سيد حجاب.. ملك الأغنية الدرامية ومبتكر “التتر”

خاص-الوثائقية

“الأيام” و”ليلة القبض على فاطمة” و”المال والبنون” و”الشهد والدموع” و”ليالي الحلمية” و”بوابة الحلواني” و”أرابيسك” و”أوبرا عايدة” و”الحقيقة والسراب” و”المصراوية”.. هذه ليست سوى نماذج خالدة لأعمال فنية تلفزيونية من إبداعات الشاعر الغنائي المصري “سيد حجاب”.

يستعرض فيلم “سيد حجاب” -الذي أنتجته “الجزيرة الوثائقية” ضمن سلسلة “بصمات”- مسيرة الشاعر الغنائي الكبير، مسلطا الضوء على إبداعات غزيرة قدّمها وأحدثت “ثورة” في مجال الأغنية الدرامية.

 

وقد شهد “لحجاب” العديد من الشعراء والموسيقيين والمطربين، مجمعين على الأثر الكبير الذي أحدثه شعرا وأغنية للمسرح والسينما والتلفزيون، وسبق به غيره. فقد وصفه المؤلف الموسيقي “عمار الشريعي” بأنه أحد أكبر شعراء القرنين الـ20 والـ21.

أما المطرب “علي الحجار” فيؤكد أن “سيد حجاب” كتب في جميع بحور الشعر، الأمر الذي ميّزه عن كثير من الشعراء الذين كانت كتاباتهم تقتصر على عدد محدود منها. ويتفق مع ذلك الشاعر والناقد “محمود الحلواني” الذي يؤكد تأثيره الكبير فيمن جاء بعده، سواء على مستوى كتابة القصيدة أو الأغنية الدرامية، ويرى أن “حجاب” استخدم طريقة أو بلاغة خاصة شبيهة “ببلاغة النكتة المصرية”:

سيد حجاب.. شاعر مصري عرف بملك الأغنية الدرامية

 

دنياك سكك.. حافظ على مسلكك

وامسك في نفسك.. لا العلل تمسكك

وتقع في حيلة.. تملكك تهلكك

أهلك يا تُهلك.. ده إنت بالناس تكون

ويرفرف العمر الجميل الحنون

النشأة الأولى.. مع الشعر منذ الصغر

وُلد “سيد حجاب” في عام 1940 بمدينة “المطرية” المُطلة على بحيرة “المنزلة”، وهي بلدة يقول عنها “حجاب” إن أهلها يغنون طوال الوقت في مناسبات اجتماعية تكاد لا تنتهي؛ من ميلاد و”سبوع” وأفراح وغيرها، وهو ما يجعل الحياة كلها بمثابة “غنوة مستمرة” أو لحظات غنائية متواصلة.

ملسسلات شهيرة كتب أغاني مقدماتها سيد حجاب ولحنها عمار الشريعي

 

وعن بداياته يقول “حجاب” إن علاقته بالشعر بدأت وهو ابن 7 سنين حين كان أبوه يجمعه وإخوته في جلسات “المطارحة الشعرية” التي يبدأ فيها الأب بذكر بيت من الشعر ويكون لزاما على من يجلس بجواره من الأبناء أن يذكر بيتا يبدأ بالقافية التي انتهى بها البيت الذي ذكره الوالد، وهكذا.

ويستذكر “حجاب” أنه كان يضطر لارتجال بيت يوافق القافية عندما تنتهي محفوظاته الشعرية، قبل أن يبدأ في كتابة قصائد تشبه القصص الصغيرة يكون السرد فيها بالفصحى والحوار بالعامية. ومع التجربة بدأ يكتب قصائد كاملة بالفصحى وأخرى بالعامية، مشيرا إلى أن أول قصيدة عامية كتبها كانت:

الفجر أذن يا بويا قوم بيت الراحة

سيبك من النوم ومن الأحلام ومن الراحة

قوم للشقا يابا مين بياكلها بالراحة

ولا كلمة يابا مبتردش على ولدك ليه يابا

ليه الدموع نخلتها طراحة

صيادو المطرية.. مصدر إلهام شعري

يقول “حجاب” إنه في أواخر عام 1960 قدّمه الشاعر أحمد فؤاد قاعود للشاعر الكبير صلاح جاهين الذي قدّمه بدوره لقراء مجلة “صباح الخير” في يوليو/تموز 1961 في باب “شاعر جديد يعجبني”، كما نشر له قصيدة “ابن بحر”. ويعتقد “حجاب” أنه اقترب حقيقة من الأغنية بعد صدور ديوانه الأول “صيّاد وجنّية” عام 1966.

عمار الشريعي رفيق درب سيد حجاب في تلحين أشعاره

 

وهنا يُشير الشاعر محمود الحلواني إلى النجاح الذي حققه ديوان “صيّاد وجنّية”، حتى لقّبه البعض بـ”لوركا العرب” (في إشارة إلى الشاعر والكاتب المسرحي الإسباني الشهير فيديريكو غارثيا لوركا)، كما لقبه آخرون بـ”شاعر المثقفين”.

