“جوزيف ستالين”.. مسيرة الرجل الحديدي المفروشة بالجثث والدماء

يجد الباحث في سيرة القائد السوفياتي “جوزيف فيساريونوفيتش” (المعروف باسم “جوزيف ستالين”) نفسه في مواجهة ثلاث صور لقائد الاتحاد السوفياتي في مراحل مختلفة من عمره، الأولى وهو في سن تقارب الـ16، حين كان يبدو فتى هادئا بياقته العالية التي تشبه رداء رجال الدين، أما صورته الثانية فيبدو فيها أن “ستالين” كان في بداية العشرينيات من عمره، وقد تغيرت ملامحه فيها وبدا الحماس أكثر في نظراته، كان حينها باختصار فتى بملامح ثائر.

أما الصورة الثالثة فهي لـ”جوزيف” القائد الحديدي ذو الشارب العريض، وهي الصورة التي يحفظها العالم للقائد المخيف الذي أنقذ أوروبا من النازيين، وبنى دولة قوية فوق جماجم معارضيه.

كانت تلك الصور التي ظهر فيها القائد الحديدي “جوزيف ستالين” في ثلاث مراحل من عمره اختزالا بليغا للتحول الفكري العاصف للرجل الذي كان بمثابة بركان فاض على الشرق، ووصلت حممه وراء بحار بعيدة.

ولا يزال ظل “جوزيف ستالين” يلوح بقرني الشيطان وجناحي الملاك المنقذ رغم مرور قرابة السبعين عاما على وفاته.

جورجيا.. طفولة قاسية لطفل يسعى في طريق الكهنوت

ولد “جوزيف ستالين” عام 1878 في غوري في جورجيا وسط عائلة فقيرة تعيش في حالة عبودية، حيث يعمل الأفراد في أملاك الإقطاعيين مقابل ضمان المأكل والمشرب والحماية، ومنذ أن وُلِد “جوزيف” حاصره الموت، وخشيت والدته من فقدانه وأن يكون مصيره شبيها بما حصل مع شقيقيه اللذين سبقاه، فكانت ترغب بأن يصبح ابنها “جوزيف” رجل دين شكرا لله على بقائه حيا.

صورة بورتريه لـ”يكاترينا جوغاشفيلي” والدة ستالين التي كانت ترغب بأن يصبح ابنها “جوزيف” رجل دين

عاش “جوزيف” الطفل مُحاطا بأحلام أبويه المتواضعين، وبسخرية أقرانه منه بسبب ندبات قبيحة تركها مرض الجدري على وجهه، وكان من البديهي أن “جوزيف” الطفل سيميل إلى طريق الكهنوت، خاصة مع الإرث الأرثوذكسي العميق في قريته وطفولته القاسية بسبب العنف الذي سلطه أبوه عليه وعلى والدته قبل أن يتركهما فيصبح الطفل أكثر تعلقا بأمه، ولم يكن لأحد أن يتصور أن “جوزيف” سيلفظ الدين والوطن الأم، ويؤسس فكرا هو أقرب إلى الدين، ووطنا بديلا لجورجيا سيكون روسيا.

في العام 1894 حزم “جوزيف” أمتعته نحو العاصمة الجورجية تبليسي من أجل دراسة الكهنوت، حيث كانت رغبة أمه ملحّة في أن ترى ابنها رجل دين يسلك طريق الرب على عكس أبيه، وكانت تبحث له عن حظوة وسلطة وسط المحيط الذي استعبد عائلتها، لكنها لم تكن تتصور أن “جوزيف” نفسه سيصبح إلها، وأن يده ستطال عقولا في مشرق الأرض ومغربها لتتحكم بأفكارها.

