام العادل.
وقد استطاع الحزب أن يدخل البرلمان عبر ثلاثة نواب هم نجم الدين أربكان وحسين آقصاي وعارف حكمت، وجميعهم منسحبون من حزب العدالة، لكن هذا الحزب لم يطل عمره، بل إنه لم يتجاوز سنة واحدة، حيث حظره الانقلاب العسكري في 12 مارس/آذار 1971، بعد أن استفز الانتشار المتصاعد للخطاب الإسلامي خصومهم العلمانيون.
غادر أربكان بعد ذلك للإقامة فترة قصيرة في سويسرا، سعيا إلى التقاط الأنفاس، والبحث عن ورقة سياسية جديدة، وانتزاع مقعد من بين أنياب الأتاتوركية العلمانية.
حزب السلامة الوطني.. اقتحام الحكومة من بابها الأوسع
في أكتوبر/تشرين الأول 1972 أسس أربكان حزب السلامة الوطني الذي نال 50 نائبا في انتخابات 1973، وأصبح عامل ترجيح بعد عجز الحزبين الكبيرين، حزب الشعب الجمهوري، وحزب العدالة عن إحراز الأغلبية المطلقة.
دخل أربكان الحكومة هذه المرة من بابها الأوسع بالتحالف مع حزب الشعب الجمهوري، فكان نائبا لرئيس الوزراء بولنت أجاويد، رئيس حزب الشعب الجمهوري، وذلك إثر تشكيل الحكومة الجديدة في 26 يناير/كانون الثاني 1974، وتولى عناصر من حزبه مناصب سامية مثل الداخلية والعدل والصناعة، وبدأ مسار آخر من تغلغل الإسلاميين في كواليس وأروقة السلطة.
وفي هذه الفترة، أعاد أربكان مراجعة خطابه السياسي الذي جنح إلى السلم والهدوء، والابتعاد عن الشعارات، وكان من أبرز أعمال الحكومة في هذه الفترة، غزو قبرص ووضع اليد على الشق التركي منها، وهو عمل يرى أربكان أنه كان صاحب فكرته والمخطط الأساسي له.
حزب الرفاه.. أول إسلامي يصل إلى الحكم منذ سقوط الخلافة
في 12 سبتمبر/أيلول 1980 قرر الجيش العودة إلى السلطة من جديد، ثائرا على ما يراه من تعاظم دور ونفوذ الرجعيين، وتغلغل أنصار أربكان في السلطة، وكان حزب السلامة الوطني بطبيعة الحال أول ضحايا الانقلاب، فجرى حله وفرضت الإقامة الجبرية على بعض قياداته، ومن بينهم نجم الدين أربكان وشوكت قازان وخطيب أوغلو وغيرهم من زعماء الحزب المحظور.
غير أن أربكان عاد من جديد في 19 يوليو/تموز 1983 ليؤسس حزب الرفاه، بعد تجميع شتات الحزب المحظور والسعي إلى المشاركة السياسية من جديد، ولم تكن آلام الولادة سهلة بالنسبة لحزب الرفاه، فقد تعرض لمضايقات كثيرة، لكنه استطاع المشاركة في مختلف الفعاليات الانتخابية التي جرت بعد تأسيسه.
وقد كان غيابه عن المشهد من أبرز أسباب النجاح الباهر الذي حققه حزب الوطن الأم بقيادة تورغوت أوزال اليميني المدعوم من الجيش، مسيطرا بذلك على المشهد السياسي طيلة عقد الثمانينيات ومنتصف التسعينيات.
في انتخابات ديسمبر/كانون أول 1995، استطاع حزب الرفاه بزعامة أربكان، الفوز بأصوات 21% من أصوات الناخبين الأتراك، فحصد بذلك 158 مقعدا من أصل 550 في البرلمان التركي، ليصبح الحزب الأول في البرلمان، متقدما على حزبي الطريق القويم، والوطن الأم.
