“ابن رشد القاضي الفيلسوف”.. صراع العالم الحكيم في بحر الأندلس المتقلب

“إن قصد الفلاسفة إنما هو معرفة الحق، ولو لم يكن لهم إلا هذا القصد لكان ذلك كافيا لمدحهم”. هكذا يرى ابن رشد مهمته في الحياة، تلك المهمة التي أثارت جدلا حوله حيا وميتا بين من يراه فيلسوفا مؤمنا باحثا عن الحق، ومن يتهمه بالزندقة ويأمر بنفيه وحرق كتبه.

يعرض فيلم “ابن رشد القاضي الفيلسوف” -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “العلماء المسلمون”- حياة ابن رشد وإنجازاته كواحد من أبرز العلماء المسلمين الذين تركوا بصمة في التاريخ، وأضافوا للبشرية خدمات واختراعات مميزة في مجالات متعددة.

وُلد أبو الوليد أحمد ابن رشد في عام 520 من الهجرة الموافق لعام 1126 من الميلاد، في مدينة قرطبة. ورغم أنه حمل اسم جده ولقبه، فإنه كان أشهر منه بكثير. وعن حبه للقراءة والكتابة، يقول ابن رشد إنه لم يتوقف عن ذلك إلا ليلة بنائه بأهله، وليلة وفاة والده.

قاضي القضاة.. نشأة علمية في موطن المفكرين والفلاسفة

يقول أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة عاطف العراقي إن أشهر بلدتين أندلسيتين هما إشبيلية التي كانت موطنا للطرب والغناء، وقرطبة التي اشتهرت بأنها موطن المفكرين والعلماء والفلاسفة، مما جعلها تُمثّل المجد الفكري للأندلس، معتبرا أن نشأة ابن رشد في قرطبة ساعدته كثيرا على النبوغ الفلسفي.

ويضيف أستاذ الفلسفة الإسلامية أن عهد دولة الموحّدين في الأندلس كان أكثر انفتاحا من عهد دولة المرابطين، ولذلك ظهرت في عهد الموحدين تيارات فكرية أكثر جرأة واتساع أفق، وليس أدل على ذلك من وجود ابن رشد.

جمع ابن رشد بين الفقه والطب والفلسفة، لكنه نبغ في الأخيرة واشتهر بها

وقد جمع ابن رشد في دراسته ونبوغه بين الفقه والطب والفلسفة، وأتيح له أن يدرس على كثير من علماء عصره علوم الفقه، الأمر الذي أهّله لأن يكون قاضي القضاة في الأندلس. كما درس كثيرا من كتب الطب التي ألفها أطباء المشرق العربي، إضافة إلى كتب جالينوس.

ويوضح أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة بريستون الأمريكية سيد نظام الدين أن علم الطب عند القدماء كان جزءا من الفلسفة، كما هو حال علمي الفلك والرياضيات، لافتا إلى أن كلمة الحكيم تفيد في لغات إسلامية عدة كالعربية والفارسية والتركية معنى الطبيب والفيلسوف في آن واحد.

“ما وراء الطبيعة”.. مطية الوصول إلى الخليفة والعواصم الغربية

تعرّف ابن رشد على الخليفة أبي يعقوب يوسف الموحّدي من خلال أبي بكر بن طفيل، ليصبح مُقرّبا من الخليفة المحب للعلم والعلماء. وأصل ذلك أن الخليفة وجد صعوبة في فهم بعض ما كتبه أرسطو، فطلب شرحه من ابن طفيل الذي كلّف ابن رشد بالمهمة، مما فتح له بابا نحو الخليفة بعد أن شرح كل كتب أرسطو في آلاف الصفحات.

ويلفت أستاذ تاريخ الحضارات في فرنسا “رولاند لافيت” إلى أن لابن رشد شهرة واسعة في باريس بسبب شرحه لكتب أرسطو، خصوصا ما يُعرف بـ”ما وراء الطبيعة” التي لم يسبقه أحد إلى شرحها، وقد تُرجمت في عام 1220 على يد “روبرت سكوت” في باليرمو.

لوحة تجمع ابن رشد بالخليفة أبي يعقوب يوسف الموحّدي

ويتابع أن “توما” -وهو أحد آباء الكنيسة الكبار- كان مبهورا بأفكار ابن رشد، لكنه مع ذلك كان يرفض الاستشهاد بها بسبب الضغوط التي اضطرته لأن يكتب كتابا سمّاه “ضد ابن رشد”، لكنه في الحقيقة استند إلى ابن رشد وابن سينا وآخرين لمجابهة الفلاسفة الباريسيين.

