أبو الفتح الخازني.. نابغة الميكانيكا والفيزياء الإسلامية

كانت البداية من انتصار السلطان طغرل بيك السلجوقي على البيزنطيين، فأنقذ بذلك الخلافة الإسلامية ونقل الحرب إلى داخل بلاد الرومان وأجبرهم على إعادة افتتاح مسجد القسطنطينية.
لكن من أسرار انتصاره الأكبر أنه أنجب واحدا من أفذاذ علماء المسلمين، ستطوف شهرته الآفاق، فما دونه في كتبه يعد من أفضل ما أنتجته القريحة الإسلامية العلمية في القرون الوسطى، وما كشفه من دقائق وأسرار وطرق لوزن المواد المختلفة كان له تأثيره البالغ على علماء الفيزياء عبر التاريخ.
في هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “العلماء المسلمون” سنتعرف على أبي الفتح عبد الرحمن الخازني، العالم المسلم الذي جمع العلم من أطرافه، فهو فيلسوف وفيزيائي وكيميائي وعالم بالرياضيات.
“خازن المعرفة”.. نشأة في بلاط الأمراء السلاجقة
ولد الخازني عام 1115 من الميلاد في مرو إحدى مدن خراسان، وتوجد اليوم بتركمانستان، وكان واحدا الغلمان البيزنطيين الذين خدموا في بلاط الأمراء الأتراك السلاجقة.
لم تنل شخصية الخازني ما تستحق من اهتمام سواء من حيث الترجمة والتحقيق وتحرير سيرته الذاتية، أو من حيث التعرف على مؤلفاته القيّمة التي لم يُعثر إلا على القليل منها، وكانت غير مسبوقة في تاريخ العلم.
ويعود السبب في الإجحاف بحق هذه الشخصية العظيمة إلى الخلط بينه وبين علماء آخرين، فقد نسب كثير من أعماله لغيره من العلماء، وذلك أن اسمه في العربية الخازن، وكان يخلط مع اسم الحسن بن الهيثم الذي يطلق عليه في الإنجليزية “الهازن” (Hazen)، كما أن بعض المؤرخين نفى وجود شخصية الخازن.

كان الخازن غلاما لأبي الحسين علي الخازن، ونسب له وعرف بالخازن أو الخازني، وأعطاه سيده أفضل تعليم ممكن وعامله كابن له، إلا أن نبوغه المبكر بالفلك والفيزياء وعمله كأمين لمكتبة خراسان منحه لقب “خازن المعرفة”.
بعد ذلك منحه سيده حريته ليتفرغ للعلم والعلماء، وليتعلم على أيدي الفلاسفة وعلماء الطبيعة الذين زخرت بهم مرو في القرن الخامس الهجري.
علم الموازين.. براعة في ابتكارات الحضارة الإسلامية
لقد كان لعلم الموازين الذي ابتكر في الحضارة الإسلامية شأن كبير، فقد دعا القرآن الكريم للوزن بالقسطاس المستقيم، وجاء الحديث ليؤكده. وكان لمجيء الحضارة الإسلامية ودعوات القرآن للإثبات بالحجة والتأمل في مشاهد الكون للوصول إلى الحقيقة، أثر كبير في غلبة مبدأ العدل والقسط والميزان.
وقد ظهرت في الدولة الإسلامية مهنة لمراقبة الموازين وهي الحسبة، وأوجدت موظفا جديدا، وهو المحتسب الذي ظهر لأول مرة في عهد الخليفة الفاروق رضي الله عنه. وفيما بعد ازدهرت التجارة في العصرين الأموي والعباسي، وزاد الاهتمام بالأحجار الكريمة والمعادن النفيسة، لذلك تطلب الأمر اختراع موازين.
وقد برع الخازن في العلوم الفيزيائية وتطبيقاتها في مجال الموازين، وتولى شرح كتابات سابقة عن فنون صناعة الموازين واحتساب العناصر المختلفة، فجمعت كتبه حسابات أرخميدس وتصميمات الرازي للموازين ذات الكف الثابتة والكف المتحركة لتميز اختلاف المعادن، كما تفوق في وصف الصناعة الدقيقة للموازين في كتابه “الآلات العجيبة”.
علم الميكانيكا.. آلات تسبق ثورة الصناعة الأوربية
تفوق أبو الفتح عبد الرحمن الخازن في رسم الجداول وتدوين حقائق المعادن النفيسة والفلزات بأسلوب مرتب ومبوّب لا يقل براعة عن الدراسات العلمية الحديثة، ووصف في كتابه الميزان ذا الكفة الواحدة والرمانة الذي لا يزال يستخدم حتى يومنا هذا.
ورغم نبوغه فقد كان شديد التقشف ومتدينا، وقد سمى ميزانه “الدقيق”، وهو يزن الدينار الواحد بثلاث رمانات “القسطاس المستقيم”، اقتباسا من الآية القرآنية “وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاط المستقيم”.

