“الصادق النيهوم”.. قلم يسخر من الفقهاء وينتصر للحرية ويكتب للقذافي

حسن العدم
جاء في أحد أسفاره: “الحب هو الذي تخلقه من داخلك لتَسعَد به، أما إذا لم تستطع خلقه فلن يفيدك أن يحبك العالم بأسره”.
وجاء في سفره الثاني: “يا رب دع سماءك تمطر كتبا، وسوف نصنع نحن المطر ونغسل عارنا”.
إنه الصادق النيهوم ابن بنغازي الذي كان في أعماقه يقاوم الخوف على مدينته، الخوف من الموت بكل أشكاله، فارقها شابا لكنها لم تفارقه، وظل يشاكس مخاوف أفولها ثقافة وإنسانا. قدّمته الجزيرة الوثائقية لمشاهديها في فيلم شائق من إنتاجها، وقد حمل اسم كاتبنا الساخر الحزين “الصادق النيهوم”.
مقال السبت.. ابن بنغازي الذي ورث عنها الفكاهة والحزن
كانت مدينة بنغازي حافلة بالشخصيات العفوية التي يغلب عليها طابع المحبة والبساطة، تعيش على الذاكرة وتحب الحكايات الشعبية والأراغوز في المقاهي وعلى الأرصفة، في ذلك الوقت كان الصادق شغوفا بالمعرفة إلى حد كبير، فقلما خلت يده من كتاب، وبدأ تعلقه بالكتب في مدرسة الأمير العريقة في بنغازي، أما اهتمامه بالشأن العام فمن خلال والده النقابي العتيد المناضل الملتزم بهموم شعبة.
يتذكر عبد الرحمن النيهوم شقيق الصادق بعض يوميات العائلة: كان والدنا الحاج رجب النيهوم يكافح من أجل الناس طوال حياته، بصفته رئيسا لنقابات العمال، وهذه هي البيئة التي تربى فيها الصادق، ولكن كان عنده طبقة أخرى من الأصدقاء، وهم طبقة العمال والمهنيين البسطاء، إذ تربطه بهم علاقة إنسانية حميمة بعيدا عن الطبقة المتعلمة.

كان الصادق ابن بنغازي بحق، تلك المدينة التي تتسم بالنكتة واستخدام التصغير في دارجتها، أثرت في لغة النيهوم النافذة الذكية التي جعلته كاتبا شعبيا تناقل الليبيون نقده على نطاق واسع، وتحول إلى كاتب نجم، وله مقالٌ يصدر كل سبت في إحدى الصحف ينتظره القراء بالطوابير، ومن الطريف أن كثيرا من الأمّيين كانوا يشترون الجريدة ذلك اليوم حتى يقال إنهم مثقفون ويقرأون للصادق.
“لقد تعلمت أن أكفر بمهنة الفقيه”.. مساس بثوابت الإسلام
نشأ الصادق ثائرا ذا نزعة تحررية جعلته في حالة تعارض مع القيم السائدة في المجتمع، ومع الجهات الرسمية التي تتحدث باسم الدين، ورفض ما رآه تحالفا تاريخيا بين الفقهاء والسلطة المحتكِرة، كما انتقد الجمود الفقهي الذي يتناقض مع ثورية الإسلام، لكن دعوته لمناقشة أحكام ونصوص مستقرة وضعته في صدام مع الجهات الدينية.
يقول الصادق: لقد تعلمت أن أكفر بمهنة الفقيه، فإذا جاء العيد وانطلقت دعواتكم المضحكة عبر كل السماوات فأنا أراكم من الداخل وأكفر بكم، إن الفقيه المسلم الذي يرفع يديه على المنبر في بيت الله لكي يدعو لسيده بطول العمر والبقاء لم يجد ذلك في القرآن، ولم يطلب منه الله أن يجعل شعائر الصلاة الخاشعة بمثابة إعلان مجاني للدعاية السياسية.

