عدلي رزق الله.. ريشة الصعيدي الباريسي وفنان الهرم والبلورة

أهداه الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي أبياتا من قصيدة عنوانها “آيات من سورة اللون”، قال فيها:

قطرتان من الصحوِ

في قطرتين من الظلِّ

في قطرةٍ من ندي

تركب الريشةُ الريحَ في أثَر اللونِ

تلقطه ُشذرةً شذرة

من مسامير أحذيةِ الجندِ

من رهَجِ الذكرياتِ السحيقةِ

تدخل في إثره بطنَ أرْزةِ لبنانَ

تشتفّ نطفتَه المستكنَّةَ نَسْغا فَنَسْغا

وتجمع أشلاءَه حزمة حزمة

ثم تدعوه أن يتنفسَ

لكن سدى

قل هو اللونُ

في البدءِ كانَ

وسوف يكون غدا

أما هو فيقول عن نفسه إنه اختار الرسم لأنه كان يشعر أن حياته ارتكزت على شيئين فقط، هما الكلمة والرسم، فقد كان يبحث عن الجمال في كل شيء.

 

في هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة بصمات، سنتعرف على الفنان التشكيلي المصري عدلي رزق الله، الذي ولد في بلدة أبنوب الحمام عام 1939 في صعيد مصر لعائلة قبطية، وقد شكلت أجراس الكنائس وعيا مغايرا لديه.

دار الهلال.. عمل يحيي أحلام الطفل القابع بالأعماق

يصفه أصدقاؤه بأنه كان مزيجا من الصعيدي الشهم والشفاف، والرجل المتمدن الراقي الذي يرتدي بأناقة ويتحدث بهدوء.

بعد تخرجه عام 1961 من كلية الفنون، عمل في دار الهلال رساما للأطفال، وقد حركت هذه التجربة الطفل بداخله، وكانت نقطة الانطلاق والركيزة التي بنى عليها أعماله فيما بعد، كان هدفه أن تصل أعماله للناس، وأن يصلهم ذاك الطفل القابع بداخله.

عدلي رزق الله وزوجته سهير إمام

تعرف في دار الهلال على سهير إمام التي أصبحت زوجته فيما بعد، وكانت قد درست الفرنسية والترجمة، ثم التحقت بدار الهلال للعمل في مجال ترجمة القصص، كما عملت معه في إعداد السيناريوهات. تقول عنه السيدة سهير إمام: لقد كان شخصية غريبة، يحب الناس ويهتم بهم ويحب الأدب والفن، وكنا نذهب معا لحضور المعارض ولسماع الموسيقى في مكتبة الفن في وسط البلد، وقد قدم لي عالما جميلا.

كانت حياته تشبه الحلم الذي يخلق حياة جميلة وساحرة، كان حلمه أن يسافر إلى باريس، وقد تحقق له ذلك، فقد كانت تلك المدينة بالنسبة له بمثابة المتحف النابض بالفن، وحققت له حلمه الشغوف بالفن.

أراد أن يدرس كل شيء حوله، وقد سخر حياته لذلك، فكانت رحلته إلى باريس رحلة تعلم بامتياز، في كل صباح كان يخصص وقتا لزيارة أحد المتاحف، ويداوم على زيارته أسبوعين ثم ينتقل إلى متحف آخر.

حضانات الأطفال.. رسومات مصرية تزين الجدران الفرنسية

رسم عدلي رزق الله أول لوحة في فرنسا عام 1971، إذ طلب منه أن يرسم لمجلة أطفال، وقتها لم يكن يتحدث الفرنسية ورسم دائرة ومربعا ومستقيما، وهي فكرة كان قد أنجزها للتلفزيون المصري مع شخصيتين صغيرتين متحركتين مثل صور متلاحقة، وفي كل مرة كان يوصل فكرة معينة من خلال الخطوط.

وعندما رأى رئيس مجلة “أوكبي” ذلك سأله إن كان قد درس الرياضيات الحديثة، لكن عدلي في الحقيقة لم يدرس الرياضيات الحديثة، وإنما هي من وحي خياله، أعطى رئيس المجلة اسما للشخصيتين “ماتيماتيك” (Mathématiques)، وتعني الرياضيات بالفرنسية، وانتشرت تلك الرسومات في فرنسا لدرجة أن مبيعات المجلة ارتفع جدا.

مربعات ودوائر كانت أبطال القصص المصورة بالفرنسية والتي كان عدلي رزق الله يرسمها

كان السبب هو أن حضانات الأطفال كانت تقص تلك الصور وتلصقها كجداريات ويضعون عليها أسماء الأطفال، لكن عدلي كان يتمنى أن تكون تلك الأسماء لأطفال مصريين، قرر بعدها العودة إلى مصر بعدما مكث في فرنسا 12 عاما.