يصف الكاتب “سيمون سيباغ مونتيفيوري” مرحلة شباب “جوزيف” بأنها لغز عميق، ويقول: نقل كل مؤرخ ادعاء “تروتسكي” أن “ستالین” ريفي متوسط التفكير، وادعاء “سوخانوف” أن حياة “ستالين” هي مجرد ضباب رمادي قبل العام 1917، وأمسى على لسان “روبرت سلوسر” الشخص الذي فوّت في الثورة. وإذا كانت هذه هي حال الأمر، فكيف تمكنت سلطة بالحجم المتوسط من التفوق على سياسيين موهوبين مثل “لينين” و”بوخارين” و”تروتسكي” بذاته، وتنسيق برنامجه الصناعي وشن الحرب الضروس على الفلاحين وحملة الرعب الكبير؟ كيف أضحى هذا الضبابي رجل الدولة العالمي القاتل والفعّال بقوة الذي ساعد على خلق الاتحاد السوفياتي وجعله حقيقة قائمة، وغلب “تشرشل” و”روزفلت” ونظّم ستالینغراد وهزم “هتلر”؟

أيام الشباب.. حقبة مليئة بالأدب والثورة والعلمانية

كان الشطر الشرقي من أوروبا على صفيح ساخن في تلك الفترة، فقد تأججت القوميات وبدأت الحركات المتمردة تقود عمليات مسلحة ضد نفوذ الإمبراطوريات الممتدة في ذلك الجزء من العالم. يقول الكاتب فرج جبران في كتابه “ستالين”: كانت طبقة الأرقاء تكد في العمل في الأرض وتسري وراء المحراث الخشبي، أما طبقة الأشراف فكانت ترقص وتتشدق بالحديث باللغة الفرنسية، وتقرأ مؤلفات “جان جاك روسو”، وكانت السيدات يرفعن أصابعهن الصغيرة وهن يتحدثن عن الحب الأفلاطوني وعن حقوق العاطفة، لكن لو سرقت خادمة منديلا من إحداهن، فإنها ستتعرض لعشرين جلدة من سوط جلدي يغمس في الصمغ.

صورة لجوزيف ستالين في الثالثة والعشرين من عمره

اقتات أغلب المتمردين الشبان آنذاك من كتب “مكسيم غوركي” الذي كتب رواية “الأم” في بداية القرن العشرين، وهي صورة مفصلة عن الحياة البائسة للعمال وللثوار، وبدل أن يتوسد الكتاب المقدس، فقد التهم “جوزيف” الشاب كتبا ألهمته، مثل “رأس المال” لـ”كارل ماركس”، و”من أجل سعادة النساء” للكاتب الفرنسي “إيميل زولا”، و”الإخوة كرامازوف” للكاتب “فيودور دوستويفسكي”، و”سيكولوجيا الجماهير” لـ”غوستاف لوبون”.

وفي كتابه “ستالين الشاب زعيما وشاعرا ولصا وكاهنا وزير نساء” يقول “سيمون سيباغ مونتيفيوري” إن مرحلة شباب “ستالين” كانت فترة يلفها الغموض والإثارة أيضا. ويضيف: قال “ستالین” يوما: كل الشبان سواسية لكنه على خطأ، فلطالما كان مختلفا عن أترابه، فقد انطبع شبابه بالمأساة والمغامرة والاستثناء.

كتب “فيليب ماخارادزي” وهو رفيق “ستالين” في الدراسة أن ثانوية تبليسي الجورجية التي درس بها “ستالين” كانت مشتلا للعلمانيين الذين لم تنتجهم أي مدرسة علمانية، فأصبحت تلك المدرسة مدرسة داخلية للثوار، وكانت تُروى قصص عن ثورات صغيرة قام بها تلاميذ تلك المدرسة في بداية ثمانينيات القرن الثامن عشر دفاعا عن اللغة الجورجية التي كانت ممنوعة في المدارس آنذاك، فقد قدمت تلك الثانوية إمدادات للثورة البولشيفية بأكبر الزعماء راديكالية.

