سيد درويش.. رائد الأغنية الوطنية وصوت الطبقة الكادحة

لم يمض عقد من الزمان على وقوع مصر تحت الاحتلال الإنجليزي، حتى شهد حيّ كوم الدكّة في مدينة الإسكندرية، في 17 مارس/آذار 1892 ولادة الفنان والملحن المصري سيد درويش. ذلك الحي الذي يعج بصغار العمّال والحرفيين، سيكون له أكبر الأثر في صياغة شخصية سيد درويش، لينسج بألحانه ألوانا من التعبير عن آمال البسطاء، والنضال لتحقيق الاستقلال.

 

وقد خصصت قناة الجزيرة الفضائية حلقة من برنامجها “خارج النص” لتسلط مزيدا من الضوء على الجانب الوطني في فنّ سيد درويش، وعلى الرغم من أن مظاهر العبقرية بادية على جوانب شتى من إبداعاته، فإن هذا الجانب يكاد يكون رئيسيا في سرّ خلود أعمال “فنان الشعب”، وانسيابها الرقراق على امتداد مساحة الوطن العربي بأكمله.

“قوم يا مصري، مصر دايما بتناديك”

أوجدت الفترة التي واكبت ثورة عرابي ضد السلطة الحاكمة ودخول المحتل الأجنبي، بيئة أخرى من التصدي لمحو الهوية، بيئة النضال بالكلمة واللحن والثقافة، فكانت ألحان مثل “قوم يا مصري، مصر دايما بتناديك.. خد بنصري، نصري دين واجب عليك”، وأغنية “بلادي بلادي بلادي… لك حبي وفؤادي”، وقودا لثورة شعبية حقيقية، وانحيازا لصفّ البسطاء وعامة الشعب.

ورغم بساطتها فقد مثّلت ألحان درويش دراما حقيقية، فكان يسمع حكايات الشارع المصري ويصيغها بألحانه، فهذه مثلا أغنية “يا عزيز عيني أنا بدّي أروّح بلدي … بلدي يا بلدي والسلطة خدت ولدي” كانت ترجمة للحكايات المتداولة في الشارع المصري عن ممارسات الإنجليز في تجنيد شباب مصر على جبهات القتال الإقليمية، أو جلبهم للعمل بالسخرة في قناة السويس.

 

ومع نهاية الحرب العالمية الأولى أواخر العقد الثاني من القرن العشرين، عاشت مصر أحداثا مهمة، إذ اشتعلت ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني، وشارك سيد درويش في الثورة من الباب الثقافي وعبر مسرحه الغنائي، حيث انطلقت مسيرته الحقيقية، فكان المسرح متنفَّسا للبسطاء، يقول سيد من خلاله ما يفهمه جمهوره المصري من مفردات الثورة، دون أن يتنبّه لها جنود الإنجليز.

لم يكن مستغربا أن تُستدعى أغاني سيد درويش وألحانه كلما التهبت الروح الوطنية لدى المصريين، فاستدعيت على مرّ الصراع مع الصهاينة، وفي ثورات الخبز والجوع أيام السادات، وفي ثورة يناير/كانون الثاني 2011، وفي كل المناسبات الوطنية التي تذكر المصريين بفنان الشعب سيد درويش، بل إن أغنية “قوم يا مصري” أصبحت بمثابة النشيد القومي لمصر في ثورة 1919.

يا بلح زغلول.. عبقرية سيد درويش في التحايل على جنود الإنجليز

تباينت آراء النقاد حول طبيعة سيد درويش، وما إذا كان يتفادى الصدام مع الإنجليز، وأنه كان يختار ألفاظ الأغاني بعناية حتى لا يثير حفيظتهم ضده، بينما يرى آخرون أن طبيعته كانت ثورية، يشارك في المظاهرات بنفسه، ويلهب حماس الجماهير بأناشيده، ولا أدلّ على ذلك من أغنية “أحسن جيوش في الأمم جيوشنا” التي كان يستمع إليها الجنود الإنجليز وهم يجلسون في قاعة المسرح ببنادقهم.

بعد نفي سعد زغلول، وضع سيد درويش أغنيته “يا بلح زغلول” منشورا سياسيا يتداوله المصريون دون خوف

كان لسيد درويش من الروح الوثّابة والطبيعة الثورية ما جعله يشيد بجيش بلاده ورجالها المتميزين في كل مضمار، وليس شرطا أن يكون المعنيّ هنا القوات المسلحة النظامية، ولكنه يتحدث عن الجموع الشعبية الثائرة ضد الاحتلال، والرافضة لممارسات السلطة الموالية له، الأمر الذي تنبهت له قوات الاحتلال، ففرضت الأحكام العرفية، وكممت الأفواه واعتقلت الناشطين والكتّاب والفنانين.

 

شددت سلطات الاحتلال الخناق على الحراك الشعبي لإخماد الثورة، فنفت سعد زغلول ورفاقه، وجرّمت الهتاف باسمه، لكن درويش استطاع التحايل على القمع والتضييق، فجاءت أغنيته “يا بلح زغلول” منشورا سياسيا يتداوله المصريون دون خوف من عقاب المحتل، فقد هدته عبقريته إلى المزاوجة بين اسم زغلول وبين منتج مصري يعرفه المصريون جميعا وهو البلح الزغلول.