ويؤكد أن الجدل بشأن كتابات ابن رشد بلغ أن مُنعت كتاباته من جامعة باريس عام 1277. وقد أُعيد تقديمه رسميا في جامعة باريس في عام 1991 بفضل الفيلسوف الفرنسي “جون بيرفاي” بعد سنوات طويلة من العداء.

“فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”

كتب ابن رشد في الفقه كتبا أشهرها “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” الذي ما زال يُطبع في عدة دول حول العالم. وفي الطب كتب كتاب “الكليّات”، وشرح أرجوزة “ابن سينا”.

وعن كتاب “الكليّات” يقول أستاذ التاريخ بجامعة الدراسات العربية في إسبانيا “كاملو آلفريز” إن ابن رشد كتبه -فيما يبدو- بالتعاون مع ابن زهر من إشبيلية، محاولا بذلك أن يكون كتابا يُضارع كتاب “القانون” لابن سينا في المشرق، ويصف كتاب “الكليّات” بالضخم، إذ يتكون من سبعة أجزاء تتناول التشريح والفيسيولوجيا والعلاج الطبيعي وطب الغذاء والنظافة الصحية وغيرها.

“رولاند لافيت” الباحث في التراث الإسلامي وأستاذ الحضارات بفرنسا يؤكد اهتمام ابن رشد بفلسفة أرسطو

ويُشير الدكتور عاطف العراقي إلى أن كتاب “الكليّات” في الطب كان مقررا في الجامعات خلال العصور الوسطى بعد أن تُرجم إلى أكثر من لغة، الأمر الذي تكرر أيضا مع الرسائل الطبية الصغيرة لابن رشد.

وهنا يضيف الباحث في تاريخ الحضارات محمد قجّة أن لابن رشد كتابا صغيرا لكنه مهم جدا اسمه “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”، لافتا إلى أن “الحكمة” تشير في ذلك الوقت إلى الفلسفة. ويلفت أستاذ تاريخ العلوم بجامعة حلب جريجوار مرشو إلى أن ابن رشد حاول في هذا الكتاب أن يجد طريقة تجمع الدين بالفلسفة عوضا عن التضاد الذي كان قائما.

“تهافت التهافت”.. معركة فلسفية ضد محارب المشرق

يلفت الدكتور محمد قجّة إلى موقفين ينبغي التوقف عندهما مع ابن رشد؛ الأول: هو محاولته التوفيق بين الفكر الديني والفلسفة، كما في كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”. والثاني: دعوته إلى التأويل في النصوص بحيث تخضع للبرهان العقلي، مستشهدا بتقسيم ابن رشد الناس إلى ثلاثة أقسام؛ الأول: الجمهور الغالب الذي يُؤخذ بالوجدان والعاطفة، والثاني: الجدليون الذين يستخدمون العقل، والثالث: البرهانيون، وهم النخبة الذين يحللون الأمور العقلية بمنطق الملاحظة والتجربة والاستنتاج.

ويؤكد الدكتور قجّة أن ابن رشد وابن عربي يمثلان الخطين الفكريين الناضجين جدا في الحضارة الإسلامية، فالأول يمثل البرهان العقلي، بينما يمثل الثاني العرفان الصوفي، وقد التقيا مرة واحدة، ورغم أن ابن عربي كان فتى صغيرا، فإن ابن رشد رأى أنه سيكون له شأن كبير بعد حوار بينهما حول وحدة الوجود والتأملات الصوفية والفكرية.

ردا على كتاب الغزالي “تهافت الفلاسفة” وضع ابن رشد “تهافت التهافت” انتصارا لفلاسفة اليونان ومن تبعهم من فلاسفة العرب

ويذكر الدكتور عاطف العراقي أن ابن رشد قام بالرد على الحملة التي تزعمها الشيخ أبو حامد الغزالي في المشرق العربي ضد الفلاسفة في كتابه “تهافت الفلاسفة”، فألّف ابن رشد كتاب “تهافت التهافت”، وذلك على الرغم من أن كتاب “تهافت الفلاسفة” كان يتضمن عشرين مسألة، لم يكفر فيها الغزالي الفلاسفة إلا في ثلاث مسائل فقط.

ويرى أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة عبد الحميد مدكور أن خلاف ابن رشد مع الغزالي حول الفلسفة لم يمنعه من أن يُلخّص كتاب “المستصفى” للغزالي ويُقدّمه إلى الناس مع بعض ملاحظاته عليه، معتبرا ذلك دليلا عن إنصافه ونضوج عقله.