قالوا عن فنه: ثراء فادح من دفء البدن وحرارة الروح، تمتزج فيه الأطراف والحواس إلى وجود وحقيقة الحياة، ولا يمكن العبور من لوحة إلى لوحة، لأن لكل لوحة أبوابا على طرقات لا تنتهي، اللون يصنع اللمس، واللمس يصنع الرؤية، ومنهما تتحقق قرابة لا راد لها.

عند عودته إلى مصر قرر التفرغ للفن، وكان هذا غريبا فيها، ثم اشترى بيتا كانت له حديقة وقد ارتبط بها كثيرا، فكانت تشكل عالمه الخاص، يزرع ويقطف الأزهار، وعندما يكتب يكتب بحديقته التي قضى بها الكثير من وقته، وقد شكلت الطبيعة جزءا من حياته التي توصله بالكون، كان حلمه أن يمتلك أرضا، وذلك لأنه تربى بالصعيد بين أشجار النخيل والخضرة، وطوال حياته أراد العودة من حيث أتى.

“العب العب العب وتعلم”.. تسلية تحمل في طياتها مفاتيح العلوم

كانت تربط عدلي زرق الله علاقات قوية بالمثقفين والأدباء أكثر من الفنانين، وكان يحب الناس ويستطيع التعامل مع أطياف المجتمع كافة، وكان رحب الصدر، وكان جلوسه في المقهى محطة مهمة في حياته، فله هناك عدد من الأصدقاء الذين يشاطرهم لعب الطاولة والأحاديث، ويصفه صديقه العم إسماعيل بأنه كان خفيف الظل ومتواضعا ويحب الناس.

يقول عن نفسه: لو توقف الطفل الذي بداخلي، فلن أستطيع أن أقدم فنا تشكيليا حقيقيا.

على خطى والدها، تتابع ابنة عدلي رزق الله التعليم باللعب التي بدأه والدها

 

 

أما مشروع “العب العب العب وتعلم”، فتقول عنه ابنته تمر إنه من أهم المشاريع التي كانت تؤرقه، وهو سلسلة كتب عملها رسما وكتابة، وهو مشروع تعليمي متكامل يعتمد على التعليم من خلال الرسم واللعب.

لقد كانت سلسلة مبهرة من الكتب برؤيتها الفنية وألوانها المائية، وأقامت ابنته تمر ورشات عمل، استكمالا لمشروع والدها، مستلهمة تجربته وخبرته في هذا المجال، وحريصة على إبقاء الشكل والقالب الذي أراده عدلي رزق الله.

حديقة الزهور.. إلهام فني مبهر من وحي الطبيعة

كان للفنان عدلي رزق الله مجموعة من الأعمال، ومنها “زهور المحيا” التي استوحاها من حديقته وزهورها، وقد استخدم الألوان المائية في رسم الزهور التي تتسم بالشفافية والرقة والعذوبة، وفي استجلاء هذه الأبعاد استخدم الألوان المشرقة والمبهجة، وكسر النسب داخل الصورة.

ومن أعماله أيضا “الهرم” و”البلورة”، وقد اختار في “البلورة” الخطوط المتكسرة والتدرجات اللونية بحرفية عالية، حتى سميت بلورات عدلي رزق الله، لم يكن يقدم تصويرا انعكاسيا فوتوغرافيا للموجودات، بل يعتمد أسلوبه على اكتشاف المكنونات النفسية.

لوحات ناطقة رسمها عدلي رزق الله تتيه في وصفها المبدعون

وقد اعتمد على بياض اللوحة نفسه، ومن الصعوبات التي تواجه الرسامين في استخدام الألوان المائية أنه لا يمكن تدارك الأخطاء أثناء الرسم أو إعادة رسم الخطوط، لكن ريشة عدلي كانت بارعة ورشيقة وخطوطه واضحة وأنيقة، ويعد عدلي رزق الله أحد أهم رسامي الاوكريل على مستوى العالم.

عندما حانت ساعة الفراق أراد عدلي رزق الله أن يجمع أصحابه وأحبته ليراهم لآخر مرة، كان يدرك صعوبة وضعه الصحي وطلب من صديقه شعبان أن يجمعهم.

توفي عدلي رزق الله إثر إصابته بمرض السرطان عام 2010، أما على الصعيد الفني فستنتظر مصر سنوات طويلة حتى تعثر على فنان بحجمه، فقد كان فنانا كبيرا من طراز رفيع.


إعلان