عبد الباسط عبد الصمد.. حنجرة ذهبية صدحت بالقرآن شرقا وغربا
لم يكن الشيخ عبد الباسط عبد الصمد مجرد قارئ عادي للقرآن الكريم، فالشيخ الذي جاء في زمن عمالقة التلاوة في مصر استطاع أن ينافسهم، بل وربما تربع على عرش “دولة التلاوة” حتى لُقب بـ”صوت مكة” و”ملك التلاوة في القرن العشرين” لعذوبة صوته، فهو قارئ القرآن الكريم الذي جاب بلاد الدنيا كلها شرقا وغربا بحنجرته الذهبية.
يستعرض فيلم “عبد الباسط عبد الصمد..شيخ القراء” -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية- حياة القارئ الكبير الذي ارتبط بالقرآن الكريم ارتباطا وثيقا منذ نعومة أظفاره.
“حفظتُ القرآن وأنا ابن عشر سنين”
يقول عبد الباسط عن نفسه: كنت محبا للقرآن، وكنت أرجو من الله أن أكون قارئا مشهورا، وقد حفظتُ القرآن وأنا ابن عشر سنين تقريبا في قريتي التي أصبحت لاحقا مدينة أرمنت بمحافظة الأقصر في صعيد مصر.
والمفارقة أن الشيخ عبد الباسط لم يُعرف بأرمنت، بل هي التي عُرفت به؛ يقول الدكتور إبراهيم رزق -وهو مسيحي من أبناء القرية- إن قريته اشتُهرت بكونها “بلدة الحاج عبد الباسط”، وهو أمر كان يسعده بالرغم من اختلاف الديانة.
وقد تعلّم الشيخ عبد الباسط علوم القرآن والقراءات -كما يقول- في قرية أصفون المطاعنة التابعة لمركز إسنا القريب من أرمنت.
ويحكي محمد عبد الحميد عبد الصمد -وهو ابن أخي الشيخ- نقلا عن والده أن أجهزة المذياع لم تكن متوفرة في قريتهم آنذاك، فكان الفتى عبد الباسط يذهب كل يوم إلى مقهى يبعد عن بيته نحو ثلاثة كيلومترات لسماع الشيخ محمد رفعت على الهواء مباشرة.
مولد السيدة زينب.. صوت أبهر جماهير الحفل والإذاعة
توالت الأيام، وأتقن الفتى القراءات العشر للقرآن الكريم، حتى نال لقب الشيخ، وذاع صيته ليس في الأقصر أو قنا فحسب، بل في كل صعيد مصر، كما يقول الشيخ فراج محمد منصور، وهو واحد من مشايخ القرية.
لكن دخول الشيخ عبد الباسط عالم الشهرة الحقيقية تطلب منه أن ينتقل إلى القاهرة، لتبدأ انطلاقته الحقيقية من مولدي السيدة زينب، وسيدنا الحسين.
ويروي طارق عبد الصمد -نجل الشيخ- أن إمام المسجد جاء إلى والده بعد أن استمع إليه في أحد الاحتفالات الدينية، وطلب منه أن يقرأ ولو عشر دقائق على سبيل البركة في مولد السيدة زينب، وكانت المرة الأولى التي يستمع فيها الناس إلى هذا الفتى الذي يقرأ بطريقة مميزة وسط عمالقة التلاوة المصرية.
أما نقيب القراء السابق الشيخ أبو العينين شعيشع، فيروي أن الشيخ عبد الباسط أحيا هذه الليلة، وقد نقلتها الإذاعة المصرية مباشرة، مؤكدا أنه كان موفقا جدا، وقد حظي بتفاعل كبير من المستمعين في المسجد وعبر الإذاعة، الأمر الذي فتح آفاقا جديدة للنجم الصاعد في سماء قراءة القرآن في مصر.
فضاء الإذاعة.. موعد أسبوعي مع أحد أقطاب التلاوة
شكلت تلاوة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد في مولد السيدة زينب منعرجا أساسيا في مسيرته، ويقول المدير بإذاعة القرآن الكريم في مصر محمود خليل إن الناس بُهرت بهذا الصوت العجيب الذي يسمعون طريقته في التلاوة لأول مرة، وقد حمله شيخ المقارئ بالديار المصرية علي بن محمد الضباع حملا على أن يدخل الإذاعة.
وعن هذه المرحلة من حياته، يقول الشيخ عبد الباسط إنه التحق بالإذاعة عام 1951 تقريبا وهو ابن 20 عاما، وقد أقام في فندق بجوار مسجد السيدة زينب رضي الله عنها، قبل أن ينتقل إلى منزل بمواجهة المسجد، وقد كانت أولى تسجيلاته في جدة لإذاعة المملكة العربية السعودية.
