الشيخ القرضاوي.. مجدد القرن وإمام الوسطية

كان مجرى حياة الريف المصري يقتضي من الطفل اليتيم يوسف القرضاوي أن يكون فلاحا مفتول الساعدين تصبغه الأرض بسمرته، وتدور حياته بين البيت والحقل وبين الزرع والمحراث، غير أن الله قيض له في طريقه ذات يوم رجلا نصح عمه بأنه يوجهه للأزهر الشريف.

جادل العم بأن الطفل يتيم من أسرة فقيرة، والحقل أولى به كي يكسب قوته.

رد الرجل الغريب متسائلا: أنت فلاح.. هل أنت من يضمن للبذرة التي تدفنها في طين الحقل أن تنتج؟

أجاب العم: كلا.. إنني أتركها لله.

قال الرجل الغريب: وهذا الطفل بذرة من بذور القرآن.. اغرسه في أرض العلم واتركه لله.

كانت تلك المجادلة الحسنى المنعطف الأهم -ربما- في حياة يوسف بن عبد الله القرضاوي الذي ملأ بعد ذلك الدنيا وشغل الناس، وأنار دروب الحياة لملايين المسلمين في أنحاء متعددة من بلاد المسلمين ومهاجرهم، قبل أن يلقي عصا الرحلة الإيمانية التي استمرت 96 سنة، وانتهت ظهر يوم الاثنين 26 سبتمبر/أيلول 2022.

صفط تراب.. ربيب بيت إيماني فقير

في قرية “صفط تراب” تنسم القرضاوي نفحات الحياة الأولى في بيت إيماني مشرق، يكتنف الفقر والتعفف ساحته، ترتفع منه التلاوات والأذكار وتنزل فيه السواعد والأكف على الأرض شقا وحرثا وحصادا. ولم تطل رفقته لوالده الذي غادر الدنيا والقرضاوي يحبو في سنته الثانية لا أكثر، فكفله عمه وتولى تربيته، وأسلمه إلى كُتّاب القرية فحفظ القرآن الكريم وأتقن تجويده وهو في التاسعة من عمره.

ثم انطلقت مسيرته في الأزهر، فأكمل فيه المراحل الابتدائية والثانوية والجامعية التي تخرج منها بالشهادة العالية سنة 1953، قبل أن ينال لاحقا إجازة التدريس من كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر.

لطالما كانت قضية فلسطين هما شاغلا في قلب الشيخ المجاهد يوسف القرضاوي

ثم توالت الإجازات العلمية الكبرى تنثال على الرجل الذي نال دبلوم الدراسات العليا في اللغة والأدب، ثم حصل بعد ذلك على الماجستير في علوم القرآن والسنة من كلية أصول الدين عام 1960، قبل أن يكمل مساره الأكاديمي بعد ذلك سنة 1973 بشهادة الدكتوراه من الكلية ذاتها.

وفي غضون ذلك طوف القرضاوي في أنحاء متعددة من الوظائف الهامة، مشرفا على معهد إعداد الأئمة، ثم مشرفا وعميدا للمعهد الديني بدولة قطر ابتداء من سنة 1961، وتلك قصة أخرى من أهم وأرسخ فقرات المسيرة العلمية والدعوية للإمام القرضاوي.
ركْبُ الإخوان.. رحلة بين السجون والمنابر

التحق الشيخ يوسف القرضاوي بحركة الإخوان المسلمين مبكرا، ويذكر في أحاديثه المتلفزة أن بعض زملائه في ابتدائية الأزهر وثانويتها قرروا حضور درس للإمام الشهيد حسن البنا، فأراد أن يذهب معهم فاستصغروا سنّه، وقالوا له ربما تنام في الدرس، فتساءل مستنكرا “أأنام والشيخ حسن البنا يتحدث؟”، وكان ذِكْر البنا قد طرق يومها مسامع ذلك الفتى الصعيدي اليافع.

وبعد نقاش وأخذ ورد، خرج مع القوم، وعاد مفعما بحب البنا، منتشيا بكلماته، مميِّزا بينه وبين غيره من علماء ودعاة العصر، ومنذ ذلك الوقت ارتبط الفتى القرضاوي بود وحب إيماني راسخ بشيخه الإمام حسن البنا.

