جان لوك غودار.. رحيل مخرج الفوضى والفلسفة والسياسة

بلال المازني

في الثالث عشر من سبتمبر/أيلول الجاري، كتب “ميشال إلتشانينوف” الصحفي الفرنسي المتخصص في الفلسفة، نصا في “مجلة الفلسفة” استحضر فيه لقاءه قبل 30 عاما في موسكو مع السينمائي الفرنسي الراحل “جان لوك غودار”، وختم إلتشانينوف نصه بالقول: “على الرغم من سمعته السيئة، كان جان لوك غودار عبقريا طيّبا. حين ودعني أهداني سكينا سويسرية رمادية، احتفظت بها لسنوات في جيبي، وكانت بمثابة تميمة، وأطلقت عليه صحبة أصدقائي اسم غودار. منذ فترة، فقدت تميمتي غودار، واليوم، فقدت غودار الآخر”.

كانت هذه الفقرة الصغيرة من أبلغ ما كُتب في نعي الناقد السينمائي والمخرج الفرنسي الذي توفي يوم 13 سبتمبر/أيلول الجاري، تاركا البصمة -ربما- الأهم في تاريخ السينما الفرنسية. فقد سلّط غودار قلمه في دورية “دفاتر السينما”، فكان بمثابة سكين حادة سلخ بها أفلام تلك الفترة وانطلق في موجة جديدة وضعت السينما الفرنسية تحت مجهر أكبر نقاد السينما.

 

خمس جمل فلسفية.. عبارات صنعت فن غودار

في حوار مع موقع “ميديابارت” الفرنسي، قدم جان لوك غودار جواهر عبقريته الخمسة، وهي جُمل لخمسة كتّاب طُبعت في نفسه وحفظها بعناية.

يقول غودار في حواره: “سأخبرك عن جملي الخمس التي لا تزال في ذاكرتي، والتي أكررها في المساء لأرى ما إذا كنت لا أزال أتذكرها. أول جملة كتبها الكاتب الفرنسي جورج برنانوس، وهي أن الخوف هو ابن الله، وهو لا يخطئ، ورغم آلامه يشفع للإنسان. إنها عبارة يمكن أن ترتبط بشكل جيد بفرنسا التي تعيش الخوف اليوم. أما الجملة الثانية، فهي للفيلسوف الفرنسي هنري برغسون وهي عن المعرفة. والثالثة للفيلسوف الفرنسي كلود ليفورت عن الديمقراطيات الحديثة المنفصلة عن الفكر والتي تهيئ للشمولية. أما الجملة الرابعة فهي للكاتب الألماني إلياس كانيتي الذي قال إننا لسنا حزينين بما يكفي لنجعل العالم مكانا أفضل. والجملة الخامسة التي تلهمني هي للروائي الفرنسي ريموند كوينو الذي يقول إن كل الناس يعتقدون أن اثنين مع اثنين تكون نتيجتها أربعة ولكنهم ينسون سرعة الريح”.

غودار في مهرجان كان السينمائي سنة 1968

 

قد لا يمكن وضع الجمل التي طبعت ذاكرة غودار في مكانها المناسب لنتحسسها في أفلامه أو حتى في مقالاته، فهو اعترف بنفسه أنه لم يستوعب معنى الإدراك ولم يفهمه، لكنه في الآن ذاته جعل الفيلسوف ألان باديو -وهو أحد شخصيات فيلمه “الاشتراكية” الذي أخرجه سنة 2010- ينطق بمقولة هنري برغسون عن المعرفة.

التيه في أوروبا.. عدم الاستقرار الذي صقل موهبة غودار

 بنى جان لوك غودار أسس مسيرته مما نهله من الفلسفة والأدب، وكان ذلك منذ سن مبكرة. لكن الأساس الأول هو العائلة وعدم الاستقرار، فقد قضى جزءا من حياته في ترحاله بين فرنسا وسويسرا من جهة، وبين ترحاله من مأساة مرض أبيه إلى انفصال والديه من جهة أخرى، واختلس دعائم هويته السينمائية من مكتبة جده التي كانت بمثابة مشتل صغير لكبار الكتاب الفرنسيين، ومن دور ونوادي السينما التي ارتادها وخيّرها على تحصيل شهادة جامعية.