في العام 1899 طُرد “جوزيف ستالين” من المدرسة الأرثوذكسية في العاصمة الجورجية بسبب تفويته موعد الاختبارات، وكان قد تشبع حينها بالفكر الاشتراكي، ولفظ الدين وطوى صفحة خطّتها له أمه منذ ولادته، رغم أنه كان من أفضل الطلاب في صفه، وحصل على أعلى الدرجات خلال دراسته، وظهرت موهبته في كتابة القصائد وخاصة الشعر الجورجي.

“الفريق السرّي”.. خطة السطو على بنك الدولة لتمويل الثوار

سار “جوزيف” الشاب دون رجعة في طريق الثوار، وكان مستعدا للقيام بكل التجاوزات القانونية في سبيل استمرار الثورة، بما في ذلك الانضمام إلى عصابة مسلحة للخلع والسرقة حتى يموّل أعمال الثوار.

 

يصف “سيمون مونيفيوري” أول بروز لـ”جوزيف” حين سطا على بنك الدولة ضمن جملة من الأعمال الثورية التي بدأت أول القرن العشرين، واستهدفت مصالح الإمبراطورية، وقد نجح “ستالين” ورفاقه في سرقة ملايين الدولارات من بنك الدولة في العاصمة الجورجية.

صورة لجوزيف ستالين مؤخوذة من “البوليس السري” سنة 1911

خطط “جوزيف ستالين” بإحكام وسرية كاملة لعملية السطو على بنك الدولة في قلب العاصمة الجورجية تبليسي، وكوّن من أجل ذلك فرقة من قرابة عشرين شخصا عُرفت باسم الفريق السري، وبدأ نجم “جوزيف” يسطع خاصة بعد لقائه بـ”فلاديمير لينين” العقل المدبّر لذلك المسار، وهو من أعطاه كنية “ستالين” التي لن تفارقه أبدا إلى حد مماته، حتى أصبح وفيا لتلك الكنية أكثر من وفائه لرفاقه ولمبادئ الثورة الأولى.

أصبح “جوزيف ستالين” الممول الأول للمركز البلشفي بواسطة أعمال السطو المسلحة، وحسب “جوزيف دافريشوي” وهو رفيقه في السكن وشريكه في التخطيط للسطو على بنك الدولة، فقد فتح “جوزيف” الباب للسطو من أجل تمويل الثورة، بل شارك في بعض عمليات السطو تلك إضافة إلى التخطيط لها.

كان “ستالين” قد قارب العشرين عاما حين انضم إلى حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي الذي أصبح يسمى الحزب البلشفي، قبل ترك مقاعد الدراسة في المدرسة الكاثوليكية في العام 1899، وخلال أقل من عشر سنوات أصبح الرجل ذو اليد المتيبسة نتيجة حادث في طفولته؛ ذا قبضة من حديد قادت الثورة وسطرت مساراتها بالدم.

“الرجل الحديدي”.. مسار شائك بين كمائن الشرطة وترقيات الحزب

بدأ “ستالين” حياته الثورية بكمائن ومطاردات من الشرطة متنقلا بين مدن الإمبراطورية الروسية، واستطاع الهرب من كمين نُصب له في مقر عمله بمكتب الأرصاد الجوية الذي التحق به بعد طرده من الثانوية، كان ذلك في العام 1901 بعد خُطَب محرّضة على العصيان، لكن “ستالين” واصل تحديه للنظام القائم آنذاك ولم يختبئ، وجاهر بأفكاره الثورية وحرّض العمال في مصنع لتكرير النفط كان يعمل به على المطالبة بتحسين أجور العمال.

أجّج الفتى العشريني الغضب في المصنع حتى أتت نيران ذلك الغضب على الشارع، وأدت إلى مواجهات مع الشرطة، ووضعت “ستالين” تحت مجهر الأمن الذي كان يصطاد الرؤوس الكبيرة للاشتراكيين.