ويرى الدكتور محمود خليل أن الشيخ عبد الباسط عبد الصمد أحد الأقطاب الخمسة في مدرسة التلاوة المصرية المميزة؛ وهم: الشيخ محمود علي البنا، وميزان القرآن الشيخ محمود خليل الحصري، وسلطان القراء الشيخ مصطفي إسماعيل، وصوت مكة الشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد، ونهر القرآن في النداوة والطلاوة الشيخ محمد صديق المنشاوي.
ويؤكد طارق عبد الصمد أن والده أثبت وجوده وسط هؤلاء العمالقة وهذه الكوكبة من قراء القرآن الكريم، حتى أن الإذاعة خصصت له موعدا أسبوعيا ثابتا تبث تلاوته فيه، وقد كان أهل بلدته يتجمعون مساء كل يوم سبت بجوار المذياع ليستمعوا إلى القرآن الكريم بصوت ابن قريتهم وقريبهم الشيخ عبد الباسط عبد الصمد. ذكريات يؤكدها ابن القرية الدكتور إبراهيم رزق الذي كان يُشارك أبناء قريته سماع القرآن الكريم بصوت جارهم الشيخ عبد الباسط صاحب الحنجرة الذهبية، كما يصفه.
“أحييتُ رمضان عامين بالمسجد الأقصى”.. قرآن يجوب العالم
استقر الشيخ عبد الباسط عبد الصمد في القاهرة، لكنه كان استقرارا غير كامل، فقد بدأت الدعوات تنهمر عليه من البلاد العربية والإسلامية لقراءة القرآن الكريم وإحياء الحفلات الدينية بها.
يقول الشيخ عبد الباسط عبد الصمد: سافرت إلى دمشق في سوريا، وأحييت رمضان في المسجد الأموي الكبير، وتنقلت بين حلب واللاذقية وحماة وطرطوس وباقي المدن الكبرى، ثم دُعيت إلى بيروت، وحصلت على أوسمة ونياشين من سوريا ولبنان، ثم دعيت بعد ذلك إلى الأردن، وأحييت رمضان عامين بالمسجد الأقصى المبارك في القدس قبل الاستيلاء عليه.
ويقول الشيخ -في حوار مسجّل معه قديما- إنه زار عددا كبيرا من الدول العربية والإسلامية والأفريقية والأوروبية، حتى إنه زار 14 ولاية في أمريكا.
ويقول الشيخ فراج محمد منصور إن الشيخ عبد الباسط عبد الصمد طاف العالم شرقا وغربا قارئا للقرآن الكريم؛ مشيرا إلى تلاواته المتعددة في كندا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا، وغيرها.
تلاوة القلب.. ثقافة موسيقية وإمكانات صوتية عالية
ينبه إمام مسجد السيدة نفيسة بالقاهرة الشيخ الشحات السيد عزازي على معنى خاص في تلاوة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، فيقول إنه كان يقرأ القرآن بقلبه، نشعر بذلك عند الاستماع إليه، فإذا صوّر لنا الجنة نجد الصوت مبتهجا فرحا، كأنه دخل الجنة ورأى ما فيها من النعيم، فيسعد بذلك ويريد أن يشرك الناس في هذه السعادة.
ويضيف عزازي أنه من جمال صوته وعذوبته وطلاوته كان يجذب القلوب والأذهان إليه، فتجد المستمع مشدودا إلى تلاوته من أول قوله “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم” إلى أن يقول “صدق الله العظيم.. الفاتحة”.
أما القارئ والمبتهل محمد الهلباوي فيُحدد ثلاثة عناصر لا بد أن تتوفر في القارئ المُجيد، وهي: تلاوة القرآن بأحكام صحيحة، أو ما يُطلق عليه “النص بحكمه”، والصوت الحسن، والنغم. ويضيف أن صاحب الصوت الحسن لا بد أن يكون “مثقفا ثقافة صوتية”، أي عالما بعلم المقامات النغمية.
وفي هذا المقام، يقول الشيخ عبد الباسط عبد الصمد إن الأصوات نفسها تُبنى على الموسيقى، ولذلك فالإنسان يُحب أن يسمع قُرّاء كُثرا، إضافة إلى الموسيقى التي تُطوّر ذائقته، لافتا إلى أن تلاوة القرآن فيها استخدام للمقامات كالبياتي والنهاوند والصبا.
وهنا يلفت أستاذ الموسيقى العربية بجامعة حلوان عبد الله الكردي إلى تمتع الشيخ عبد الباسط عبد الصمد بإمكانات صوتية عالية جدا (أكثر من 2.5 أوكتاف) تتيح له أداء موسيقيا فريدا.