وُلد جان لوك غودار في باريس عام 1930، وكان والده طبيبا، غادر فرنسا صحبة عائلته إلى سويسرا بحثا عن الأمن، لكنه ظل يتنقل بين جنيف وباريس حيث يقيم الجد. لم تكن طفولة جان لوك غودار استثنائية، فقد كان مثل كل أطفال الحرب، حيث عاش خلال فترة أشرس الحروب التي شهدها التاريخ.

جان لوك غودار رفقة الممثلة أنا كارينا التي شاركت معه في عدة أفلام

 

فلم يكن عمره قد تجاوز العشر سنوات حين اضطر إلى الهروب إلى بريطانيا في أوج الحرب العالمية الثانية، بعد أن احتلت القوات النازية فرنسا فيما يعرف بمعركة فرنسا في العام 1940، قبل أن يخوض رحلة أخرى من بريطانيا إلى سويسرا عبر فرنسا، ليواصل دراسته في معهد نيون حيث أنهى دراسته الثانوية ثم عاد إلى باريس لاجتياز امتحان البكالوريا، وكانت عودته فاصلة مهمة في حياته، ففي تلك الفترة أصيب والده بمرض عصبي أجج الخلافات بينه وبين عائلة زوجته وانتهت بانفصالهما. لم يتجاوز جان لوك حينها الثامنة عشرة من عمره، وكان قد اكتسب عادة جديدة هي السرقة.

طفل منبوذ.. غودار سارق الكتب المغضوب عليه

يقول الناقد السينمائي أنطوان ديبايكي الذي كتب سيرة جان لوك غودار: “ثم كانت فضيحة شارع راسبايل حيث سرق الفتى الصغير الطبعات الأولى من كتاب الشاعر بول فاليري من مكتبة جده، وهو صديق وسكرتير خاص للشاعر فاليري. كان جان لوك يسرق الكتب النادرة من مكتبة جده ويبيعها لمكتبة غاليمارد قبالة المنزل قبل أن يكتشف جده ذلك في العام 1947 لتكون عقوبته على النحو التالي: طُرد جان لوك غودار من عائلة مونود بسبب تدنيسه لأعمال معبود العائلة وهو بول فاليري، وكان طرده مثل طرد مرتد كفر بمملكة آلهة الأدب، وحُرم من الميراث وكان قد أثر ذلك فيه كثيرا”.

غادر الطفل المنبوذ باريس، وأثار طرده من مملكة جده الثري زخما من الألم مصحوبا بقدرة بديعة على التعبير عن ذلك الألم في كتيّب هاجم فيه البرجوازية والعائلة حمل عنوان “دائرة العائلة أو انطباعات شاملة”، في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 1947.

واحدة من آخر صور غودار قبل وفاته عن السن 91

 

يقول أنطوان ديبايكي: إن الكتيّب الذي كتبه غودار كان تعبيرا صارخا عن ألمه وغضبه تجاه الأسرة، لكنه كان أيضا شبيها بالخواطر الفلسفية.

ويضيف: “كان الكتاب مجموعة من المواد المرئية والمكتوبة، بما في ذلك المحاكاة الساخرة والاقتباس، والتي تتمحور حول موضوع شخصي ومسألة فلسفية، وكان ذلك الكتاب غنيا بطبيعة الحال بالعديد من الأفكار الملهمة التي جسدها غودار في أعماله لاحقا”.

فشل جان لوك غودار في تحصيل شهادته الجامعية ورفض إيجاد عمل يستجيب لمقاييس الاحترام لدى المجتمع، وبدا ذلك الفشل أحد علامات تمرد غودار خاصة أن سلوكه كان حادا وعنيفا.