وفي شهر أبريل/نيسان من العام 1902 وقع “ستالين” في قبضة الشرطة وحوكم بسبب نشاطاته المعادية للنظام، ونفي بعد أكثر من عام إلى سيبيريا، وقد بقي في منفاه 16 يوما قبل أن يتمكن من الهرب والعودة إلى تبليسي العاصمة.

انتقى “ستالين” أصدقاءه داخل الحزب الاشتراكي بعناية كبيرة، وكان يعرف بدقة إلى أي صف يجب أن يميل، وقاده حماسه المتقد وشخصيته التي تميل إلى المواجهة والعنف إلى اختيار صف “البلاشفة” والوقوف معهم ضد “المناشفة” بعد انقسام الحزب واختلاف قادته بخصوص منهج تصدير الأفكار الاشتراكية السلمي الذي انحاز له “المناشفة”، ومنهج المواجهة الذي اختاره “البلاشفة”.

بدأ “جوزيف ستالين” بتركيز قدميه بكل ثقله في دوامة الثورة بعد انتخابه نهاية العام 1905 لتمثيل البلاشفة في المؤتمر البلشفي، وتعزز ذلك الثقل بلقائه مع “فلاديمير لينين” في العام 1906 الذي لم يعطه لقب “الرجل الحديدي” فحسب، بل فتح له الباب على مصراعيه لتوسيع نفوذه السياسي، بعد أن عيّنه رئيسا للجنة الرقابة الإدارية، أو ما يعرف بـ”رابكرين”، وهو منصب سيادي آنذاك مكّن “ستالين” من أن يكون رقيبا على الالتزام الكامل بمبادئ البلشفية.

أصبح “جوزيف ستالين” رجلا مشهورا لدى الشرطة القيصرية التي طوّقت كل حركاته طيلة أكثر من عام. يقول “مونيفيوري” إن “سوسو” (هو اللقب الذي كانت تطلقه أم “ستالين” على ابنها) كان يرشو الشرطة المحلية بخمسة روبلات ذهبية لتخفف الخناق عليه، لذلك استطاع الهرب منها عدة مرات.

في شهر فبراير/شباط من العام 1912 غادر “جوزيف ستالين” موسكو بسرية كاملة بعد أن حصل على عضوية اللجنة المركزية للبلاشفة، وهي أعلى جهاز في الحزب، ونُقل له خبر ترقيته باستخدام رموز، وكان من بين تلك الرموز قصيدة لـ”مكسيم غوركي”، وكان القطار المتجه من موسكو يشق في الحقيقة طريقه نحو محطة قريبة وهي “زعامة ستالين”.

“كسرت الطلقات ثلج الصمت”.. حرب على جبهتين

وصلت الثورة في تلك الفترة إلى زخمها بعد سقوط 150 قتيلا بنيران الجيش في صفوف عمال في سيبيريا، حينها كتب “جوزيف ستالين” مقالة حماسية في صحيفة “زفيزدا” التي أصبحت فيما بعد “برافدا”، وهي الصحيفة الناطقة باسم الحزب، ويقول فيها: كسرت الطلقات ثلج الصمت، وتدفق نهر الاستياء الشعبي من جديد. الثلج انكسر وبدأ الأمر.

تأججت الإضرابات في أنحاء الإمبراطورية الروسية، وتحمس “ستالين” وهو يرى موعد النصر قد اقترب، فأصبح ينفث حماسه في مقالات تحريضية في الصحيفة الثورية التي تصدر كل أسبوع، وبدأت عداوة تلوح بينه وبين “ليون تروتسكي” غريمه الأبدي الذي وصف حينها مقالات “ستالين” في الصحيفة في أوج اشتعال الثورة بأنها “لغة تبشيرية للمعهد الكهنوتي في تبليسي”، وحينها بدأت ملامح “جوزيف ستالين” الإقصائية تلوح في علاقته بأعدائه ومنافسيه على السلطة، وكان أول طور في ذلك هو استيلاؤه على رئاسة منبر الحزب صحيفة “زفيزدا” التي كانت سببا في حملات لاصطياد رؤوس الحزب من قبل الشرطة السرية القيصرية.