وقد أثّر ذلك كثيرا في “حجاب” الذي يقول إنه رغم سعادته بتلك الألقاب، فإن حزنا اعتراه لإحساسه بأن شعره لم يصل لعموم الناس “الذين تعلمت منهم، وحُلم حياتي أن تصل إليهم كلمتي”، في إشارة إلى الصيادين البسطاء في بلدته، وهم “مصدر إلهامه الأول”، كما يقول.

وهنا أدرك “حجاب” وجود ما يصفها بالمأساة القاتلة في ثقافتنا وهي الأمية، الأمر الذي يُشكل حاجزا كبيرا بين المثقفين وعموم الناس، ومن ثم بدأ في كتابة الأغنية التي تصل إلى الجمهور، مشيرا إلى أنها لم تمنحه التواصل مع الناس فقط، بل منحته التعلم من فنونهم ليحسن مخاطبتهم.

شاعر البسطاء.. سهل غير ممتنع

يصف “حجاب” اقترابه من الغناء واتجاهه لكتابة الأغاني في الستينيات من القرن الماضي باقتراب المستمع المستمتع الناقد. وعن هذه المرحلة يقول عمار الشريعي إنه و”سيد حجاب” كانا “عطشين للغناء”، ولذلك عملا معا؛ يكتب “حجاب” الأغاني ويُلحنها “الشريعي”، ويشير في هذا الصدد إلى “أغنيات” لم تر النور إلا بعد 30 عاما من كتابتها وتلحينها، كأغنية “هنا القاهرة”:

هنا القاهرة القاهرة القاهرة

هنا القاهرة الساحرة الآسِرة الهادرة الساهرة الساترة السافرة

هنا القاهرة الزاهرة العاطرة الشاعرة النيّرة الخيّرة الطاهرة

هنا القاهرة الصابرة الساخرة القادرة المنذرة الثائرة الظافرة

 

يقول المطرب علي الحجار -وهو أحد أبرز من غنّى أشعار “حجاب”- إن هذه الأشعار -سواء منها الوطنية الجادة أو العاطفية- على قدر واحد من القوة، على عكس كثير من الشعراء الذين يبرعون في جانب دون آخر.

ويعتقد “حجاب” أنه تعلّم من الغناء الكثير، بقدر ما أضاف له أيضا، ومما تعلمه -كما يقول- التكثيف؛ فما تستطيع قوله في سطر لا تقله في اثنين، كما أن الأغنية ليس بها رفاهية التأمل والمراجعة، ومن ثم يجب أن تصل الرسالة مرة واحدة ودون مراجعة، كما تعلم من الأغنية التعبير بطلاقة وبساطة وسلاسة أكبر، وكذلك الاتكاء على الموروث الشعبي الموجود في أرواح المصريين.

ويرى أستاذ علم الجمال بأكاديمية الفنون بالقاهرة صلاح قنصوة أن سر التأثير الكبير الذي يحدثه شعر “سيد حجاب” يرجع إلى أن المستمع له يشعر بقرب كلامه منه، بل إن باستطاعته أن يقول مثله، وبذلك فإنه يلغي المسافة بين المبدع والمتلقي.

ثورة “التتر.. موجة غنائية جديدة

وعن تعاونه مع الموسيقي عمار الشريعي، يقول الشاعر “سيد حجاب” إنهما قررا في عام 1978 أن يؤسسا لحراك أو لموجة غنائية جديدة، ونتج عن ذلك عملان دراميان كبيران أسّسا للأغنية الدرامية التلفزيونية؛ “الأيام” بمذاق تراجيدي نبيل يتناول حياة الأديب طه حسين، و”بابا عبده” بمذاق فكاهي خفيف.

يقول “الشريعي” إن “حجاب” كان يستخلص من كتاب “الأيام” اللحظات التي يدور فيها صراعٌ داخل نفس “طه حسن” ويحولها إلى مقطع شعري لا يتجاوز الـ30 ثانية.

ديوان سيد حجاب “صيّاد وجنّية” الذي لقّبه البعض بـ”لوركا العرب”

 

ويُشير علي الحجار -وهو الذي غنى أشعار حجاب في “الأيام”- إلى أن المسلسل كان العمل الدرامي الأول الذي لفت أنظار الجميع بشكل كبير؛ سواء على مستوى الجمهور أو العاملين بالفن، فهذه هي المرة الأولى التي تُغنّى فيها مقدمة المسلسل “التتر” بصوت مطرب. وهنا يصف الشاعر والناقد محمود الحلواني “حجاب” بـ”مبتكر التتر” الذي أصبح ملازما لاسمه.