يقول كاتب سيرته الذاتية: “تظهر أعراض التمرد لدى غودار من خلال رفضه البحث عن مهنة محترمة، وميله إلى السرقة، كان يعيش حياة شبه بوهيمية في باريس وجنيف، ولكن الأهم كان انجذابه الجارف إلى السينما، وهو شغف قاده لاحقا إلى الدخول في عالم ثقافي ومهني بعيد عن محيط عائلة مونود وعن الأخلاق البرجوازية لأبيه الطبيب بول غودار”.

خطّت القطيعة مع عائلة أمه بعد طرده من العائلة طريق جان لوك غودار الذي كان فتى مضطربا وصعب المراس، حيث حمل فأسه وكسر علاقته بعائلته واستدار ليكسر كل التقاليد، واحتفظ بتلك الفأس لتكون آلته في الكتابة النقدية التي كان حافزها توليفة ذاتية وفلسفية.

دفاتر السينما.. الأوراق الأولى لأفكار غودار المشوشة

بين عمر العشرين والاثنين والعشرين عاما، أهمل جان لوك غودار دراسته بجامعة السوربون في اختصاص الإثنولوجيا. يقول غودار في كتاب “غودار أون غودار” إنه ارتاد نوادي سينما الحي اللاتيني بباريس بانتظام أكثر من ارتياده جامعة السوربون، وفي تلك النوادي التقى بالمخرج إيريك رومير وجاك ريفات وآخرين ممن أسس معهم دورية “جريدة السينما” التي نشر فيها مقالات كثيرة عام 1950، أمضاها باسمه أو باسم “هانس لوكاس” وهو اسم مستعار، قبل أن ينضم للكتابة في دورية “دفاتر السينما” في شهر يناير من العام 1952.

 

بدأ غودار يجسد شغفه بالسينما خلف الكاميرا وأمامها، فقد خاض تجربة التمثيل في فيلم “رقصة الكادريل” (le quadrille) الذي أخرجه صديقه جاك ريفات في العام 1950، وفي فيلم “شارلوت وشريحة اللحم” (Charlotte et son steak) الذي أخرجه إريك رومير في العام 1951.

يقول غودار في حوار أجرته معه دورية “دفاتر السينما” متحدثا عن الطريق الذي عبده له النقد السينمائي للوقوف خلف الكاميرا وصناعة الأفلام: “كنا جميعا في المجلة نرى في أنفسنا مخرجين في المستقبل. كان التردد على نوادي السينما ومكتبات السينما بالفعل طريقة للتفكير في السينما والكتابة عنها. كانت الكتابة طريقة لصنع الأفلام، لأن الاختلاف بين الكتابة والإخراج هو كمي وليس نوعيا”.

ويذكر كتاب “غودار أون غودار” أن دورية دفاتر السينما كانت تُحتضر، وأن “ظهور أكثر نجومها ثورية وهم فرانسوا تروفو وجان لوك غودار قد أدى في الواقع إلى تنشيط هذه النشرة المحتضرة. علاوة على ذلك فإن دفاتر السينما قدمت الكثير لتعبيد الطريق لنجاح ما يسمى بالموجة الجديدة بعد عام أو عامين.

لكن غودار لم يكن أهم نقاد جيله، ولم يستطع أحد أن يفهم في ذلك الوقت إلى أين يقود تنظيره أو حتى ما إذا كان يقود إلى أي مكان.

بالنسبة لتلك المقالات الأولى التي كتبها كانت إلى حد كبير مشوشة ومنظمة بشكل سيئ، غير أن غودار اصطف إلى جانب الجناح الأيسر في الدورية والذي يضم رومير وريفات ضد مواقف أندريه بازين أحد مؤسسي المجلة الأوائل، ولاح أسلوبه الذي هدم به كلاسيكيات الإخراج في مقال بعنوان “المونتاج عنايتي الراقية” الذي نشره عام 1956، وكتب فيه أن المونتاج عملية غير منفصلة عن عمل المخرج، وهو نظرية متماهية حتما مع نظريات ما يعرف بالموجة الجديدة في السينما الفرنسية التي استمرت قرابة عقد من الزمن.