صورة تجمع جوزيف ستالين وماكسيم غوركي سنة 1931

تنقل “ستالين” ورفاقه من منفى إلى آخر، وكانت الحرب العالمية الأولى قد تأهبت لتحط أوزارها آنذاك، وجاء دور “ستالين” في التجنيد في منفاه، لكن حالفه الحظ حين لُفظ من قبل الطبيب الذي فحصه، فقد كان لا يصلح للتجنيد بسبب إصابته القديمة في يده اليسرى.

في العام 1917 بدأت روسيا القيصرية حربها الضارية ضد الثوار، بعد أن انتشرت رقعة الثورة رغم نفي زعمائها، وفي منتصف ذلك العام عزز “جوزيف ستالين” مكانته في الحزب، وكان الرجل القوي بعد “فلاديمير لينين” و”غريغوري زينوفايف”.

في أكتوبر/تشرين الثاني من العام 1917 قُتل قرابة خمسين شخصا في اشتباك بين الحشود الثائرة والشرطة في “بيتروغراد”، وزاد حماس الثوار بعد سيلان دماء رفاقهم، واقتحمت الحشود مخازن السلاح ومراكز الشرطة وأعدموا من فيها، وانطلقت الثورة البلشفية بلا هوادة، والتهمت رقعا كثيرة من نفوذ الإمبراطورية الروسية، بينما كان “جوزيف ستالين” يخوض حربه الخاصة لربح أكبر المساحات في الحزب.

“احصد أيها القديس العجوز ما زرعت في شبابك”

في إحدى قصائده كتب “جوزيف ستالين” قوله: “احصد أيها القديس العجوز ما زرعت في شبابك”، وبالفعل بدأ “جوزيف” يحصد ما زرعه في بداية نشاطه في الحزب الاشتراكي، فهو يقترب من لقب آخر سيُسند إليه إلى جانب كنية “ستالين”، وهو “الفوجد” (أي القائد).

في شهر مايو/أيار من العام 1918 أُرسل “ستالين” إلى تساريتسن (مدينة ستالينغراد الآن) التي واجهت تهديدا بسقوطها في قبضة الجيش الأبيض الذي يحارب ضد الثورة البلشفية، وكانت تلك المدينة تواجه نقصا كبيرا في المواد الغذائية، لذلك وضع “ستالين” خطة لتحويل أراضيها إلى أراض صالحة للزراعة، حينها حصل على نفوذ أكبر في قيادة عمليات عسكرية ضد الجيش الأبيض بالقرب من المدينة، ليطوف بعدها على جبهات أخرى.

صورة تجمع جوزيف ستالين ونستون تشرشل وروزفلت في مؤتمر طهران 1943

حصد “ستالين” النصر في معركة تساريتسن، ولقبت تلك المدينة باسمه وحملت اسم ستالينغراد، وذلك بعد أن حسمت نتيجة النزاع بين الجيشين الأحمر والأبيض لصالح البلاشفة، لم يكن النصر العسكري الثمار الوحيدة التي قضمها “جوزيف ستالين” في ذلك العام، فقد أصبح رئيس المجلس الحربي للجبهة الأوكرانية، ثم نائبا لـ”فلاديمير لينين” في رئاسة المجلس العمالي الفلاحي.

كبر دور “ستالين” في دوائر قيادة الثورة، لكنه اصطدم مرة أخرى بغريمه الخفي “ليون تروتسكي” رئيس المجلس العسكري الذي أمر بإعدام ضباط الجيش الأبيض، في حين عارضه “ستالين” وطالب باستقطابهم للانضمام إلى الجيش الأحمر.