ويرى كثير من الباحثين أن الخازني سبق علماء أوروبا بكثير، إذ ظهرت ثورة الآلات هناك في القرن السادس عشر، بينما تمكن هو من اختراع آلات جيدة جدا بالنسبة لعلم الميكانيكا، وأضاف الكثير لاختراعات علماء سابقين.
كانت إنجازات الخازن في الميكانيكا والفيزياء إنجازات مبكرة، وتعد إضافة كبيرة إلى العلم، فقد اعتمد الغرب عليها في كثير من المجالات وخاصة في اختراع البارومتر والمضخات وآلات رفع الماء.
فقد ذكر في كتابه “الآلات العجيبة” تصميم كل آلة وطريقة عملها ووظيفتها، وما الذي ستصل إليه من خلال هذه الآلة والفرق بينها وبين آلات أخرى، فقد كان لكل آلة دور في المعرفة العلمية عند الخازن.
جماعة الحشاشين.. هجرة تفتح أبواب العلوم في العراق
كان أبو الفتح الخازن صديقا لوزير الدولة والرياضي أبي الحسن الطوسي الذي قتل على يد جماعة الحشاشين المتطرفة، فقرر الخازني بعد ذلك أن يكون عالما فحسب، ورحل إلى مرو صوب جبال سنغارة بالعراق، وكان مقربا للسلطان السلجوقي معز الدين سنغر أوائل القرن السادس الهجري.
كما اهتم بعلوم الفلك والهندسة، ورصد على مدار عامي 1115-1116 م حركة الكواكب والنجوم السيارة، ووصفها في جدول دقيق أسماه “الزيج السنغاري”، وفاء لسلطان سنغر، وظل هذا الزيج من أهم خرائط النجوم التي اعتمد عليها الفلكيون حول العالم لمئات السنين من بعده.
كما كان مهتما بالفيزياء والميكانيكا والفلك، وهو من العلوم التي تستهوي الجميع، وتقاس عليه قدرات العلماء المسلمين في هذا الجانب بما صنفوه من مؤلفات وما وضعوه من أزياج صفحة السماء.
دراسة السوائل.. حسابات تنقل النظريات إلى تصور كمي
لقد سبق أبو الفتح الخازن الجميع في الحديث عما يسمى بالهيدروستاتيكي والسوائل الساكنة، وهو مجال علمي مهم للغاية، إذ يدرس السوائل ليس لدراستها فقط، ولكن لنقل التصور النظري بمعرفتنا عن السوائل إلى تصور كمي.
ومن خلال دراسته للسوائل الساكنة استطاع أن يطور الآلة التي عرفت باسم “الآلة البيرونية”، وسماها “الآلة المخروطية”، فقد سبقه أبو الريحان البيروني منذ قرن وربع القرن بعمل أوزان نوعية، ولكن أوزان الخازني كانت أدق، وهي متطابقة ومتقاربة لحد كبير من النسب الحديثة.