ذهب الصادق إلى القاهرة وقدّم أطروحته لنيل الدكتوراه في الأديان المقارنة، ولكنْ ردت عليه الجامعة بالاعتذار عن مناقشة رسالته، وقد كان مقررا أن تكون عائشة بنت الشاطئ هي رئيسة لجنة المناقشة، لكنها حينما اطلعت على الرسالة ومراجعها وآراء الكاتب، أدركت أن صاحبها يقول كلاما جريئا فيه مساس بثوابت الإسلام، فخشيت أن يكون في إجازة الرسالة زيادة جرأة على الثوابت الدينية.
تلك الرسالة التي رفضتها بنت الشاطئ قُيض لها أن تُستكمل في جامعة ميونخ بإشراف مجموعة من المستشرقين، ونال بها النيهوم درجة الدكتوراه في الأديان المقارنة.
ثنائية الفقيه والسلطان.. جدلية تسخير الدين للمستبدين
يرى الدكتور ونيس المبروك عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أن النيهوم أدخل أداة فلسفة التأويل على النص القرآني، بحيث أنه لا يفهم إلا من خلال الإطار التاريخي، وأن للألفاظ دلالات غير متناهية، وأضاف: أتفق معه في أن علاقة غير سوية نشأت بين الفقيه والسلطان، وأن بعض الفقهاء حاولوا شرعنة التوريث والحكم الاستبدادي.
يعتبر النيهوم أن الإسلام رهينة التراث وتحت سيطرة الفقهاء الذين كانت له خلافات دائمة معهم، وكان يعتبر أن الحقيقة الإسلامية ضائعة أو مختطَفة، وينادي بمراجعة المفاهيم الدينية وتجديدها. على أنه لم ينتقد الدين بحد ذاته، بل الفكر الديني الذي هو مجرد سلوك، وقد يكون سلوكا فرديا أو مؤسساتيا داعما للسلطة لحماية حكمها منذ القدم.

عاش النيهوم أكثر حياته في المهجر، فهو كاتب مهجري، وهذا أثّر في أسلوبه وتعامله مع المواضيع التي يطرحها، لكنّ نجاحه واستقراره في الغرب لم يمنعه من أن يظل دائم الانشغال بقضايا وطنه، وقد تبنى فهما ذاتيا في مسألة الهوية أثّر في الكثيرين حوله، خصوصا مع قوة شخصيته وروحه الفكاهية.
قال عنه شقيقه عبد الرحمن: رغم أنه عاش في المهجر منذ 1961 فقد استقبلت جثمانه في 1994 وهو يحمل جواز سفر ليبيا، ولم تمنعه غربته الطويلة من أن يكون انتماؤه للتراب الليبي.
عروبة الوجدان وأوروبية الفكر.. صراع الهوية
تستذكر زوجة الصادق السابقة الفنلندية “كارينا كيتيوما” لقاءها الأول به قائلة: كنا شابين يافعين، وجد كل منا رفيق روحه، بعدها قررنا الزواج، وذهبنا إلى ليبيا في 1963 وتزوجنا هناك، كان ذكيا للغاية ومحبا للجميع وذا روح فكاهية، وكان الأول في فصله دائما، وكان منفتحا ويتواصل مع الجميع.
ويقول عنه صديقه الصحفي الفنلندي “كاري فارفيكو”: دعيت إلى السفارة المصرية عام 1969، ومنذ اللحظة التي رأيته فيها عرفت أنه النيهوم، كانت عيناه تبتسمان، ويحب المزاح رغم أنه يكبرني سنا، لكنه كان يتحدث بعمق، وكان يذهلني كلما تحدث بعمق أكبر.

وقد وصفته زوجته “كارينا” بقولها: كان عربي الهوية والوجدان، ولديه اندفاع كبير لمساعدة العالم العربي والتأثير فيه، آمن بذلك بقوة، لا أعرف كيف، ولكن أعرف أنه كان ليبرالي الفكر، وله هوية أوروبية ليبرالية لإيمانه بحرية الكلمة والتعبير، وهذا ما يتمناه كل كاتب أو فيلسوف، ولا أرى أنه يوجد تناقض بين الهويتين.
تهميش الفرد فداء للقبيلة.. سؤال الحرية في المجتمع الليبي
ظل سؤال الحرية مسيطرا على الصادق النيهوم وكتاباته، فقد كان يؤمن بالفرد، يؤمن بنفسه ويؤمن بالدفاع عن حرية الفرد في المجتمع الليبي الذي لا يؤمن بالفرد، ويسعى إلى تهميشه لحساب المجتمع والقبيلة، ويحاصره من جميع الجوانب.
يقول الصادق: إن الصبر دون مقاومة كلمة لا علاقة له بمعنى الصبر في الإسلام، فالمسلم عليه أن يقاوم بيده ولسانه وقلبه، ومن دون عنصر المقاومة لا يسمي الإسلام الناس الساكتين باسم الصابرين، بل يسميهم الناس الذين شهدوا على أنفسهم بالباطل.

