مظفر النواب.. ملك الهجاء السياسي الذي أرَّق العروش العربية

قالوا عنه الشاعر المناضل، ووصفوه بمنشور سرّي تحول بسبب حب جماهيره إلى منشور علني، أما ألصقُ الألقاب به فكان “شاعر القصيدة المهرّبة”، إنه مظفر النواب، الشاعر المثير للجدل والدائم الخروج عن النص، ابن الناس الناطق بنبض قلوبهم وزفرات صدورهم.
بالأمس رحل عن الدنيا، لكن قصائده الصارخة الساخرة قد تعمر بيننا طويلا، ذلك أنها تحكي نكباتٍ ممتدة وخذلانا مستمرا وقهرا ما زال جاثما على الصدور. وكانت قناة الجزيرة الفضائية أفردت له حلقة خاصة من حلقات برنامج “خارج النص” تناولت فيها محطاتٍ من حياته، وسلطت الضوء على بعض قصائده وآراء النقاد فيها.
نبض المعذبين.. أرستقراطي آثر المنفى على القصر
في عام 1934، وعلى ضفاف دجلة بمنطقة الكرخ ببغداد، ولد الشاعر العراقي مظفر النواب في بيت أرستقراطي، لكنه لم يكن يدري أنه سيضيع عمره بين السجن والمنفى بسبب ما تخطه يداه من أشعار رآها البعض تعكس نبض المعذبين والمقهورين، ورأى آخرون أنها تجاوزت حدود اللياقة ونالت من الحكام والزعماء، فوضعته أشعاره في كشوف الترقب على بوابات المطارات والحدود العربية.

قال عنه صديقه الشاعر عدنان الصائغ إنه شكل علامة مهمة في الشعر العراقي والعربي، استطاع من خلال تعبيره عن هموم الناس وتحدي السلطات، كسب قاعدة واسعة من الجماهير من خلال صوته المتميز.
بينما وصفه الشاعر العراقي جمعة الحلفي بالشاعر المناضل، فقد كانت هموم الناس ومطالبهم حاضرة في قصائده، وخلق أبطالا من قصائده، خاصة في الجنوب العراقي.
“احلف بطاهر حليبي”.. براءة من الحزب الشيوعي تحت العذاب
آمن مظفر النوّاب في شبابه بمبادئ الشيوعية، فانتمى إلى الحزب الشيوعي العراقي، وناضل في صفوفه حين اشتد الصراع بين الشيوعيين والقوميين، واعتقِل أواخر 1963 في سجن الحلّة، حيث عرضت السلطات على المعتقلين تقديم براءة من الحزب الشيوعي، وتحت وطأة التعذيب قدم بعضهم البراءة ونشرت في الصحف.

وفي السجن كتب النواب قصيدة “البراءة” التي تعتبر من أهم قصائده، وهي قصيدة شعبية من جزئين، أولهما على لسان أمه، التي كانت تزوده بالطعام وتشد من أزره:
يا ابني ضلعك من رجيته
لضلعي جبّرته وبنيته
يا ابني خذني لعرض صدرك
واحسب الشيب اللي من عمرك جنيته
يا ابني لا تثلم شرفنا
يا ابني تدري بكل براءة
كل شهيد من الشعب ينعاد دفنه
خل إيدك على شيبي واحلف بطاهر حليبي
قطرة قطرة وبنظر عيني ال عميته
قل لي ما أهدم حزب بيدي بنيته
والجزء الثاني على لسان الأخت التي تبرأت من أخيها لأنه أعطى البراءة:
خُويَه قابلت السجن حرّ وبرد ليلي ونهاري
تحملت لاجلك شتايم على عرضي واشعلت بالليل ناري
تالي تهتكني بخلق وصلة جريدة
قرت عيونك يا خويه

وكانت هذه القصيدة أحد مبررات الحكم بسجنه، ولذا انتشرت كالنار في الهشيم بين السجناء، وأشعلت فيهم نار النضال والصلابة، وكانت ومثيلاتها فرس الرهان الذي وصل بالنَّواب إلى قلوب الناس.
“القدس عروس عروبتكم”.. هجاء سياسي بألفاظ نابية
في عام 1969 صدر عفوٌ عن المعارضين، فخرج مظفر من بغداد وتنقل بين البلدان العربية حاملا همّ الأمة وفلسطين، وساخطا على خذلان العرب لها، حتى كتب “القدس عروس عروبتكم” وهاجم فيها الزعماء بقسوة، مما جعله مهدّدا وممنوعا من دخول البلدان العربية. وقد كانت فلسطين حاضرة في أدب النواب بقوة حتى آخر حياته. يقول في القصيدة:
القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها
ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم وتنافختم شرفا
وصرختم فيها أن تسكت صونا للعرض
فما أشرفكم أولاد الكذا هل تسكت مغتصَبة
لست خجولا حين أصارحكم بحقيقتكم..
إن حظيرة خنزير هي أطهر من أطهركم
يقول الشاعر السوري وائل سعد الدين الذي رافق النواب في منفاه معلقا على القصيدة: هذا جزء من قصيدة طويلة تحدث فيها الشاعر عن تاريخ الإسلام ومعاركه والفتن التي حصلت، حتى وصل إلى احتلال فلسطين، فلا يجوز بحال أن تختزل كل هذه السردية التي قيلت بعد نكبة فلسطين مباشرة، بأنها قصيدة شتائم.