وقد شكل هذا الفوز زلزالا سياسيا في تركيا، فقد تمكن أربكان في يونيو/حزيران 1996 من تشكيل حكومة ائتلافية، ليكون أول إسلامي يصل إلى مقاليد الحكم في بلاده، منذ الإطاحة بالخلافة العثمانية، وقد شكل أربكان الحكومة، متحالفا مع حزب الطريق القويم بزعامة تانسو تشيلر التي شغلت منصب نائب الرئيس.
“لو كان أتاتورك حيا لانضم إلى حزب الرفاه”.. مؤتمر الحزب الخامس
في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1996 نظم حزب الرفاه مؤتمره الوطني الخامس الذي مثل انعطافة عملية نحو التعايش مع العلمانية، فغابت عنه الشعارات الإسلامية، وصنفه مؤرخو تلك الحقبة على أنه مؤتمر التحولات الكبرى في مختلف أصعدة وتوجهات الحزب.
كانت الأعلام الخضراء والشعارات والهتافات الإسلامية أبرز غائب عن المؤتمر الذي ظللته صورة ضخمة لمؤسس الجمهورية التركية العلمانية مصطفى كمال أتاتورك، كما حملت شعارات الحزب نفسا قوميا بارزا. وقد كان منظمو المؤتمر حريصين على أن لا يقعوا في الفخ، وفق تعبير النائب الرفاهي نقدر باش أغميز، الذي وقف في وجه الشعارات الإسلامية في المؤتمر، مطالبا بشعار وطني جامع.
وفي مضامين المؤتمر غابت شعارات تحرير القدس، مع حضور لممثل عن السفارة التركية في “إسرائيل”، بينما تحول “العدو اللدود للإسلام” -حسب بعض أنصار الحزب- مصطفى كمال أتاتورك إلى ملهم شرعي للرفاه، إذ اعتبر أربكان أن الرفاه هو امتداد للأتاتوركية، مرددا عبارته الشهيرة “لو كان أتاتورك حيا لانضم إلى حزب الرفاه”.
وفي السياق نفسه، بدأ أربكان يقلم أظافر سياسته القديمة، وشعاراته تجاه الاتحاد الأوروبي، وكذا العلاقة مع واشنطن، وبدا جليا أن الرجل يسعى سعيا حثيثا إلى التعايش أكثر مع العسكر أو تحييد غضبهم على الأقل، وذلك من خلال الاصطفاف إلى جانب العلمانية، والتأكيد على أنها جزء أساسي من رؤية الرفاه وهوية تركيا.
غير أن هذه البراغماتية في العلاقة مع العسكر، تعززت بانفتاح غير مسبوق على الدول الإسلامية، فبدأ ولايته بزيارة إيران وليبيا، وأسس مجموعة الثماني الإسلامية التي شكلت أول قطب اقتصادي إسلامي يضم تركيا وإيران وباكستان وإندونيسيا ومصر ونيجيريا وبنغلاديش وماليزيا.
كما حاول أربكان التملص من اتفاقية التعاون مع إسرائيل، قبل أن يتلقى تهديدا عمليا من الجيش بالإطاحة به إذا لم يوقع الاتفاقية، وبعد عشرة أيام من المماطلة وقع الرجل مكرها اتفاق تعاون مع تل أبيب دون أن يقبل زيارتها في أي وقت من الأوقات.
غضب العسكر واستقالة أربكان.. الانحناء للعاصفة
بدأ التململ من حكومة أربكان يتصاعد في المؤسسة العسكرية، وجاءت ثلاثة أحداث لتضع حدا للعلاقة بين الطرفين، وهذه الأحداث هي:
– زيارات نجم الدين أربكان في أكتوبر/ تشرين الأول 1996، إلى إيران ومصر وليبيا ونيجيريا.