الإمام الشهيد حسن البنا شيخ الداعية المجاهد يوسف القرضاوي وملهمه في رحلته الدعوية والجهادية

لاحقا، اندمج القرضاوي في خلايا الإخوان المسلمين، وتدرج في قياداتهم العلمية، وأصبح مع الزمن عالمهم الأكبر وشيخ معارفهم الأسمى، دون أن يمنعه ذلك من أن يكتب للإسلام دون انتماء ضيق، وأن يهتم بالمسلمين دون تخصيص، ولذلك رفض مرارا منصب المرشد العام للجماعة، واختار أن يكون عالم المسلمين الأول، أو هكذا صنعت له الظروف وسارت به الأقدار وفيض القلم المدرار.

وقد نال الشيخ القرضاوي نصيبه غير منقوص من المحن، فكان من نزلاء السجون في مراحل متعددة من سنوات الجمر التي عاشها الإخوان في عهد الملكية والحقبة الناصرية، حيث سجن عدة مرات لانتمائه إلى الإخوان المسلمين.

وكان موعده الأول مع السجن وهو في الـ23 من عمره سنة 1949، وكان حينها طالبا في المرحلة الثانوية، ثم اعتقل بعد ذلك مرارا في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، وخصوصا خلال اعتقالات 1954 التي استهدفت جماعة الإخوان المسلمين، ومكث في السجن حينها 20 شهرا، ثم اعتقل مرة أخرى سنة 1963 قبل أن يفرج عنه، وينتقل للإقامة في قطر التي منحته جنسيتها لاحقا، ولعل ذلك هو المنعطف الثالث في حياة الإمام القرضاوي، بعد دراسته في الأزهر، وانتمائه للإخوان المسلمين.

بعد سنوات عجاف.. الفرار إلى قطر

وصل الشيخ القرضاوي سنة 1961 إلى قطر عميدا للمعهد الديني الثانوي، ثم أسس بعد ذلك -وتحديدا في العام 1973- قسم الدراسات الإسلامية في كليتي التربية للبنين والبنات بجامعة قطر، وبعد أربع سنوات أسس كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في الجامعة نفسها، واستمر عميدا لنفس الكلية حتى العام 1990، حيث ابتُعث إلى الجزائر عميدا ورئيسا لمجالس علمية متعددة، قبل أن يعود إلى بلده الثاني قطر ويتولى رئاسة مركز بحوث السنة والسيرة النبوية، وعضوية مجالس علمية متعددة.

أسس الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي سنة 2004 الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فانضوى تحته علماء العالم الإسلامي

وقد تربت على يد الشيخ القرضاوي أجيال من العلماء والدعاة في قطر، ومن مختلف جنسيات العالم الإسلامي ممن درس في جامعة قطر، أو حضر الدروس والأنشطة العلمية والدعوية التي أدارها الإمام الراحل طيلة 60 سنة من التربية والتعليم هناك.

وقد أحب القرضاوي قطر كما أحبته، فاختارها موطنا له، واستقر بها إماما ومدرسا وخطيبا، وأكبره أمراؤها وشيوخها، فكان لهم أخا كريما وناصحا صادق الولاء والانتماء.

وفي قطر أسس الشيخ القرضاوي وأدار عددا من المؤسسات المهمة، منها على سبيل المثال: رئاسة مجلس إدارة جمعية البلاغ الثقافية التي تتبع لها شبكة إسلام أولان لاين، كما تولى تأسيس ورئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

وإلى جانب ذلك نال الشيخ القرضاوي عضوية مجالس وهيئات علمية مهمة، مثل المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، وعضوية منظمة الدعوة الإسلامية، ومركز الدراسات الإسلامية بأكسفورد، كما حضر وحاضر في عشرات المؤتمرات الدولية في أنحاء متعددة من العالم الإسلامي.

ونال جوائز عديدة منها جائزة العطاء العلمي المتميز من الجامعة الإسلامية في ماليزيا، وجائزة السلطان حسن البلقية (سلطان بروناي) في الفقه الإسلامي، وجائزة الملك فيصل بالاشتراك مع صديقه المفكر الإسلامي الكبير سيد سابق، إضافة إلى جائزة البنك الإسلامي للتنمية في الاقتصاد، وجائزة الدولة التقديرية للدراسات الإسلامية من دولة قطر، وأوسمة وجوائز من بلدان ومؤسسات متعددة.