ويعود الشيخ محمد الهلباوي ليُشبّه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد بالذهب الذي كلما استُخدم انطلى وانطلق، ولذلك كانت تلاواته في المحافل لا تقل عن ساعة ونصف.
ويذكر طارق عبد الصمد -نجل الشيخ- أن والده كان يأتي بنغمات جديدة على المستمعين، وبوقفات وابتداءات غير معهودة في الآيات، الأمر الذي كان يجد استحسانا وتفاعلا منهم.
رواية ورش.. طلب خاص ومُلح من ملك المغرب
يروي طارق عبدالصمد أن الشيخ عبد الباسط كان في زيارة إلى محافظة “قنا” لإحياء ذكرى مولد سيدي عبد الرحيم القناوي، فاتصل به السفير المغربي بالقاهرة، وقال له إن الملك الحسن الثاني يدعوك لأمر هام، فعاد إلى القاهرة وعلم أنه يطلب منه تسجيل القرآن الكريم برواية ورش عن نافع المدني، وهي القراءة التي يقرأ بها أهل المغرب، وعندما حاول الشيخ الاعتذار بسبب اقتراب شهر رمضان الذي سيحيي لياليه خارج مصر، ألح السفير على الشيخ أن يجيب طلب الملك.
بدأ الشيخ عبد الباسط بالفعل في تسجيل القرآن برواية ورش التي تمتاز بكثرة مدودها، ولذلك تحتاج إلى “نَفَس” طويل، وكان يقرأ جزءا في الصباح وجزءا في المساء حتى أتم تسجيل القرآن الكريم كاملا في نحو 15 يوما.
ورغم كثرة مشاغل الشيخ وتسجيلاته وسفرياته، فإنه لم يكن ينسى أهل قريته. يقول محمد عبد الحميد عبد الصمد -ابن أخي الشيخ- إنه عندما كان يزور القرية كانت كل مشاكلها وهمومها تُعرض عليه، وكان يعمل على حلها.
ويُشير أسامة صادق -وهو أحد مريدي الشيخ ومرافقيه- إلى أن الشيخ عبد الباسط كان محبا للخير، ويصح أن يُوصف بأن “شماله لا تعلم ما أنفقت يمينه”، كما أنه كأن يُحيي بعض الاحتفالات الدينية دون مقابل على غير عادة القرّاء.
ولم يكن لقراء القرآن الكريم نقابة تجمعهم، فاقترح الشيخ عبد الباسط على الشيخ أبو العينين شعيشع إنشاء نقابة، فوافقه على الفور، وقد اختاره -كما يقول الشيخ شعيشع- القراء نقيبا لهم بالإجماع.
“لا يوجد صوت في العالم كصوته”.. نغم يدعو إلى الإسلام
يقول القارئ والمبتهل الشيخ محمد الهلباوي إن الشيخ عبد الباسط عبد الصمد كان مدرسة مستقلة بذاتها، يُحتذى بها. وقد أسس مجموعة من مُحبي ومُقلّدي الشيخ عبد الباسط، وهي “المدرسة الباسطية” التي جمعت مجموعة من مُقلدي طريقته في التلاوة، واختاروا الشيخ عبد الباسط عميدا لها.
ويؤكد طارق عبد الصمد أن كثيرا من الناس حول العالم أسلموا بسماع صوت والده الشيخ عبد الباسط، وقد كان أول قارئ للقرآن يزور بعض البلدان، مثل زيارته لجنوب إفريقيا عام 1966. ويتفق كثيرون مع ذلك، منهم فايز رياض، وهو طالب ماليزي يؤكد أن الماليزيين في عمومهم يُحبون صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد؛ “فلا يوجد صوت في العالم كصوته”.
أما الفرنسية المسلمة آيات الحاج فتقول إنها تعرفت على صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد بالتزامن مع اعتناقها الإسلام في الأزهر الشريف بمصر، وكان أول صوت تسمعه يُرتل القرآن، وتضيف: عندما تكون القراءة الأولى مع صوت الشيخ عبد الباسط، فمن الصعب التأثر بقرّاء آخرين.
ويتفق مع ذلك البريطاني المسلم محمد آسف الذي يرى أن صوت الشيخ عبد الباسط دفع كثيرين لتعلم قراءة القرآن على الوجه الذي ينبغي أن تكون عليه.
وبعد حياة حافلة بالقرآن تُوفي شيخ القراء الشيخ عبد الباسط عبد الصمد في 30 نوفمبر/تشرين ثاني من عام 1988، وصُليت عليه صلاة الغائب في عدد كبير من مساجد العالم.