يقول الدكتور محمد باسل الطائي أستاذ الفيزياء الكونية الزائر في جامعة ليدز البريطانية: إن المصادر الموثقة التي أمامنا وهي كتاب “تهافت الفلاسفة” لأبي حامد الغزالي، وكتاب “تهافت التهافت” لابن رشد؛ تؤكد أن لكلا الرجلين منهجيتين مختلفتين. فقد تحدث الغزالي بلسان المتكلمين المسلمين وهم الذين انطلقوا من عقيدة الإسلام، أما ابن رشد فقد كان تلميذا نجيبا لأرسطو دافع عن آرائه وجعلها برهانية، وهي ليست بذلك، فإن براهين الغزالي وحججه التي نجدها في تهافت الفلاسفة أقوى من حجج ابن رشد وأقرب إلى ما يقرره العلم المعاصر.

اليُسانة.. نفي مذل إلى موطن اليهود ومزعزعي العقيدة

تقول أستاذة الفلسفة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة “كاثرينا بيلو” إنه ما إن تُوفي الخليفة أبو يعقوب وجاء ابنه أبو يوسف -الذي لم يكن مهتما بالفلسفة كأبيه- حتى أخذ موقفا عدائيا من ابن رشد بتأثير من السلطة الدينية للمرحلة.

ويقول الدكتور عاطف العراقي إن البعض يرد نكبة ابن رشد إلى أسباب سياسية أو دينية، معتبرا أن بعض الحاسدين وشوا به عند الخليفة، فأمر بطرده ونفاه إلى بلدة اليُسانة، كما أمر بحرق كتبه وجميع الكتب المؤلفة في التنجيم والمنطق والفلسفة، مستدركا أن عددا من كتب ابن رشد نجا من الحرق وهرّبت من قِبل بعض اليهود، الأمر الذي يُفسّر وجود ترجمات عبرية لهذه الكتب رغم فقدان أصلها العربي، مما يُلقي بظلال من الشك حول دقة هذه الترجمة.

أرسطو وأفلاطون اليونانيان.. ملهما ابن رشد في فلسفته

ومن المصادفات أيضا أن مدينة اليُسانة كان يعيش فيها الكثير من اليهود، الأمر الذي دفع بعض المستشرقين إلى القول إن ابن رشد من أصل يهودي، لكن الدكتور عاطف العراقي يؤكد أن سكان اليُسانة لم يكونوا جميعا من اليهود، بل كان بعضهم ممن يُطلق عليهم “مزعزي العقيدة”، ومن أجل ذلك نفاه الخليفة إليها باعتباره “مزعزع العقيدة”، وهو نفي يشي بنوع من الإذلال في عُرف تلك العصور.

وبعد عام عفا الخليفة عن ابن رشد، وعاد إلى قرطبة، لكنه ظل موصوما في عرف المجتمع، حتى قال: أعظم ما طرأ عليّ بعد النكبة أنني حاولت أن أدخل المسجد للصلاة، فثار عليّ بعض سفلة العامة وأخرجوني منه.

“الحُسن ما حسّنه العقل، والقبح ما قبّحه العقل”.. رحلة باذخة

يؤكد أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة عاطف العراقي أن هناك أربعة يقفون على قمة الفلسفة عبر التاريخ؛ هم: أرسطو، وابن رشد، والقديس “توما الأكويني”، وأخيرا الفيلسوف الألماني “كانط”، معتبرا أنه بوفاة ابن رشد انتهى وجود الفلاسفة العرب.

وترى أستاذة الفلسفة “كاثرينا بيلو” أن ابن رشد كان فيلسوفا إسلاميا مهما جدا في مرحلة القرون الوسطى باتجاهه العقلاني في الجمع بين المنطق والإيمان، وتأثيره الكبير على أوروبا.

تمثال لابن رشد في مسقط رأسه قرطبة بالأندلس

أما في الطب، فيرى أستاذ التاريخ بجامعة الدراسات العربية في إسبانيا “كاملو آلفريز” أن الطب بلغ أقصى ازدهار له في الأندلس خلال القرن الثاني عشر، فقد ظهر ابن ميمونة وابن زهر وابن رشد الذي كان أشهرهم على الإطلاق، مضيفا أن ابن رشد وابن سينا والرازي وضعوا القواعد الأساسية للطب في العالم، واستمر تأثيرهم حتى القرن الثامن عشر.

وفي عام 595 للهجرة الموافق 1198 من الميلاد، توفي ابن رشد عن نحو 72 عاما، عمل فيها وفق مبدئه القائل: الحُسن ما حسّنه العقل، والقبح ما قبّحه العقل.. الله لا يمكن أن يعطينا عقولا، ويعطينا شرائع مخالفة لها.


إعلان