– زيارة أربكان إلى ولاية قيصري وسط البلاد مطلع 1997، واستقباله من طرف أعضاء حزبه مرتدين زيا موحدا يغلب عليه الطابع الديني.
– أمسية داعمة للقدس بالعاصمة أنقرة نظمها رئيس بلدية قضاء سنجان المنتمي إلى حزب الرفاه، وذلك في 31 يناير/ كانون الثاني 1997، وقد دعا السفير الإيراني في تركيا لحضورها.
وقبيل تلك الأحداث الثلاث كان مجلس الشورى العسكري الذي انعقد في أغسطس/آب 1996، قد وجه انتقادات لحكومة أربكان على خلفية ما وصفه بتصاعد “الأنشطة الرجعية”، وجاء انعقاد المجلس وسط حالة من تعالي الأصوات حول “تعرض نظام الحكم للتهديد” في البلاد.
تجمعت تلك العوامل لتثير الغضب العلماني إلى أقصى درجة، حيث عمل مجلس الأمن القومي بعد ذلك على مواجهة أربكان، وعلى فرض شروط مؤلمة على الحكومة، ومن بينها تنقية المؤسسة العسكرية من الضباط ذوي الميول الإسلامية، وتحويل مدارس الأئمة والخطباء إلى مدارس مهنية بعد أن ظلت لعقود مدارس دينية خالصة، وقد كان هذا التحويل فرصة ذهبية صنعت بعد ذلك جيلا من الكفاءات التركية ذات التخصصات المختلفة، والميول الدينية الواضحة.
وقد أرغمت هذه الظروف أربكان على الانحناء للعاصفة، وإحالة منصبه إلى نائبته رئيسة حزب الوطن الأم تانسو تيشلر، وبدأت مرحلة أخرى من المضايقات المؤلمة، رغم أن أربكان سعى في هذه الفترة إلى العمل بواقعية شديدة، سواء تعلق الأمر بالتعاطي مع شركائه العلمانيين، أو مع المعسكر الغربي الذي تفرد بقيادة العالم بعد انهيار المعسكر الشرقي وتفكك الاتحاد السوفياتي.
وكان أربكان مقتنعا أنه مع غياب المعسكر الشرقي، أصبحت الحركات الإسلامية خصما رئيسيا للولايات المتحدة وللمعسكر الغربي عموما، ولأجل ذلك لم يرد أن يكون في مرمى نيران الغرب المتحفز يومها إلى سحق الصحوات الإسلامية الصاعدة في مختلف أنحاء العالم.
حزب الفضيلة.. معركة أربكان الأخيرة في مواجهة العلمانية
رغم كل شيء لم تشفع لأربكان كل محاولات التهدئة مع العسكر، ولم تمنحه واقعيته الجديدة أيضا أي حصانة أمام الحظر الذي واجهت به المحكمة العليا حزب الرفاه، بتهمة خرق وانتهاك المواثيق والقيم العلمانية.
وفي عام 1998 بدأت صفحة جديدة من العلاقة المتأزمة بين أربكان والنظام العلماني، فأحيل الأستاذ المؤسس إلى القضاء الذي منعه من مزاولة النشاط السياسي طيلة خمس سنوات، ورغم تقدمه في العمر فإنه ظل مصرا على مراوغة النظام العلماني، فأسس حزب الفضيلة، ومنح رئاسته لأحد تلاميذه ومقربيه، وسرعان ما وقع حظر الحزب من جديد سنة 2000.
لم تتوقف محاولات “أبو الإسلام السياسي” في تركيا، فأعاد الكرة مرة أخرى بتأسيس حزب السعادة برئاسة تلميذه رجائي طوقان، ليكون آخر محطة من محطات العمل السياسي للرجل الذي عاش من أجل الإسلام وحمل رايته وجعلها ملفه السياسي الأكثر أهمية ووفاء واستقرارا في حياته السياسية والفكرية.