لكن التكريم الأكبر الذي ظل القرضاوي يعتز به هو ما وضعه الله له من قبول واحتفاء في نفوس المسلمين في مختلف أراضيهم، حيث كان دائما مرجعية الوسطية التي يأوي إليها المختلفون. وحتى المختلفون معه في بعض تفاصيل الفقه والسياسة؛ لم يستطيعوا غير الاعتراف له بجليل مكانته وجزيل علمه.

فقيه الدين والدنيا.. رائد الوسطية الإسلامية

عُرف الشيخ القرضاوي بوضع الأسس والمرتكزات الأساسية لفقه الوسطية، ويراه كثير من العلماء المسلمين رائد هذا المنهج الذي سار بين أشواك اللادينية والعلمانية وما يعرف بـ”التطرف الإسلامي”، وجابه في وقت واحد حركات التطرف اليسارية، وجبهات التطرف ذات الخلفية الإسلامية، لينتهي المطاف بكتبه ركنا أساسيا في المراجعات الفكرية التي جرت مع جماعات إسلامية مسلحة، وأنزلتها من صياصي العنف إلى ميادين التدافع السياسي، وأخرجت كثيرا من قادتها من ضيق الأفكار والسجون إلى سعة فضاء التأثير والقيادة المجتمعية والسجال الثقافي والعلمي حتى مع القرضاوي نفسه.

أكثر من 200 كتاب في الفقه والدعوة والوسطية والجهاد والسياسة حصاد ما ألفه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي

وإلى جانب تلك الوسطية، كان الشيخ القرضاوي إمام التيار الإسلامي والسند العلمي لمناضلي الحرية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، حتى وصفه البعض بـ”شيخ الربيع العربي”. فقد ساند ثورات الربيع التي وصفها بالثورات الإسلامية التي “نادت بمبادئ الإسلام وبأن يعيش الناس بحرية وكرامة”.

ولم يرضخ الشيخ القرضاوي لهجوم خصومه في هذه المسألة، معتبرا أن موقفه هو الموقف الطبيعي للعالم الذي هو جزء من أمته، ولا يجوز أن يكون العالم في واد والأمة في واد آخر، ومهمة العالم أن يبعث الأمة ولا يتركها فريسة للذئاب والمستبدين. ولذلك كان لا بد له أن “يتجاوب مع الأمة عندما بدأت ثورات الربيع العربي”.

قلم الفكر المدرار.. مكتبة بحجم الأمة

يعتبر الشيخ القرضاوي أكثر العلماء المعاصرين تأليفا، وأكثرهم أيضا مقبولية لما يكتب، فقد دخلت كتبه أغلب بيوت المسلمين، واصطفت في رفوف المكتبات الشخصية والأكاديمية في مختلف بلدان العالم الإسلامي والمهاجر.

وامتازت مؤلفات الشيخ بالشمول والتنوع، وبالغزارة العلمية وجمال الأسلوب ورشاقته ووضوح العبارة وقربها، وحكمها أيضا منهجه في التيسير، وأسلوبه التربوي الأخاذ.

جنازة مهيبة للإمام يوسف القرضاوي في الدوحة شارك فيها عشرات الألوف من أحبابه وطلابه

وقد عالجت كتب القرضاوي منذ كتابه الشهير “الحلال والحرام” مختلف جوانب واهتمامات الأمة الإسلامية فقها وتربية وسلوكا وسياسة واقتصادا، فكانت موسوعة امتدت عمقا في مختلف قضايا المسلمين، وترقت كثافة لتناهز مئة مؤلّف في شتى جوانب المعرفة.

وفي سيرة القرضاوي ورحلته مع الشريعة والحياة، عبرة وتاريخ وملامح عظمة، ومعالم إنجاز عبقة بالفقه والتضحية والبذل والعطاء، فالصبي اليتيم الذي نشأ في أسرة فقيرة من الفلاحين عاش قرابة قرن من الزمن، وتحول حلمه الصغير كي يكون فقيه قريته، ليصنع منه فقيه الدنيا ومجدد الدين وإمام المسلمين.