يقول الدكتور المبروك: إذا أجمعنا أن الصادق النيهوم طعن في السنة ومرجعيتها وطعن في الإجماع كما طرحه الشافعي، ثم جاء للنص القرآني ونادى بفكرة الرمزية، إذن فهناك دين جديد، أو هي اللامرجعية، وربما يكون هذا هو أخطر ما طرحه النيهوم، فقد سيطرت عليه فكرة تخليص الإسلام من الأسر، كما يقول هو في كتبه، والأسر هنا هو كيفية فهم الفقهاء للدين.
لكن نقادا آخرين رأوا أن النيهوم بقي وفيا لانتمائه للدين، ويؤمن بأن الدين له رصيد روحي وأخلاقي وثقافي، ولكنه بقي متمردا ثائرا على كثير من أفكار وأساليب هذا التدين.
قلب يهوى الملك وقلم يكتب للعقيد.. تناقضات البلاط
جذبت كتابات النيهوم العقيد القذافي المستحوذ على السلطة حديثا، والساعي لاجتذاب طبقة المثقفين لتدعيم شرعيته، مما جعله يجلس طويلا ومرارا مع النيهوم منفردا، نظرا لما تمتع به من شعبية لدى المثقفين والعوام. وكان النيهوم يكرر مصطلح “سلطة الشعب” و”الأغلبية” التي لاقت استحسان القذافي، فهو يلتقي مع النيهوم بأسلوبه التهكمي الساخط على الرأسمالية المستهزئ بمن حوله.
تولى إدارة التوجيه والتثقيف في الاتحاد الاشتراكي عام 1970، ولكن لم يطل به المقام قريبا من السلطة، فقد كان النيهوم يتهرب من التورط مع السلطة وممارسة السياسة، لكنه لم يكن ثائرا عليها ولا محسوبا على المعارضة، وإنما كان يناور من بعيد.

وعندما صدر الكتاب الأخضر للقذافي كان يحتوي الكثير من الأفكار التي تبناها النيهوم في كتبه، خصوصا في كتاب “تاريخنا”، وكتاب “نقاش” الذي استلهم منه القذافي بيان ثورته الثانية. إذن، فالكتاب الأخضر الذي حكم به الديكتاتور القذافي الليبيين أكثر من أربعة عقود كانت أفكاره من إنتاج النيهوم، وهذه كانت من أكبر المفارقات التي تثار حول الرجل.
دعم القذافي مشاريع وموسوعات أشرف عليها النيهوم في محاولة لاستقطابه، لكن النيهوم المسكون بفكرة الحرية لم ينسجم مع أفكار القذافي الذي تأثر بأفكاره، واستخدم بعضها كذخيرة فكرية لترسيخ صورة الزعيم المفكر.
وتصف زوجته “كارينا” علاقته بالسلطة في ليبيا قائلة: كان يحب الملك إدريس، ولكن بعد انقلاب القذافي أصبح الصادق أكثر حذرا في التعامل مع السلطة الجديدة.
“لأن بنغازي الحقيقية ماتت مقتولة في الحرب”.. نبوءات النيهوم
اختلف الليبيون على أفكار النيهوم، ولكنهم متفقون على أنه كاتب كبير وحر، وقد نجح في تحريك الراكد في الثقافة الليبية، وفي تعرية كثير من موروثات الظلم الاجتماعي وتحالفات الاستبداد، ويبقى عدم إعلان موقفه الواضح من نظام القذاقي طوال عقود من الديكتاتورية مثار خلاف بين مؤيديه ومعارضيه.
وقد وصف بلده ليبيا بدقة حين قال: ليبيا بلد مبني بالقش ويطفو فوق بحيرات البترول، وما أسهل أن تندلع النيران فيه وتحرقه من أساسه. وقال عن لعنة البترول: ثم جاء البترول وأنقذنا من الموت جوعا بين جيراننا، ولكنه لم ينقذنا من مشاكلنا القديمة، فالشعوب لا تكبر بالنقود وحدها.

ولو كان الصادق موجودا الآن ورأى تعمق الجهل العربي، لحزم حقائبه وهاجر من جديد، ولو أنه أدرك بنغازي الآن وما يحدث فيها من نزاع وتجاذبات لما حذف حرفا مما قاله عنها منذ عقود: يشاع عن بنغازي، أم اليتامى، أنها مدينة الكساد، وأن الموتى يمشون في شوارعها في وضح النهار، ويشاع عنها أيضا أنها غولة، لأن بنغازي الحقيقية ماتت مقتولة في الحرب.