يصف “فلاديمير لينين” جوهر انجذابه إلى “ستالين”، وهو أنه كان “شخصیة قیادیة، إذ من الممكن توكيل ستالين بأي مهمة”، وهو رأي “تروتسكي” الذي اعترف أن لـ”جوزيف ستالين” أهمية كبرى في الخفاء، وأنه قادر على الإقناع، غير أنه استدرك بأنه “لم يكن القائد الرسمي للحزب”.

يقول “سيمون مونيفيوري”: كان “سوسو” (كنية ستالين) القائد غير المشكوك في أهليته للقوقازيين. لقد شعر “لينين” بذلك، وكان يعرف أن عددا لا يُحصى من جميع القادة يقفون خلفه.

ببلوغ العام 1922 تقلّد “جوزيف ستالين” منصب السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفياتي، وكان ذلك قبل الإعلان عن تأسيس الاتحاد السوفياتي بأشهر، وعزز ذلك المنصب نفوذ “ستالين”، وهيأه لخلافة “فلاديمير لينين” بعد وفاته ضمن الثلاثية الحاكمة المكونة من “ستالين- كامينيف- زينوفيف”، لتبدأ بعدها حملة تطهير شاملة بدأها “ستالين” ليثبّت حكمه الذي طال قرابة ثلاثين عاما.

“ستالين وحشي للغاية”.. معارك التفرد بالخلافة بعد موت القائد

حين أقعده المرض أدرك “فلاديمير لينين” أن مخاطر محدقة بحزبه قد تؤدي إلى انقسامه بسبب خلافات بين “ستالين” و”تروتسكي”، لذلك خطّ ما سمي بـ”عهد لينين” الذي طرح فيه إبعاد “جوزيف ستالين” من منصب الأمانة العامة للحزب الشيوعي، ويقول في تلك الوثيقة التي كتبت بين العامين 1922-1923: “ستالين” وحشي للغاية، وهذا الخطأ يمكن تحمله تماما في بيئتنا وفي العلاقات بيننا نحن الشيوعيين، لكن ليس في وظائف الأمين العام. لذلك أقترح على الرفاق دراسة وسيلة لطرد “ستالين” من هذا المنصب، وتعيين شخص آخر في مكانه تكون له ميزة واحدة فقط عن الرفيق “ستالين”، وهي أن يكون أكثر تسامحا وأكثر ولاء وأكثر أدبا.

جوزيف ستالين في زيارة فلاديمير لينين وهو مريض عام 1920

طرح “لينين” في وصيته بدائل لـ”ستالين”، ولم تكن جميعها ترضيه، فـ”تروتسكي” حسب وثيقة العهد هو “الأكثر قدرة في اللجنة، لكن له ثقة مفرطة وتفكير إداري مبالغ فيه”. لم تظهر وثيقة “لينين” للعلن، وأحيطت بالسرية داخل الحزب قبل نشرها في العام 1926، ورغم تشكيك “ستالين” بها، فقد طوى صفحتها إلى غاية مماته.

حسمت وفاة “فلاديمير لينين” في بداية العام 1924 الجدل بخصوص خليفته، وواصل “جوزيف ستالين” مسيرته نحو التفرد بالسلطة، بعد أن شاركها في البداية مع “كامينيف” و”زينوفيف”، ثم طردهما من اللجنة المركزية في العام 1926، ثم من الحزب الشيوعي السوفياتي، بمساعدة “نيكولاي بوخارين”، كما كان نصيب “تروتسكي” الطرد أيضا وخسارة مقعده في منظمة الشيوعية الأممية، ثم الاغتيال في العام 1940 بعد نفيه إلى المكسيك في العام 1929.

لم يختلف مصير “نيكولاي بوخارين” و”أليكسي إيفانوفيتش ريكوف” عن رفاقهم، ونالهم الطرد أيضا من الحكومة ومن الشيوعية الأممية، بعد أن انتقد الشق الذي ينتميان له سياسات “ستالين” من أجل تجاوز مشكلة نقص القمح آنذاك.