وعن “أغنية التتر” يقول “حجاب” إنه صنع -بمشاركة الشريعي- أغنية تتداخل وتتضافر مع الدراما، على عكس ما سبقه، حيث كان للأغنية دور زخرفي تزييني مُجمّل للعمل الفني.

ويضيف أنه مزج الأغنية بالدراما، ورغم أن آخرين سبقوه بها كصلاح جاهين ومرسي جميل عزيز، فإنه تمكن من نقل هذا المزيج إلى آفاق أوسع تتمثل في الحس الدرامي المتضمن في الأغنية. ويُوضّح ذلك بأن جاهين وعزيز نقلا صوت المغني المفرد من الغناء للحب والكره فقط إلى موضوعات أخرى، ثم جاء هو ليَخرج من “الغنائية في القصيدة” إلى “الدرامية بها”، بحيث أصبحت بنية القصيدة أكثر تعبيرية ورحابة وتناولا لموضوعات كثيرة.

مسلسل “أرابيسك”.. حيث صناعة الشعر لدى سيد حجاب

 

ويرى عمار الشريعي أن قدرة “حجاب” على استنباط موسيقى داخلية لأشعاره فريدة وفائقة، معتبرا أن أشعاره في مسلسل “أرابيسك” أكبر دليل على قدرته الكبيرة على صناعة الشعر:

وينفلت من بين أيدينا الزمان

كأنه سَحبة قوس في أوتار كمان

وتنفطر ليّام.. عقود كهرمان

يتفرفط النور.. والحنان.. والأمان

وينفلت من بين أيدينا الزمان

للطفل نغني.. أعمال يتوجس منها المنتجون

ومع تشعب موضوعات أشعار وأغاني “سيد حجاب”، لم ينس أن يُقدّم أغانٍ مناسبة للأطفال، فكتب أشعارا واتفق مع الملحن الشهير “بليغ حمدي” على تلحينها لتغنيها المطربة “وردة”، لكن بسبب انشغالات “حمدي”، اتجه “حجاب” إلى صديقه “الشريعي” ليلحنها له، واتفقا على أن تغنيها المطربة “عفاف راضي” بما تملكه من صوت يصفه بأنه “على قدر كبير من البراءة”.

وهنا تستذكر الفنانة “عفاف راضي” تجربتها مع هذه الأغاني، وعملها بصورة يومية مع “حجاب” و”الشريعي” على إنتاجها في عمل جمعه “الحب”، مؤكدة أن هذه الأغنيات تميزت بالطفولة والسرعة وخفة الدم، مع عدم إغفال تقديم المعلومة للطفل.

المطربة “عفاف راضي” تغني للأطفال من أشعار سيد حجاب وألحان عمار الشريعي

 

ورغم هذا الحب، فإن “حجاب” يروي كيف أن إنتاج هذه الأغنيات وتسويقها لم تكن عملية سهلة، فكثير من المنتجين رفضوا إنتاجها لأسباب عديدة يلخصها “حجاب” في أن لهم رؤية فنية لا تتوافق مع رؤيته، وفي النهاية قبِل المنتج “محسن جابر” إنتاج هذه الأغنيات.

واصل “حجاب” العمل مع “الشريعي” على إنتاج ما يصفها بمكتبة تُعبّر عن جميع لحظات حياة الطفل، ومن أجل ذلك أضافوا بعضا من هذه الأغنيات إلى الدراما التي شاركا فيها.

وقد لقيت أغنيات الأطفال هذه نجاحا كبيرا، ليس في مصر فحسب، بل في العالم العربي بأسره، حتى وصفها الناقد الموسيقي اللبناني “إلياس سحاب” بأنها أهم عمل فني وُجه للأطفال في القرن الـ20.

غزارة وقبول.. على باب الله والوطن والإنسانية

ويُعبّر “حجاب” عن رضاه بما حققه، فقد شارك بأشعاره وكتاباته في إنتاج أعمال غنائية واستعراضية للمسرح والسينما والتلفزيون، وإن ظل حلمه في تأسيس “أوبرا مصرية شعبية” مؤجلا رغم تقديمه عدة أعمال مثل “أوبرا ميرامار” عن رواية للأديب نجيب محفوظ.

“أوبرا ميرامار” واحدة من أعمال سيد حجاب المسرحية عن رواية للأديب نجيب محفوظ

 

وعلى كثرة الأعمال التي قدّمها يُعرّف “سيد حجاب” عن نفسه قائلا: “أنا شاعر على باب الله والوطن والإنسانية؛ والله هو الحق.. والوطن هو الخير الذي لا بد أن نتقاسمه بعدالة.. والإنسانية هي الجمال والحسن كله”.

وبعد حياة حافلة، رحل “سيد حجاب” في 25 يناير/كانون الثاني 2017 تاركا إرثا كبيرا من الأشعار التي لا تزال تُغنى حتى اليوم.


إعلان