موجة السينما الجديدة.. وسيلة غودار للاحتجاج على العالم

في نهاية خمسينيات القرن الماضي، ظهرت حزمة من الأفلام الفرنسية عُرفت لدى النقاد بما يسمى “الموجة الجديدة”، واستمرت تلك الموجة عقدا من الزمان، وكان جان لوك غودار ضمن سينمائيي تلك الموجة التي لم تكن تيارا منظما بقدر ما هو طابع خاص طُبعت به أفلام فرنسية في تلك الحقبة وظهرت فيها ملامح السينما الواقعية الإيطالية والسينما الكلاسيكية في هوليود، وارتبط سينمائيو تلك الموجة بأساليب متمردة على التقاليد واتبعوا أساليب راديكالية في “التحرير والسرد التصويري باعتباره قطعا مع النموذج المتعارف عليه في صناعة الأفلام”. هناك قام غودار بتأليف قصة فيلمه “لتعيش حياتها” (vivre sa vie)، كما كان هو كاتب سيناريو الفيلم، وهو من قام بعملية المونتاج أيضا.

غودار من مقر مجلة دفاتر السينما

 

يقول غودار في حوار له مع دورية “دفاتر السينما”: “علّمنا النقدُ أن نعجب بكل من المخرجين جان روش وديفد أيزنشتاين، ومنه تعلمنا ألا ننكر جانبا من السينما لصالح جانب آخر. ومنه تعلمنا أيضا صناعة الأفلام من منظور معين، ومعرفة أنه إذا تم اختبار تجربة ما فلا فائدة من القيام بها مرة أخرى”.

يقول جان لوك غودار في دفاتر السينما: “بصفتي ناقدا، كنت أعتبر نفسي دائما صانع أفلام. اليوم ما زلت أفكر في نفسي كناقد أكثر من أي وقت مضى، فبدلا من كتابة مقالات نقدية أصنع فيلما لكن يتم تضمين البعد النقدي فيه. أفكر في نفسي ككاتب مقالات، وأنتج مقالات في شكل رواية أو روايات وأقوم بتصويرها بدلا من الكتابة.. هناك استمرارية واضحة بين جميع أشكال التعبير”.

يؤمن جان لوك غودار بالنظرية التي يتبناها سينمائيو الموجة الجديدة في فرنسا، حيث يعتبر أن المخرج هو مؤلف أفلامه، وهو عمليا تصوير مجسد لأغلب ما كتبه السينمائيون في مجلة “دفاتر السينما” وتجسيد للفلسفة التي دافعوا عنها في مقالاتهم ضد السينما التجارية أو حتى منها الكلاسيكية المتحجرة، وضد السينما السردية المباشرة التي تبنتها السينما الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية. كان تيار الموجة الجديدة تمردا خالصا على أساليب الماضي المقتبسة عن البنية التقليدية للسرد والرواية، وتتبنى مبدأ الإنتاج بميزانية صغيرة.

يقول جان لوك غودار مجيبا على سؤال ما إذا كان سيقبل بتمويل لفيلم “لتعيش حياتها” الذي أخرجه في العام 1962، بما قيمته 100 مليون فرنك فرنسي: “لن أقبل ذلك أبدا، وما الذي سينفع الفيلم إذا قبلتُ تلك الميزانية، أرفض إنتاج فيلم بـ100 مليون فرنك في الوقت الذي لا أحتاج فيه إلا إلى 400 ألف فرنك”.

تدين حركة الموجة الجديدة لجان لوك غودار الذي عرف بها بعد أن أخرج فيلم “منقطع الأنفاس” (A bout de souffle) في العام 1960، والذي جعل تلك الموجة تحت مجهر النقاد.