صوت الكادحين.. تقارير موسيقية تجاري يوميات الناس

عكست أعمال سيد درويش مطالب الطبقات الكادحة، وكانت صوتا للجماهير المحتشدة في كل ربوع مصر، ولتتحول أعماله مع احتدام الثورة لتقرير يومي يجاري هموم الناس ويسجل يومياتهم، فعند انقطاع المياه يغني لهم عن الماء، وإذا منعوا القطارات من الأقاليم غنّى للسكة الحديد: “عمركش سمعت الدلنجات.. بيسافروا لها بالباسبورتات”، في إشارة إلى تقطيع أوصال القطر المصري للسيطرة عليه.

منع المحتل البريطاني بإثر ثورة 1919 القطارات من السير إلى الأقاليم فغنّى درويش لسكة الحديد

كانت ثورة 1919 شعبية بامتياز، فقد شاركت فيها كافة أطياف الشعب، بمن فيهم الموظفون، وكانت الحكومة المصرية آنذاك مرهونة بيد المحتل البريطاني، فقطعت رواتب كثير من الموظفين الذين شاركوا في الثورة، ولذا جاءت أغنية “هزّ الهلال يا سيد” التي يقول فيها: “حدّ الله ما بيننا وبينك غير حب الوطن يا حكومة”، لتفضح عَمالةَ الحكومة المصرية للاحتلال، وبُعدها عن حب الوطن.

كان من مبررات الاحتلال البريطاني لمصر حماية المسيحيين الأقباط، ولذا فقد تنبّه سيد درويش لهذه المسألة، وركّز في أدبيات 1919 على الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي أيما تركيز، وذكّر المصريين على اختلاف طوائفهم أن السمّ الناقع يكمن في كلام المحتل المعسول، فجاءت أغنيته: “دخل ما بيننا اللي موقَّعنا.. في بعضنا وراح لك متصدَّر.. فقسنا لعبته واتجمّعنا.. لا يضيع شرفنا الله لا يقدَّر”.

“أهو دا اللي صار”.. لهيب الكلمات يشعل ثورة يناير

مضى سيد درويش يشحذ همم الناس للنضال بأغانيه وألحانه، ويستقوي بها على مخططات الإنجليز الرامية لإشاعة الإحباط والخوف، وتوَّج نضاله بأغنية “أهو دا اللي صار” لتكون واحدة من أهم أعماله إلهاما لحراك الشارع المصري المناهض للاحتلال، ولتبقى صالحة للتعبير عن مشاعر المصريين في مواجهة الظلم أينما تجدد.

وعلى الرغم من أن لحنها جاء هادئا منسابا، فإن كلماتها توحي بالعزيمة والإعداد والتدبير، وهذه حيلة جديدة ابتدعها درويش في تغليف أغانيه بما يحيّر الأعداء، ويصل واضحا لأبناء البلد:

 

أهو دا اللي صار وآدي اللي كان.. ملكش حق تلوم عليّا

تلوم عليّا ازّاي يا سيدنا.. وخير بلادنا ماهوش في إيدنا

قوللّي عن أشياء تفيدنا.. وبعدها بقى تلوم عليّا

لقيت هذه الأغنية صدى واسعا، ليس في مصر وحدها، بل على امتداد رقعة الوطن العربي زمانا ومكانا، حتى إنها كانت من أكثر الأغنيات حضورا في ميدان التحرير، إبان ثورة يناير 2011 المجيدة.

“لك حبي وفؤادي”.. نشيد قومي تصدح به حناجر النيل

تبقى الأفكار العظيمة عالقة في أذهان الناس ووجدانهم، ولذا تجد أن أغنية مثل “بلادي بلادي بلادي.. لك حبي وفؤادي” قد خلّدها التاريخ حتى أصبحت النشيد القومي لمصر، وقد استوحى سيد درويش كلمات الأغنية من استهلالات خطابات الزعيم الوطني مصطفى كامل، وأطلقها احتفاء بعودة الزعيم سعد زغلول من المنفى.

 

مصر يا أم البلاد.. أنتِ غايتي والمراد

وعلى كل العباد.. كم لنيلك من أيادِ

لم يقتصر الدور الوطني لسيد درويش على الكلمات الوطنية التي تضمنتها أغانيه، بل أيضا على الفئات المستهدفة، فبدل أن يكون الغناء مصروفا للحبيب، ولعيون المها، وللقمر والليل، أصبحت الأغاني تخاطب الطبقات المسحوقة في المجتمع، بحيث يشعر البسطاء من العمال والحرفيين، وحتى الشحاتين أن هذه الأناشيد مصروفة لهم.

“مصرنا وطننا.. سعدنا أملنا”.. يتيمة غاب صاحبها عن حفل ميلادها

كانت التحضيرات على أشدّها لاستقبال الزعيم سعد زغلول ورفاقه العائدين من المنفى، وقد أبى سيد درويش إلا أن تكون له بصمته الخاصة على هذه المناسبة الوطنية العظيمة، فألّف أغنية “مصرنا وطننا.. سعدنا أملنا”. لكنه مات قبل أن ينشدها بنفسه في الاستقبال، فذاع صيت الأغنية على ألسنة الناس، حتى أن سعد زغلول سأل عن صاحب هذه الأغاني الجميلة، فأجابه الناس: إننا ندفنه الآن.

لاقت أغاني سيد درويش حضورا قويا في ميدان التحرير إبان ثورة يناير 2011

رحل سيد درويش وهو ابن 31 عاما، وترك خلفه تراثا فنيا زاخرا وأعمالا ما زال الفنانون والمبدعون يرددونها في شتى بقاع الدنيا، مات بعد أن نقل الغناء من قاعات النبلاء إلى الحارات والمقاهي وبيوت البسطاء، وبعد أن تحوّل بالفن من جالب للنشوة والترفيه، إلى ألحان تؤجج نار الثورة في قلوب المستضعفين.


إعلان