كما طور الخازني آلة البيروني في معرفة الوزن النوعي للعناصر والفلزات والسوائل، وكان يقوم بوزن المادة المراد قياس كثافتها، ثم يضعها في إبريق ممتلئ بالماء، فيخرج الماء الزائد من الميزاب داخل كفة ميزان صغيرة، فيحسب حجم الماء الزائد ليساوي حجم المادة الموزونة.
وقد استخدم المعادلة المعروفة بقسمة الكتلة على الحجم ليحصل في النهاية على الوزن النوعي للمادة، وبهذه الطريقة البسيطة استطاع تحديد الوزن النوعي لعشرات المواد بدقة متناهية، مثل العسل والزئبق والدم، وقد أوصى العلماء بعده بإجراء تجاربهم مستخدمين نوعا ثابتا من المياه.
“ميزان الحكمة”.. أعظم ما أنتجته الفيزياء الإسلامية
جمع أبو الفتح الخازن في كتابه “ميزان الحكمة” تجارب من سبقوه بالإضافة إلى ما توصل إليه، ففيه ميزان ذو خمس كفات يستطيع أن يكشف تزييف العملات المعدنية، وتقدير قيمة المعادن النفيسة بدقة مذهلة ونسبة الخطأ فيه لا تتجاوز الواحد بالألف، وهو الميزان الجامع الذي يعد أهم ما أنجزه الخازن، وواحدا من أفضل ما أنتجته الفيزياء الإسلامية.
تحدث الخازن بعد ذلك في كتابه “ميزان الحكمة” عن فلسفة الميزان في القرآن الكريم، وكيف أن الميزان يرمز إلى عدل الخالق، وقد اقترن باسمه، وكيف أنه مرتبط بالحكام، وهم رعاة العدل في المجتمع.
ويتألف الكتاب من مقدمة وثماني مقالات، وكل مقالة مكونة من عدد من الأبواب، وعددها خمسون، في كل باب عدة فصول، ويبلغ عددها 150 فصلا.

وحدد لكل فصل فيها موضوعا، وقسّم أعماله في كتابه إلى ثلاثة أقسام؛ ففي القسم الأول تناول أربعة مقالات تحدث فيها عن النسب والثقل النوعي ومراكز الثقل وغوص السفن وغيرها من الأمور المتعلقة بالوزن النوعي للمعادن والسوائل.
أما القسم الثاني فمكون من ثلاث مقالات تحدث فيها عن الميزان الجامع الذي جمع فيه كل أنواع الموازين، وفي القسم الثالث خصص له مقالا واحدا خصصه كظرائف ومُلَح لعلم الموازين، لإضافة نوع من التشويق، وهي عادة اتبعاها علماء العرب في كتبهم.
قنصل روسيا في تبريز.. عودة الكتاب الناجي من محرقة التتار
اكتشف كتاب “ميزان الحكمة” بالصدفة على يد قنصل روسيا في تبريز في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، فقام بكتابة عدة مقالات عنه في مجلات أمريكية، واهتم به عدد من المستشرقين الألمان.
وقد ترجمت عدة فصول بالنص من كتابه “ميزان الحكمة”، لكنه لم يظهر في الشرق إلا في أواسط القرن المنصرم، حين أشار إليه قدري طوقان في كتابه عن التراث العربي.

كانت أوروبا تؤمن بالنظرية الأرسطية التي تقول إن الهواء ليس له وزن، وبهذا يكون الخازن قد سبق “توريتشيلي” بما يزيد عن 1600 عام في اختراع جهاز البارومتر لقياس ضغط الهواء، وقد أكد في كتابه “ميزان الحكمة” أن وزن الأشياء يختلف في الهواء أو الماء عنها في الأرض.
لقد فقدت كتب هذا العالم العبقري إبان غزو المغول لبغداد، ولم يعرف تاريخ وفاته لكن لا شك أنه أحد عظماء التاريخ الإسلامي وله بصمته البارزة في مجال العلوم والابتكار.