أفلام غودار.. ميزانية صغيرة وديكور واقعي

في بداية الخمسينيات، بدأ جان لوك غودار بإنتاج أفلام قصيرة، وكان من أول أفلامه فيلم وثائقي عن عملية بناء سد هريمينانس السويسري، فقد كان غودار يرى أن الأفلام الوثائقية هي الأصدق وأقرب مجال تعبيري للواقع، كما أخرج فيلما بعنوان “امرأة جميلة” (une femme coquette) مستوحى من رواية “الإشارة” للروائي غي دو موباسان، وكان ذلك الفيلم ضمن خماسية الأفلام القصيرة التي أخرجها غودار في خمسينيات القرن الماضي، قبل أن يخرج فيلمه “منقطع الأنفاس” في العام 1960 الذي حلق به عاليا.

 

يقول غودار عن فيلمه “منقطع الأنفاس” الذي يروي جريمة قتل شرطي على يد شاب ينتهي به المطاف مقتولا بدوره: “هو نوع من الأفلام حيث يمكن دمج أي شيء، قلت في نفسي هناك نوع من السينما يقترب للتو من نهايته، لذلك دعني أضيف اللمسة النهائية، ولنُظهر أن كل شيء سينتهي ويمضي”.

وكتب جان فليب تيسيه في دراسة له بعنوان “جان فيليب غودار”: فيلم منقطع الأنفاس كان جان لوك غودار -الذي كان آنذاك ناقدا سينمائيا يبلغ من العمر 29 عاما- ثورة بجميع نواحيها، ثورة فنية، ولكن قبل كل شيء ثورة بالحرية التي يدّعيها وبالأسلوب الذي يتبناه.

غودار رفقة ممثلي فيلم منقطع الأنفاس

 

بلغت ميزانية الفيلم 45 مليون فرنك، أي أقل من نصف متوسط ​​إنتاج فيلم أمريكي عادي، حيث طبق غودار أساليب مؤلفي أفلام الموجة الجديدة، وأنتج فيلمه بكلفة قليلة جدا، وفريق تقني مخفض، ومشاهد  طبيعية، وكاميرات صغيرة مقاس 35 ملم،  واستغل مرور موكب الرئيس أيزنهاور والرئيس الفرنسي ليصور أحد مشاهده.

ويصف جان فيليب تيسيه فيلم “منقطع الأنفاس” بالقول: “هو إصلاح لقواعد  السينما، بما في ذلك السرد، لدرجة أنه يبدو من الصعب التحدث عن قصة بالمعنى المعتاد لفيلم ما، حيث عمل غودار على خرق قواعد السرد في فيلمه الذي تلاعب بالتوقعات وبرموز الإثارة، حتى بدا فيلما تسجيليا”.

حصل غودار على جائزة الدب الفضي لأحسن مخرج عن فيلمه في مهرجان برلين في العام 1960، وقاده ذلك النجاح إلى ترسيخ أساليب الموجة الجديدة في أفلامه التي تلت مثل فيلم “قصة الماء”( une histoire d’eau) الذي صوره عام 1961، مستغلا الفيضانات التي ضربت باريس في ذلك العام، وصور فيها الفيلم بقدمين غارقتين في الماء.

الجندي الصغير.. مغامرة غودار في السينما السياسية

يقول غودار في حوار له مع “دفاتر السينما”، إنه أراد استكشاف الواقعية من خلال فيلم “الجندي الصغير”، ويضيف: “لقد نبع الفيلم من فكرة قديمة وهي الحديث عن غسيل الدماغ، لكن الأحداث في الجزائر جعلتني أغير الفكرة من غسيل الدماغ إلى التعذيب، وهو عبارة عن شهادة تاريخية لتلك الفترة، لكنه غير منحاز سياسيا. لطالما واجهتْ الموجة الجديدة اتهامات بأنها لا تصور شيئا خارج الفراش، وهو فيلم يصور ممثلين ناشطين سياسيا لا وقت لهم للبقاء في الفراش. لقد صورت الفيلم استنادا لتجربتي الخاصة ولأحاسيسي. لقد كان مصدر قلقي مشكلة الحرب وتداعياتها الأخلاقية. لذلك أنا أصور رجلا يقع في الكثير من المتاعب، ولا يعرف كيف يحلها”.