لم تمض خمس سنوات على وفاة القائد السوفياتي “فلاديمير لينين”، حتى أصبح “جوزيف ستالين” الرجل الأوحد في الاتحاد السوفياتي بعد أن تخلص من جميع خصومه، بل إنه خان مبادئ معلمه “لينين” حين سطّر سياسة تعتمد كليا على قوى الاتحاد السوفياتي وحده، بعد أن أنكر مبدأ “ثورة عالمية مستمرة”ـ وحصد رؤوس رفاقه ومعارضيه داخل الحزب وخارجه.

شهر “جوزيف ستالين” سكاكينه في وجه منتقديه دون رحمة في بداية العام 1934، فقد أحس بخطر خسارة نفوذه بعد أن تذيّل قائمة أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المنتخبين خلال المؤتمر الـ17 للحزب الذي عُرف بـ”مؤتمر المنتصرين”، وكانت نتيجة تلك الانتخابات إنذارا له بإمكانية إزاحته عن الأمانة العامة للحزب، خاصة بعد أن غنم عددا لا يحصى من الأعداء والمعارضين له بسبب النتائج الكارثية لسياسته الاقتصادية.

“كلما تأخرت روسيا، تعرضت للهزيمة”.. خطة تجويع الملايين

كان يسكن “جوزيف ستالين” هوس من حرب قادمة قد يدخلها الاتحاد السوفياتي ضد الدول الرأسمالية، وقال في خطابه في العام 1930 “كلما تأخرت روسيا، تعرضت للهزيمة”، وكان ذلك الخطاب تبريرا لسياسة السباق المحموم من أجل التطور الصناعي لروسيا، التي سحقت العمال. فمنذ نهاية العام 1928، كانت الأولوية المطلقة التي أعطاها “ستالين” لصالح تراكم المال عن طريق الضغط على الفلاحين من أجل التطوير الشامل للصناعات الثقيلة ولوسائل الإنتاج، بعد التخلي جزئيا عن “خطة السياسة الاقتصادية الجديدة” التي وضعها الحزب الشيوعي السوفياتي في العام 1921، وذلك بإفساح المجال مؤقتا لحرية التجارة والاعتراف الضمني بحق الملكية الشخصية.

صورة للمجاعة التي ضربت مدينة خاركيف الأوكرانية سنة 1933، وحصدت ملايين الأرواح

نجح جزء من الاقتصاد السوفياتي الذي انتفع من “السياسة الاقتصادية الجديدة” في الانتعاش وتجاوز الآثار المدمرة للحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية الروسية، لكن تراجع “جوزيف ستالين” عن خطة الحزب في العام 1928، فحينها كان الاتحاد السوفياتي يعاني من أزمة نقص الحبوب، ووضع “ستالين” خطة اقتصادية جديدة باسم “المخطط الخماسي”، واعتمد على تجميع الأراضي بين العامين 1929-1933 وحقق هدفه، فمُدت القنوات والسكك الحديدية، وامتد خط مترو موسكو الشهير، وبُنيت السدود وأنشأت مدن جديدة ومصانع ضخمة.

لكن كان لتلك الأهداف ثمن باهظ، فقد ذبح أصحاب الضيعات الذين عرفوا باسم “الكولاك” نصف الماشية احتجاجا على خطة تجميع الأراضي، وانتقم منهم “ستالين” بعد اتهامهم بالخيانة، وحُكم على قرابة مليوني شخص منهم بالنفي إلى سيبيريا، بينما خسرت أوكرانيا مساحات خصبة للحبوب، وتسبب ذلك في مجاعة كارثية في العامين 1932-1933، وحصدت ملايين الأرواح في أوكرانيا وكل روسيا تقريبا.