سارق حزب الرفاه.. ثورة من الداخل على أربكان
بعد فترة وجيزة، أعاد خصوم أربكان مضايقته بتهمة سرقة أموال من حزب الرفاه المحظور، وحكم عليه بالسجن سنتين، رغم تقدمه في العمر، حيث كانت الأيام قد سلمته عكاز السابعة والسبعين من عمره، وبدا بشكل واضح أن مشكلة العسكر والنخب العلمانية هي مع شخص أربكان وفكره في وقت واحد، وأنهم لم يعودوا مستعدين لأن يكون جزءا من المشهد السياسي في بلاده.
وفي تلك الأجواء أعاد تلاميذه مراجعة خطهم السياسي، وخرجوا بشيء من البراغماتية عن خط أستاذهم المؤسس نجم الدين أربكان، حيث أسسوا حزب العدالة والتنمية، بقيادة رجب طيب أردوغان الذي لمع نجمه في تلك الأثناء من خلال قيادته لبلدية إسطنبول، ومن خلال خطبه الحماسية المثيرة.
وقد استطاع أردوغان ورفيقه عبد الله غول أن يواصلا مسيرة معلمهم أربكان، ولكن بواقعية شديدة استفادت من متغيرات المجتمع التركي الذي تغلغلت فيه قيم الإسلام بشكل كبير خلال عقود نضال أربكان، وبشيء من الواقعية أيضا استطاع الحزب أن يحيد الخطاب الإسلامي المباشر، ويعلن تشبثه العميق بالعلمانية الأتاتوركية.
وصول تلاميذ أربكان إلى الحكم.. تسليم الراية
خرج أربكان من العمل السياسي متوكئا على عكاز الإصرار والعزيمة، وعلى تاريخ طويل من مغالبة العلمانية، وتحت إقامة جبرية، وقد وجد الرجل في مصحفه ومسبحته ودفتر الأيام المفعمة بالنضال والصراع والانتصارات والإخفاقات ما يسليه عن محنة المنع.
كان أربكان يراقب بارتياح تارة وبحزن وغضب تارة أخرى مسار تلاميذه الواقعيين في حزب العدالة والتنمية، فقد أبقوا على زعيمهم في الإقامة الجبرية، وتفرغوا للمقارعة الناعمة مع بقايا وجيوب العلمانية المتوغلة في الجيش والإدارة والإعلام والدبلوماسية في تركيا العثمانية، ولاحقا أصدر الرئيس التركي عبد الله غول عفوا شاملا عن معلمه نجم الدين أربكان سنة 2008.
ومع الأيام وهن العظم واشتعل الرأس شيبا، وبدأت صحة أربكان تذكر عزيمته الفتية كل حين بأن الجسم لم يعد شابا كما كان، حتى أسلم الروح إلى بارئها يوم الأحد 27 فبراير/شباط 2011 في أحد مستشفيات مدينة أنقره، مودعا العالم عن عمر ناهز 84 سنة.
وقد كانت جنازة الرجل استفتاء شعبيا آخر، حاز فيه الرجل أغلبية الأصوات والدموع والمشاعر الجياشة التي ذرفت على قبره، وشارك في تشييع جثمانه عدد من أبرز قادة الحركة الإسلامية من أنحاء العالم.
وبرحيله سنة 2011، أنهى أربكان مسيرة ستة عقود من النضال من أجل الفضيلة والسعادة والرفاه والسلامة الوطنية التي لم ير لها سبيلا غير “النظام العادل” الذي لم يكن في رأيه غير الإسلام الصحيح.
وما من شك في أن أربكان -رغم ما عانى من ظروف صعبة، وما واجه من نكسات وإخفاقات- كان المؤسس الأول والمعلم الأصلب عودا في تاريخ الإسلاميين المعاصرين في تركيا، وكانت معاركه وآلامه وانتصاراته الجسر الذي عبر منه رفاقه في حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم والتحكم في تركيا ما بعد الأتاتوركية المنحسرة.