أما مدير بيت فلسطين للثقافة والعودة سمير عطية، فيأخذ على النَّواب إغراقه في استخدام مفردات نابية لا تصلح في عالم الأدب والذوق العام، وكان يقحمها بغير ضرورة في قصيدة سياسية هجائية كانت تكفي لوحدها في التعبير عن سخطه، دون الحاجة لهذه المفردات. وتابع عطية قائلا: لو قدّر لي أن أكون مسؤول مناهج فلن أسمح لقصائده أن تدخل مدرستي أو بيتي.
“تل الزعتر”.. تذكرة الهروب إلى المنفى الليبي عبر البحر
وزّع النواب شتائمه بكرم على من يستحقونها، على أن هذه المفردات الخارجة لا تمثل إلا نسبة ضئيلة جدا من قصائده، ومثلها الكثير في الأدب والشعر العربي قديما وحديثا، ولكن المجتمع العربي -في رأي الشاعر سعد الدين- لا يتقن القراءة يا للأسف.

ورغم المنع ظلت قصائد النواب سوطا يجلد ظهور من كانوا سببا في الخذلان والنكبات العربية، فكانت قصيدة “تل الزعتر” صرخة في وجه من تسبب بالمذبحة التي هزت الوطن العربي آنذاك، وشن فيها هجوما عنيفا على حافظ الأسد وكل القيادات التي ساهمت في المجزرة، وكعادته لم يهتم النواب بعواقب كلماته:
وضعوا المذبحة الآن هنالك..
قدّام نيافات رصيد المال الديني
رصيد الدين المالي.. رصيد القتل
آباءَ الغرب المحترمين سلاما
ابتعدوا خطوات أخرى.. خلّوا الأضواء
وخلّوا تل الزعتر يعتاد الظلمة
لم يحن الوقت.. عاصمة الفقراء لقد سقطت
لن أبكي أبدا من قاتل.. لن أبكي إطلاقا
أبكي من يبحث في القمة عن دولته
على إثرها خرج من سوريا متخفيا إلى لبنان، ومن هناك إلى ليبيا بجواز سفر يمني، ومكث فيها سبع سنوات.
“قمم”.. كوميديا سوداء تطبع فنّ السخرية من الزعماء
علا صوت السخرية والنقد اللاذع في قصائد النواب حتى وصلت ذروتها في قصيدة “قمم”، فكانت قمة في الشتم والتحريض والتخوين لكل الزعماء، وكان فيها كثير من الكوميديا السوداء واحتقار الزعماء والتهكم عليهم، حتى لم تجرؤ عاصمة عربية على استضافته:
أعترف الآن أمام الصحراء بأني بذيء كهزيمتكم
يا حكاما مهزومين ويا أحزابا مهزومين
ويا جمهورا مهزوما.. ما أوسخنا.. ما أوسخنا.. ما أوسخنا ونكابر
ما أوسخنا
لا أستثني أحدا.. هل تعترفون؟
أصبحت الغربة والمنع عنوانا لحياة النواب، يرحل من بلد لبلد ومن خذلان إلى خذلان، حتى أنهكه المرض وحال بينه وبين إلقاء قصائده، ولكنها برغم المنع والحظر والإغلاق كانت تصل إلى محبيه عن طريق المنشورات والأشرطة، وكانت غصة في حلق الأنظمة المهزومة التي تضيق ذرعا بالكلمة، حتى لُقِّب النواب “شاعر القصيدة المهرّبة”.

كانت أشعاره تقض مضاجع الطغاة، حتى كان يوصف بأنه منشور سري أصبح علنيا بسبب محبيه، ورغم تأثره بالغربة والبعد عن الأهل والأوطان، فإن هذا لم يفتّ في عضده، ولم يؤثر على عطائه الشعري.
بلاد العرب.. السجن الممتد من البحر إلى البحر
قادت قصائد النواب صاحبها لمعاناة النفي والسجن والاغتراب، لكن إيمانه بكلماته انعكس على حب الجماهير له؛ فكانت تردد أشعاره وترى فيه تعبيرا عما تشعر به وتعانيه، وكان الناس يطاردونه ليسمعوا منه كل جديد من قصائده المحرضة على التصدي للطغيان والظلم.
ويعتبر النواب مؤسس مدرسة الشعر الشعبي الحديثة، إذ لم ينافسه فيها أو يقترب من ساحته أحد حتى الآن، وهو من نفض الغبار عن القصيدة العامّية العراقية، وقام بتحديث مفرداتها ونشرها في الآفاق، وكان في حياته قنطرة يعبر فوقها الناجون من ضفة الظلم إلى ضفة العدالة، ومن السجن إلى الحرية، ومن اليأس إلى التفاؤل.
أصغر شيء يسكرني في خلقك مولاي.. فكيف الإنسان
سبحانك كلَّ الأشياء رضيتُ سوى الذل.. وأن يوضع قلبي في قفص في بيت السلطان
ورضيت نصيبي في الدنيا كنصيب الطير.. ولكن سبحانك حتى الطير لها أوطان
وتعود إليه وأنا ما زلت أطير.. فهذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر
سجون متلاصقة.. سجّان يمسك بسجان

أصيب مظفر النواب بالباركنسون من الدرجة الثالثة، حتى أصبحت أفكاره تضمحل وتتلاشي خلال رحلة قلمه بين المنضدة والورقة، وهنا يجدر التنويه إلى أن كل الدواوين والمجموعات الشعرية التي طبعت باسمه لم تكن بموافقته، ولم يَطبع هو إلا ديوانا واحدا في 1967 بعنوان “للريل وحمد”.
رحل مظفر النواب عن الدنيا يوم الجمعة 20 مايو/أيار 2022 عن عمر ناهز 88 عاما، ونقل جثمانه من المنفى إلى مسقط رأسه ببغداد ليدفن فيها.