“سنوات التطهير الكبير”.. حصاد الرؤوس المعادية في الجيش الأحمر

لقيت “الخطة الخماسية” التي انتهجها “جوزيف ستالين” اعتراضا لدى أعضاء من الحزب الشيوعي، لذلك كانت أول الرؤوس التي قطفها “ستالين” هي رفاقه في الحزب، فانتصبت المحاكمات بين العامين 1936-1938 مستهدفة الرفاق القدامى، وقبل ذلك اصطاد “ستالين” رؤوسا هددت شعبيتُها منصبه، ففي العام 1934 اغتيل “سيرجي كيروف” زعيم الحزب الشيوعي في “لينينغراد”، إذ كان قد حصل على أكبر عدد من الأصوات في اللجنة المركزية في ذلك العام.

وخلال عامين تخلص “جوزيف ستالين” من منافسيه على منصب الأمانة العامة للحزب الشيوعي، وأحاط نفسه بجيل جديد يعبده، فقد أظهر “ستالين” إلها يحمي النجمة الحمراء، واستهدف الجميع فيما سُمي بـ”سنوات التطهير الكبير”، وامتدت يده إلى الجيش الأحمر وجهاز الشرطة السياسية وإدارة “الجولاج”، لتصل إلى كل من يشتبه فيه بإمكانية الخيانة والاصطفاف وراء العدو في حال غزت ألمانيا النازية الاتحاد السوفياتي.

جثمان جوزيف ستالين الملقب بالحديدي بعد وفاته عام 1953

لا يحصي المؤرخون عددا دقيقا لضحايا “سنوات التطهير الكبير”، ويُذكر أن 70 ألف جندي في الجيش الأحمر قد قتلوا، ونُفي 20 ألفا منهم في معتقل “الجولاج”، في حين قدّروا عدد ضحايا تلك الحملة بثلاثة ملايين قتيل وقرابة ستة ملايين موقوف، واستند بعض المؤرخين الآخرين إلى أرشيف الاستخبارات السوفياتية التي تظهر أنه بين العامين 1921-1953 فترة انتهاء حكم “ستالين” قُتل قرابة 800 ألف شخص، واعتُقل ما يقارب المليون شخص.

“تسلم روسيا مجرافا زراعيا وتركها ولها سلاح ذري”

في أواخر الثلاثينيات كانت أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية تواجهان جنون “أدولف هتلر”، وأصبح “جوزيف ستالين” بطلها بعد أن صد هجوم النازيين على “موسكو” فيما سُمي بحملة بارباروسا النازية، وحمى الجبهة الشرقية لأوروبا.

مدح رئيس الوزراء البريطاني “ونستون تشرشل” حينها “ستالين” بالقول إن “ستالين تسلم روسيا مجرافا زراعيا وتركها ولها سلاح ذري”، وذلك بعد أن طور الاتحاد السوفياتي القنبلة الذرية في بداية الخمسينيات، لكن العلاقة الودية مع الغرب ومع الولايات المتحدة الأمريكية بالتحديد لم تدم.

العشاء الأخير.. وفاة الشيطان المُخلص لمبادئ الاتحاد السوفياتي

في الليلة الأولى من مارس/آذار عام 1953 غادر “جوزيف ستالين” مأدبة عشاء، ودخل غرفته طالبا من حراسه عدم إزعاجه، وعندما طال نوم “ستالين” اقتحمت الغرفة مساء اليوم الموالي، فوجد الحراس قائدهم مرميا على وجهه فوق الأرض، وقد ظنوا أنه كان ثملا، لكن تبين أن حالته الصحية حرجة.

وفي الخامس من مارس/آذار أعلنت للعالم وفاة “جوزيف الحديدي” بسبب جلطة دماغية، مخلفا وراءه غموضا وروايات عن تورط رفاقه في وفاته، غير أن هناك حقيقة واحدة تركها “جوزيف ستالين”، وهي أنه كان شيطانا مخلصا لمبادئ الاتحاد السوفياتي، وأبا لروسيا القوية، وما أشبه الأمس باليوم.