 

 

يقول بنجمين ستورا في دراسة بعنوان “الجندي الصغير.. غودار أو ضبابية حرب” نشرها في مجلة تاريخ أعالي البحار الفرنسية: إن الأحداث في العام 1960 كانت تتصاعد بشكل كثيف، فقد كانت فرنسا تواجه مقاتلي جبهة التحرير الجزائري، وفي يونيو 1960 فشلت المحادثات مع الجزائريين، وكان ذلك العام هو الفترة الحاسمة لقرار نهائي للاحتفاظ بالجزائر أو التخلي عنها، لذلك منعت فرنسا غودار من عرض فيلمه بما في ذلك خارج فرنسا.

صنع غودار فيلمه “الجندي الصغير” دون أن يقدم سيناريو للممثلين. تقول الممثلة أنا كارينا بطلة الفيلم: “طلبت من غودار أن يحدثني عن الفيلم فأجابني أنه لا يوجد سيناريو له وأنه فيلم سياسي، فأجبته فيلم سياسي؟ أنا لا أفقه شيئا في السياسة الفرنسية. فطمأنني قائلا إنني يجب أن أفعل ما يطلبه مني”.

السينما السياسية تصعد عاليا بغودار ثم ترميه

طيلة ست سنوات، أخرج غودار 11 فيلما حملت جميعها نفسه الملتهبة بالجرأة وبالتجديد، وواصل تصوير قصص أفلام سياسية مثل فيلم “قوات الدرك” (Les carabiniers) في العام 1963، وفيلم “بييرو المجنون” (Pierrot le fou) الذي يروي قصة رجل هرب من منزل الزوجية صحبة جليسة أطفاله ليدخل في دوامة قصص عن تهريب السلاح والمؤامرات السياسية، وفيلم “الصينية” (La chinoise) الذي أخرجه عام 1967 ويروي قصة خمسة أشخاص قضوا عطلتهم داخل شقة استأجروها وهم من مختلف الاختصاصات، فأحدهم مختص في الفلسفة وآخر رسام قادم من الاتحاد السوفياتي وثالث فرنسي من الحزب الاشتراكي.. وتدور القصة حول حياتهم في الشقة.

 

في عام 1968 دخل جان لوك غودار في موجة أحداث سياسية هزت فرنسا، وبدا متشددا سياسيا، وأصبح مهمشا، وحاول إنتاج أفلام سياسية صحبة المخرج جان بيار غورين فيما يسمى بمجموعة “دزيغا فيرتوف” نسبة للمخرج السوفياتي الشهير دزيغا، وفي تلك الفترة لم تبث أفلامه إلا نادرا. وفي العام 1974 ابتعد عن السينما ليعمل في التلفزيون.

ومنذ نهاية الثمانينيات حتى عام 1998، كرس جان لوك غودار نفسه لكتابة مجموعة من المقالات بعنوان “تاريخ السينما”، حاول فيها رسم ملامح السينما، وتطلّب منه ذلك قرابة عقد من الزمان، وعاد لإخراج الأفلام في بداية الألفينيات.

لا يمكن بصراحة وصف أفلام غودار بدقة، ولا يمكن تصنيفه في خانة معينة، فأفلام غودار انعكاس ربما لفوضى داخلية فيها من الطفل الصغير والمتمرد والمجنون واللص والحر والفيلسوف. ورغم صعوبة تعريف غودار وأفلامه فإنه يبقى واحدا من أهم المخرجين في تاريخ السينما.